النظم والمعلوماتية.. في عالم النحل محمد نبهان سويلم

كان لابد للبشرية أن تقطع شوطا طويلا على درب التقدم العلمي حتى تدرك أن المعلوماتية والاتصال هما عنصرا تقدم أي أمة. لكن النحل سبق البشرية في إدراك ذلك، وعلى أساس هذا الإدراك تسير مجتمعاته المدهشة.

عام 1920 أصدر الاقتصادي الأميركي "هيربرت سيمون" دراسة شائقة ضمنها كتابه "النظم المعقدة" وشملت الدراسة ضمن ما شملت قصة طريفة عن صانعي ساعات جيدة النوع، وكلا الرجلين بدأ عمله في وقت مقارب وتمتعا عند بداية نشاطهما بسمعة طيبة، وكان أحدهما يدعى "هورا" والآخر يدعى "تومبس".

وفي بادئ الأمر راجت تجارة الرجلين أيما رواج، وسيطرا على سوق الساعات في الولاية.. ومضت الأيام، وإذا بالأمور تتغير وتتبدل، وحقق "هورا" نجاحا عظيما وأصبح من الأغنياء المرموقين، بينما لم تنل صناعة زميله نفس القبول والرواج واندحرت أعماله وتقهقر اسمه من بين صانعي الساعات في الولايات المتحدة، وكلما ازداد "هورا" غنى ازداد "تومبس" فقرا حتى سدت في وجهه أبواب الرزق واضطر في آخر المطاف إلى الالتحاق بالعمل لدى منافسه بأجر أسبوعي لم يتجاوز بضعة دولارات.

الإدارة.. نظم

يمضي المؤلف في عرض القصة ونستشف منها بأنه لم يكن هناك فرق جوهري بين جودة ساعات هذا أو ذاك، لكن "هورا" أدار عمله وصب أسلوب إنتاجه في قالب حقق له نجاحا ومضى إلى طموحاته بينما ركن "تومبس" إلى العشوائية، فلا إدارة ولا هيكل عمل، فلم يحقق غايته ولم يصل إلى هدفه بل أتى عليه بنتائج عكسية تماما عما كان يهواه ويتمناه.

وقصة الرجلين تروى لما فيها من دروس وعبر أبرزها أن النظم أو المنظومات المعقدة ما هي إلا كتلة من النظم الفرعية الأصغر والنظم الفرعية عبارة عن نظم صغيرة، ويستمر تجريد كل منظومة ونظام إلى نظام أدق حتى تصل إلى الوحدات البنائية الأصغر والتي لا يمكن تجزئتها بعد ذلك.

تكامل النظم لاستمرار الحياة

والواقع أن هذه المستويات من التجريد تنطبق على أي كيان مادي ملموس سيان في البر أو البحر أو الجو وتنطبق على الإنسان سيد المخلوقات على الأرض كما تنطبق على نظم المعلومات ونظم الزراعة والري والنظم الصناعية والسياسية والدولية والتكتلات الدولية، لدرجة دعت عالم الأحياء الأميركي "أ.بونز" إلى القول - من خلال دراسة نشرها عام 1958 - إن نشأة وارتقاء الحياة نهجت نفس المنطق الذي نهجه نظام هرمي بيولوجي لوحدات مرتبة وظيفيا بدءا من الخلية الحية إلى الديناصورات، وبداية من الطحالب الخضراء على صخور الشواطئ وحتى غابات الأمازون العملاقة.. كلها مرت خلال مراحل واستخدمت آليات متعددة واستكملت نظمها وعاشت على الأرض.

حقيقة هناك نظم استقرت واستمرت إلى يومنا هذا عبر رحلة زمنية مداها 40 مليون سنة على الأقل، وهناك نظم بادت وانمحقت ولم يكن الفرق بين النظم التي طواها التاريخ والأخرى عابرة القرون وآلاف بل ملايين السنين سوى مرونة آليات النظام وقدرته على تعديل مساره وفق المتغيرات والأحداث، وتحقيق التوازن المطلوب بحيث لا ينفرط عقد النظام أو تضعف مقاومته أو يختل أداؤه.

فنظام الديناصورات كنظام شامل وعام يتكون من نظم فرعية هي الديناصور "الفزد" لو درسناه من الناحية البيولوجية لرأينا كل ديناصور مثل أربع عربات قاطرة وله عضلات مثل أحبال الصلب وهيكل عظمي كالطول العظيم وأسنان تطحن الزلط، إلا أن هذه القوة الطاغية لم تعفها من الزوال وذابت في التاريخ مثلما يذوب الظلام في نور الفجر. وعلى النقيض، منظومة نحل العسل برغم ضعف أبدانها لم تختف وترسخ وجودها فوق الأرض وفرضت نظامها الشامل ضمن النظم الحية الراسخة والمستقرة برغم أهوال أحداث التاريخ الذي انسحب على الكرة الأرضية بما عليها. لماذا؟

يرد على هذا التساؤل الدكتور "توماس تسيلي" الأستاذ المساعد بجامعة كورنيل الأميركية خلال دراسة شائقة وممتدة نلتقط منها لمحة دون الغوص في التفاصيل، ويرى الباحث فيما يتعلق بنظام الديناصورات.. أن كل ديناصور اغتر في قوته فلم يشكل أي تناسق أو تناغم مع نظامه الشامل، في حين انتظم عقد نحل العسل والنمل وذباب النار وقوارض الأوراق في المجتمع والنظام الشامل لكل منها، وبرغم ضعف نظمها الفرعية تحول هذا الضعف إلى قوة طاغية ومرونة عالية.

