حكايات طبية.. عندما يفشل المنتحرون غسان حتاحت

  حكايات طبية.. عندما يفشل المنتحرون

في قسم الإسعاف في المستشفى يرى الطبيب المناوب عديداً من الحالات المختلفة، لعل من أشدها إيلاماً حالات المنتحرين الفاشلين، ذلك أن هؤلاء الناس قد بلغوا مرحلة من اليأس والاكتئاب جعلتهم يستغنون عن الحياة نفسها. ولا أقصد بالفاشلين أولئك الذين لم ينجحوا في الحياة، إنما أعني أولئك الذين فشلت محاولتهم الانتحار، لأن الناجحين منهم - وبئس النجاح هو - لا تكون علاقتهم مع الطبيب المعالج في قسم الإسعاف، بل تكون مع الطبيب الشرعي أولاً، ثم مع مكتب دفن الموتى أو ما يسمى في بعض الدول العربية الحنوطي (ويلفظ باللهجة المصرية العامية حانوتي)، وأخيراً مع حفار القبور، فضلاً عما بعد ذلك مما لا يعلمه إلا الله جلّ وعلا.

وخلال مدة تمريني في قسم الإسعاف كانت لي لقاءات أربعة مع منتحرين فاشلين، وكنت أتمنى لو استمر فشلهم جميعاً في الانتحار، إلا أنه "ما كل ما يتمنى المرء يدركه".

أحد هؤلاء جلب إلى غرفة الإسعاف بعد أن تناول بعض الأدوية السامة إثر ظهور نتائج فحوص الشهادة الثانوية، ولا داعي لأن أذكر أنه كان من الراسبين، وقد كان علاجه سهلاً لأنه أتي به في مرحلة مبكرة، فأجري له غسيل معدة ثم أبقي في المشفى يومين أو ثلاثة للمراقبة. قبل أن يرسل إلى بيته بعد أن تكيف مع صدمة الرسوب، وعرف أن حياة الإنسان أغلى من ذلك بكثير، وأن ثمة فسحة أمل مهما ضاقت الأحوال.

أما الثانية فكانت كنة تشاجرت مع حماتها، فظنت أن الدنيا لا تتسع لهما معاً، فآثرت الانسحاب ومغادرة الدنيا كلها، على أنه بسبب جهلها بطرق الانتحار الناجعة كان إسعافها سهلاً (حتى الانتحار له طرق ناجعة وأخرى فاشلة، وأكبر ضحية للقسم الأول من هذه الطرق هم الأطباء أنفسهم، إذ ليس أصعب من أن يحاول الطبيب الانتحار ثم يفشل فيه، ولذلك كانت نسبة نجاح الانتحار لدى الأطباء عالية جداً.. مع الأسف).

ونعود إلى الكنة وحماتها فقد انتهى خلافهما بالمصالحة والتصافي شأن خلافات الأطفال.

أما الثالثة فكانت جاهلة حقاً بطرق الانتحار إذ دفعها جهلها إلى اللجوء إلى أسوأ طرق الانتحار طراً، إذ صبت على جسمها الكاز ثم أشعلت عود كبريت، فأصيبت نتيجة ذلك بحروق شديدة مؤلمة جداً، استمر علاجها عدة أسابيع عانت المريضة خلالها من العذاب الشديد ما تقشعر لهوله الأبدان، قبل أن تسلم الروح. وكان أشد ما أثار الأسى أن سبب الانتحار كان خلافاً يسيراً جداً مع زوجها.

أما المريض الرابع الذي حاول الانتحار فكان شقيق إحدى الممرضات، وهي ممرضة كانت غاية في الإخلاص لعملها، غاية في حسن معاملة المرضى، وبذل أقصى درجات العناية واللطف في خدمتهم، ومن هنا كان شعور الجميع (الأطباء قبل المرضى) نحوها بالامتنان والاحترام، لذلك عندما جلبت شقيقها إلى غرفة الإسعاف فاقد الوعي مصاباً بالسُبات كان تأثر الجميع عظيماً، وعرفت منها أن هذا الشاب تناول عدداً مجهولاً من حبوب "فينوباربيتال" المنومة قبل عدة ساعات من اكتشاف ذلك.

وبكل حماسة الشباب ورغبتي في رد جميل هذه الممرضة على المشفى، أصدرت تعليماتي بتزويد المريض بالأكسجين، وإعطائه السوائل الوريدية التي أضيفت إليها مواد قلوية خاصة، كذلك بعض الُمدرّات (مانيتول). فضلاً عن المراقبة المشددة للضغط والنبض والتنفس، ومقدار السوائل المعطاة له والسوائل التي يفرغها، واتصلت بعد ذلك بالأستاذ المشرف، فلم يزد على هذا العلاج شيئاً.

ومكثت أراقب المريض ساعات متواصلة. وخلال ذلك ذكرت لي أخته أنه قام بمحاولة الانتحار لأن أهله عارضوا زواجه من فتاة معينة يريدها، وشعرت بالرثاء لهذا الشاب الذي يعيش عصر رومانسية أشبه بقصة روميو مونتاجيو وجولييت كابوليت. بل إنه ضحى في سبيل حبه بما لم يضح به عاشق العصر دوق وندسور، الذي تخلى عن عرش إنجلترا في سبيل حبه، إذ ما قيمة عرش إنجلترا أمام حياة الإنسان؟

في اليوم التالي ظل المريض في سُبات وأخذت أراجع الكتب والمجلات العلمية وأقرأ كل شيء عن التسمم بهذه المادة. وكانت الآراء - آنذاك - مختلفة حول ما إذا كانت ثمة فائدة من استعمال المواد المضادة في تأثيرها الحيوي للمادة المتناولة. وبما أن الفينوباربيتال مادة منومة كان بعضهم يرى أن إعطاء مواد منبهة تعاكس تأثيرها قد يفيد، بينما لا يرى آخرون هذا الرأي.

وبحماسة الشباب والرغبة في عمل أقصى ما يمكن، كنت مع الرأي الأول، بينما كان الأستاذ المشرف من المعارضين له. لكن إصرار الممرضة على أن أبذل قصارى جهدي، وأن أفعل شيئاً ما شجعني على إعطاء المريض الجرعات الدوائية المنبهة.

ومر يوم أو اثنان قبل أن يبدأ المريض بالصحو واسترداد وعيه، وكأن شيئاً لم يكن، ثم خرج من المشفى سليماً معافى، قد وافق أهله على زواجه بمن أراد، بعد أن أثبت بطريقة "درامية" أنه مصمم على رأيه ولن يحيد عنه أبداً.

وتمر الأيام. أما الأستاذ المشرف فقد قضى نحبه منذ مدة، وكان حتى آخر يوم في حياته يمارس الطب، وتلك لعمري نعمة وأية نعمة (ممارسة الطب لا الوفاة).

وأما المريض نفسه فقد تزوج من أراد، ولا أعلم إن كان قد عاش بعدها في سعادة وهناء، أم في هم وشقاء، فالحياة أولاً وأخيراً ليست قصة من ألف ليلة وليلة لا ينهي السعادة فيها إلا هازم اللذات ومفرق الجماعات.

وأما الممرضة فلا تزال كلما التقينا عرضا، تذكرني بأنني صاحب الفضل - والفضل لله أولاً وأخيراً - في شفاء شقيقها، وتأخذ في شكري على عمل لا أستحق - والحق يقال - الشكر عليه.

أما ما يتعلق بالعلاج فقد أظهرت الدراسات الحديثة أن دور المواد المنبهة في معالجة التسمم بالمواد المنومة غير مفيد إن لم يكن ضاراً. وهكذا فإن حماسة الشباب دفعتني إلى علاج المريض بدواء أثبتت الأيام عدم جدواه، بل ربما ضرره، وهي حالة أخطأت فيها ومع ذلك نجا المريض. وكم من حالة أخرى لم أخطئ في علاجها، ومع ذلك لم ينج المريض. وذلك لسبب يسير جداً، وهو أن الشفاء - أولا وأخيراً - هو من الله وحده.

 

غسان حتاحت