نظم بدقة ساعة ذرية

وقبل الاستطراد مع النظم بالغة الدقة استأذنكم في إلقاء نظرة على مفهوم نظام، ونظام شامل، فأنا أو أنت على المستوى المجرد عبارة عن كيان حي يضم معدة وأمعاء وقلبا ومخا وأجهزة حيوية متعددة تتكامل وظائفها مع بعضها البعض معطية بفضل الله سبحانه وتعالى مضمون الإنسان وحياته كنظام متكامل.

معنى هذا أن النظام وفق المفهوم العلمي عبارة عن مجموعة من المكونات الوظيفية يحدها إطار يحدد حدود النظام، إليه تكون مدخلات يجري عليها النظام معالجاته ومنه تنطلق نواتجه، ويتولى النظام ضبط العلاقة بين المدخلات والمخرجات بحيث ينضبط الأداء من خلال رجع الصدى أو ما يطلق عليه التغذية المرتدة، وأقرب أمثلة التغذية المرتدة هو الشعور بالصداع مثلا، ولتعديل النظام نبتلع قرص أسبرين أو نقلل من احتساء الشاي والقهوة.

أما تعريف النظام بالغ الدقة فالفضل في هذا يعود إلى جهد عالم الأحياء الأميركي "وليم مورتن" الذي وصف هذا النظام بأن مستوى أداء أفراده - نظمه الفرعية - يكاد يتطابق مع مستوى أداء وانضباط مستوى الأداء الفسيولوجي لحشرة واحدة من هذه النظم، وتؤدي النظم الفرعية أعمالها على المستويين في تكاملية تصل حد الإعجاز.

مسارات واضحة لتدفق المعلومات

عوامل كثيرة حققت للنحل التوصل إلى مجتمع بالغ الدقة، منها فعل قانون الاختيار الطبيعي بين الأحياء، لكن أبرز هذه العوامل على الإطلاق تدفق المعلومات عبر مسارات واضحة محددة بحيث تكون المعلومات متاحة عند الحاجة إليها وفي الوقت المناسب وبالقدر المناسب حول اهتمامات وأهداف النظام، إذ كثرة وتكرار المعلومات لا يقل ضررا عن ندرة المعلومات، وهي مهما كانت دقتها وصحتها وحجمها، فإنها إذا كانت في غير أهدافها تصبح عديمة الجدوى ولا قيمة لها أو أهمية مهما بذل في جمعها من جهد.

يا للعجب أدرك النحل تلك الحقائق قبل الإنسان، وعندما ابتدع الإنسان من العلوم التقنية ما ابتدع وجد أن المعلوماتية والاتصال عنصرا تقدم أي أمة.

داخل خلايا النحل أبدع شبكة معلوماتية بين الكائنات الحية دون استخدام حاسبات إليكترونية أو نظم تشغيل أو برامج، ويتم نقل المعلومات تلقائيا دون أوامر، وأتاح الانضباط التام تخصص بعض أفراد النحل في جمع البيانات اللازمة لإدارة الخلية ويظلون يجوبون إطار البيئة المحيطة بالخلية بحثا عن معلومات عن الغذاء والرحيق ويحددون الخيارات اللازمة للحصول على أكبر كمية من الرحيق، وفور وصول المعلومة إلى باقي أفراد الخلية يتجهون مباشرة إلى ممارسة دورهم دون تردد أو كلل أو تكاسل ودون أدنى تدخل من الملكة قمة السلطة في خلية النحل، وهي المتاح لها استخدام إشارات كيميائية لإعطاء الأوامر، إلا أنها تقصر استخدامها على من في مستواها.

دورات عمل منضبطة

ولأن العلماء لا يقتنعون إلا بالحقائق المجردة، فقد أمضى فريق منهم قرابة شهرين يراقبون أداء النحل عبر خلية أجنابها زجاجية، وثبت بما لا يدع مجالا لقول آخر أن ثلث وقت الشغالة يستهلك في دورة عمل منضبطة تشمل حراسة الخلية، تشكيل أقراص العسل، تغذية صغار النحل، تنظيف الخلية، ثم تتغير الدورة تلقائيا دونما أي تعليمات أو أوامر!! لماذا؟ يرد علي هذا التساؤل العلماء قائلين.. بأن النظم غير المركزية متى تكاملت وانضبط إيقاعها تعطي للأفراد سرعة استجابة لمتطلبات النظام بديلا عن تلقي أوامر علوية قد يستغرق وصولها زمنا وقد يتلقاها من يدرك أهميتها وأبعادها أو يستقبلها من لا يدرك شيئا أو يرتكن إلى مبرر عدم وجود تعليمات من يريد الارتكان.

الرقص لغة لتبادل المعلومات

وأساليب الاتصال في عالم النحل نالت اهتماما بارزا من العلماء، وحققوا أول نجاح حقيقي في هذه الدراسات عام 1955 بعد إكتشافهم أن رقص النحل ما هو إلا لغة رمزية بالغة الرقي يستخدمها النحل في تبادل المعلومات، ويحدد بها أماكن الرحيق، ويوصف طريقة الحصول عليه، وقد لاحظ العلماء أن الشغالة فور تفهمها شفرة الرقص تنقسم إلى فريقين: الفريق الأول يأتي بالرحيق إلى موقع مؤقت، ويتولى الفريق الثاني نقل الرحيق مرة أخرى إلى الخلية، وبينما يتحرك الرحيق وينتقل عبر مسارين تتحرك المعلومات في اتجاه معاكس تماما لحركة نقل الرحيق لضبط أداء المجموعات وإجراء التزامن والتنسيق بينها واستغلال الموارد المتاحة بأعلى درجة ممكنة، ولولا هذا التنسيق بين انتقال المادة "الرحيق" والمعلومة لبذل النحل جهدا لا طائل من ورائه دون مناسبة أو سبب.

حقائق بديعة كالطرائف

والأبحاث كثيرة لكن أبحاثا جرت في أوكرانيا ضمن إطار الأكاديمية العلمية الأوكرانية تحت إشراف عالمها الأشهر "إيفان ليفشنكو" توصلت إلى حقائق تكاد من إبداعها نراها طرائف.

والواقع أن "ليفشنكو" ركز أبحاثه على رقص النحل فإذا بالدراسات تؤكد أن الأصوات المصاحبة للحركة الاهتزازية ليست على وتيرة واحدة وكل من الاهتزاز والصوت يحدد موقع الرحيق بدقة، كما أن طبيعة وأسلوب أداء الاهتزاز يتغير كلما بعد الرحيق عن الخلية بمضاعفات ستين مترا.

والتجربة التي استخدمت كانت بسيطة، مجرد أوعية معدنية بها محلول سكري يوضع عليها نحل تم إحضاره من الخلايا ثم يطلق حرا، وترصد العدسات وتصور وكل حين يتم تحريك مواقع الأوعية وتقاس المسافات وتدرس الاهتزازات المصورة، ولأن الاهتزاز لا يتم بمعزل عن باقي النحل بل في حضوره وما أن ينتهي اهتزاز النحلة مكتشفة الرحيق حتى ينظم النحل صفوفه في اتجاه محدد على خط الأفق وعلى هديه تنطلق ناقلات الرحيق دون خطأ أو ضلال، وهو ما ثبت لدى باحثي أوكرانيا من دراسة على خمسة آلاف نحلة معرفة، تم تصوير أدائها حيال أوعية سكرية معطرة، وعاد النحل جامع المعلومات إلى خلاياه، ولم تمض دقائق حتى هلت الأسراب إلى الأوعية وأتت على ما فيها خلال دقائق معدودات، والعلماء الذين شاهدوا الأحداث كاد بعضهم يعتقد أن هناك رادارا خفيا يوجه ويضبط ويقود الأسراب إلى الهدف المنشود.

قد يقول قائل إن الرائحة المضافة للسكر جذبت النحل، لكن المؤكد لدى علماء أوكرانيا أن انتقال المعلومات كان العامل المؤثر في وصول النحل إلى الأوعية خاصة الأوعية البعيدة عن الخلية. وأرادوا تأكيد التجربة ووضعوا نحلة على وعاء سكري ثم أطلقوها وفور انطلاقها حركوا الوعاء وأزاحوه عن موقعه.. وضل النحل المندفع طريقه ولم يصل إلى الوعاء كالمعتاد.

والدراسات في بلدان أخرى أكدت أن النحل ينشئ بنك معلومات أو قاعدة بيانات يخزن فيها معلومات عن الرحيق المتاح في بيئة النظام الخارجية، كما يسجل بها رائحة أفراد الخلية وتكون هي المعلومة المرجعية في اكتشاف الغرباء والحشرات المهاجمة وفورا يتصدى سكان الخلية للدفاع عن كيانهم وحياتهم ونظامهم.

والآن وقد قاربت الدراسة من نهايتها عن منظومة بالغة الدقة فائقة التنظيم تتدفق عبرها المعلومات دون حواجز أو قيود وبها بنك معلومات يناسبها ويحقق أهدافها.. لا أدري لماذا مرت بخاطري عبارة "وكل لبيب بالإشارة يفهم".. ويبقى تذكر قول الحق سبحانه وتعلى "وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما".