سان فرانسيسكو زمردة الساحل الغربي الأمريكي رياض عصمت

سان فرانسيسكو زمردة الساحل الغربي الأمريكي

من أكبر مدن أمريكا وأكثرها بهجة وحيوية، تتجاوز في أحيائها صور من التجمعات البشرية التي هاجرت إلى العالم الجديد. لا أحد يذوب ولا أحد يتنافر. كما أنها تضم أشهر المعالم الثقافية والسياحية، وتوجد أمام شواطئها جزيرة صغيرة عليها أشهر سجن في أمريكا.

يتسم معمار سان فرانسيسكو بقدر كبير من التميز والتنوع، فالطابع الفيكتوري في البناء مازال مرتسما بأروع أشكاله في بعض الأحياء السكنية، والأبنية العالية ناطحات السحاب تتمركز في قلب المدينة التجاري والمالي، وهناك قصور وفيلات لم أر لها مثيلا من قبل في منطقة "مرتفعات الباسيفيك"، وهناك طرز البناء الصينية واليابانية والإسبانية اللاتينية أيضا. ولعل أشهر المناطق السكنية عراقة هي منطقة "هيت - آشبيري"، التي برزت للعيان بشكل خاص إبان الستينيات بوصفها معقل جماعات "الهيبيز"، ووكر "الماريجوانا" وجنة الحب والحرية والزهور والسلام. وهناك أبنية معينة، أتيح لي أن أزور بعضها، كانت فيما مضى بمثابة نواد سرية لتلك الجماعات. وهي تتميز بمعمارها الفيكتوري الأنيق، الأمر الذي جعل محبي التحف والآثار يقبلون على شرائها، "وإعادة ترميمها. ومن أشهر الأبنية في "هيت - آشبيري" تلك التي صممها المهندس المعماري كرانستون، وتعتبر اليوم تحفا معمارية جميلة. ولم تكن حركات الشباب في الستينيات دائما متسمة بالمحبة والمخدرات، فمن جامعة سان فرانسيسكو انطلقت مظاهرات الشباب الصاخبة، وتصادماتهم مع قوى الأمن، من أجل تغيير أسس المجتمع القائم. وامتدت شرارة تلك الثورة لتندلع فيما بعد، ولا تخبو جذوتها إلى اليوم، في جامعة بيركلي القريبة.

مطبخ كبير

تعج مدينة سان فرانسيسكو بالمطاعم والمشارب، حتى ليخال المرء نفسه في مطبخ كبير متعدد أصناف ونكهات الطعام بصورة لا توصف ولا تصدق. فمن المأكولات الإيطالية، إلى المكسيكية، إلى الصينية واليابانية المتنوعة (ومن بينها "سوتشي"، أي أنواع خاصة من السمك النييء). وهناك مطاعم عربية مختلفة، مغربية وجزائرية وفلسطينية ولبنانية. كما توجد مطاعم إيرانية وإثيوبية وروسية وفرنسية ويوغسلافية وهندية وفييتنامية، فضلا عن مطاعم المأكولات البحرية والأسماك، والوجبات السريعة طبعا. وهناك أعداد هائلة من المشارب، لا يخلو بعضها من فرق تعزف موسيقى الجاز. وتشتهر سان فرانسيسكو بجسرها "غولدن غيت بريدج"، الذي يعتبر أحد أجمل الجسور في العالم بأسره. ولكن شبه الجزيرة التي تتمركز المدينة عليها تتصل بالبر من الجهة الشرقية بجسر آخر أطول وأكبر، لكنه أقل جمالا، هو "جسر الخليج" الذي يصل بين سان فرانسيسكو وأوكلاند وبيركلي وغيرهما من البلدان والمناطق.

يحد سان فرانسيسكو من الشرق، إذن، الخليج الشهير، ومن الشمال منطقة "مارين كاونتي" الزراعية الخصبة، وبلدة "سوسوليتو" رائعة الجمال والمطلة على النقطة الفاصلة/ الواصلة بين الخليج والمحيط الهادي، وأيضا "وادينابا" المشهور بكرومه، وبالتالي.. بمعامل تقطير الخمور. أما من الجنوب، فهناك جامعة ستانفورد (أفخم الجامعات الخاصة في الساحل الغربي)، وبلدة "باولو آلتو"، ومدينة "سان خوزيه" و"وادي سيلكون" الثري بالمواد المستخدمة في الصناعات التقنية العالية، فضلا عن مناطق زراعية شاسعة واسعة، حتى أنه يطلق على إحدى المناطق التي يعبرها أوتو ستراد رئيسي اسم "طبق السلطة"، نظرا لما يحتويه من مزروعات وخضار.

كابوس الزلازل

لكن خطرا مخيفا كان ومازال يهدد سان فرانسيسكو بحكم موقعها الجغرافي منذ قديم الزمان حتى الآن، ألا وهو خطر الزلازل، تقع المدينة على جرف بركاني زرت منبعه الأساسي في "مارين كاونتي"، وهو على مقربة من أبرز نقطة بر على الساحل الغربي لأمريكا على الإطلاق، بحيث تستخدم كمنارة لإرشاد السفن التائهة في الضباب، ورصد قوافل الحيتان المهاجرة من الشمال للجنوب، وبالعكس، في مواسمها السنوية. والخط البركاني هذا يمتد من شمال سان فرانسيسكو حتى جنوب لوس أنجلوس، بل بالقرب من سان دييغو، مهددا معظم كاليفورنيا على الدوام بكارثة ممكنة الحدوث، ألا وهي انشطار ساحلها بالكامل عن جسم القارة الأمريكية، بكل ما سيصحب ذلك، بالطبع، من دمار رهيب. وتحدث الزلازل كل عام في سان فرانسيسكو، ولكنها منذ زلزال بداية القرن، الذي تسبب في دمار نصف سان فرانسيسكو واحتراقه، لم تعد بتلك الفاعلية الكبيرة. رغم ذلك حدث زلزال خطير في صيف عام 1989 تسبب في دمار بعض المناطق الجميلة من المدينة، وخرب جزءا من "جسر الخليج"، وأوقع عددا لا بأس به من الضحايا، بحيث اعتبرت المنطقة منطقة كوارث.

.. ومرض الإيدز

ما الخطر الآخر الذي تشتهر به سان فرانسيسكو في العقد الماضي، فهو أنها تعتبر عاصمة مرض الإيدز في العالم. والسبب الرئيسي لانتشار هذا المرض القاتل فيها يعود إلى انتشار الشذوذ الجنسي، بشكل بدل من صورتها "الهيبية" كمدينة الحب الطبيعي والورد والسلام. وهناك حي يدعى "كاسترو" في وسط المدينة يعج بالشاذين، ومقاهيهم ونواديهم الخاصة والعامة.

وصلت اهتمامات الناس بقضية الشذوذ، ومرض الإيدز، حدا اخترق الجامعات. فقد أقيم، على سبيل المثال، إبان إقامتي كأستاذ زائر في جامعة سان فرانسيسكو الحكومية، معرض لبسط يدوية ملونة تخليدا لضحايا الإيدز من محبيهم وذويهم، وجاب ذلك المعرض أرجاء الولايات المتحدة، من شرقها إلى غربها، محاطا بهالة من الإعلام والمهابة.

لكن الخطرين، خطر الزلازل وخطر الإيدز، لم يدفعا الناس للهجرة بعيدا عن سان فرانسيسكو، بل ربما زاد الإقبال عليها. ليس السبب، طبعا، هو رغبة الناس في الموت انتحارا، بل لأن سان فرانسيسكو - كما عبرت سيدة، في مقابلة تلفزيونية - "تستحق تلك المخاطر". إن الجمال الفريد لالتقاء المحيط بالخليج، وعراقة المدينة نسبيا بين مدن أمريكا قاطبة، واحتفاءها بالآثار والفنون، وطقسها المعتدل عموما طيلة العام، كلها وراء عشق الناس لسان فرانسيكسو، وإقبالهم على العيش فيها رغم مخاطرها. وعن طقسها خاصة، علق الكاتب الساخر الشهير مارك توين قائلا: "صيف سان فرانسيسكو هو أبرد شتاء مر علي في حياتي". وبغض النظر عن المبالغة التهكمية في عبارة توين، أنصح كل سائح باتخاذ الاحتياطات اللازمة لدرء البرد عن جسده عندما يقرر الذهاب مساء إلى منطقة "فيشر مانز وورف" على الخليج لارتياد دكاكينها ومقاصفها الخشبية، أو الذهاب في رحلة بحرية من مينائها لزيارة جزيرة "الكتراز"، التي كانت سجنا رهيبا فيما مضى، لعتاة المجرمين، أو لزيارة جزيرة "انجل" التي كان الصينيون يوضعون فيها في مهاجع جماعية ريثما تسوى أوضاع هجرتهم إلى أمريكا، أو ينفون منها إلى بلادهم. وإذا كان الخليج باردا في مساءات سان فرانسيسكو، فما بالك بالمحيط؟؟ حذار أن تذهب إلى "صخرة الفقمات" العالية المطلة على المحيط الهادي دون أن تلبس ما يقيك البرد، فالبرد سبب كل علة. رغم ذلك، فإن الجو في شمال كاليفورنيا يظل معتدلا، قياسا إلى غالبية مناطق الولايات المتحدة شديدة البرودة والأمطار والثلوج، أو قياسا إلى بعض ولاياتها الحارة في الجنوب.

كانت سان فرانسيسكو خلال الحرب العالمية الثانية مهددة أكثر من غيرها من خطر هجوم ياباني مدمر. ودفع هذا بعض الناس لبيع منازلهم في أجمل أنحائها على الاطلاق، وهي منطقة "مارينا"، بأبخس الأثمان، بينما تساوي اليوم ملايين الدولارات. ولعل هذا ما جعل من شمالها ثكنة عسكرية كبيرة جدا يطلقون عليها اسم "بريسيديو". أما منطقة "فورت ميسون" ذات التاريخ البحري، شبه العسكري، فتحولت إلى منطقة مسارح تجريبية، ومتاحف للفنون الشعبية، وصفوف لمختلف الدراسات.

تضم سان فرانسيسكو حوالي ست جامعات، بعضها مكتمل الفروع، وبعضها جزئي وناقص. أما منطقة الخليج برمتها، فيرتفع فيها العدد إلى أكثر من الضعف. لذا، تعتبر سان فرانسيسكو مدينة ثقافية على مستوى عال بين المدن الأمريكية الرئيسية. وفي مجال الفنون بالذات، تتفوق المدينة تفوقا ملحوظا، وبدأت تنتزع، بالتدريج، مكانة مرموقة جدا، حتى بالمقارنة مع مراكز الإبداع الفني في نيويورك ولوس أنجليس.

قال أحد كبار المخرجين أمامي ذات مرة: "إننا في سان فرانسيسكو نخلق الإبداع، أما في نيويورك فيبيعونه". فمع حركة الشباب في الستينيات، برزت للوجود تجارب ثورية رائدة في عالم المسرح، منها "مسرح الخبز والدمى"، ومنها "فرقة سان فرانسيسكو" الإيمائية، (التي أتيح لي أن ألتقي بمؤسسها مطولا، وأتدرب مع أعضائها في وقت لاحق). وكان آخر إنجازات تلك الفرقة الطليعية التي لا تملك من الإيماء إلا الاسم تقريبا، وتقدم أعمالها اليسارية ناطقة، هو عرضها الذي تصدى للصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، وكان متوازنا وجريئا. ويوجد شارع في سان فرانسيسكو هو شارع "جيري"، وفيه المسرح القديم الذي يحمل الاسم نفسه، وتؤدي على خشبته فرقة "كونسرفتوار سان فرانسيسكو" ذات الشهرة الواسعة في تحديث الكلاسيكيات، وإحدى أعظم فرق أمريكا الإقليمية - أي خارج برودواي في نيويورك. ومسارح المدينة العديدة تستقبل عروضا محترفة جوالة، تضم بعض مشاهير نجوم المسرح، فضلا عن العروض المحلية الكثيرة. وهناك فرقة سيمفونية كبرى، وفرقة "باليه سان فرانسيسكو" العظيمة، وفرقة أوبرا ذائعة الصيت. وتقدم حفلات عديدة خلال الصيف في الهواء الطلق. ففرقة سان فرانسيسكو الشكسبيرية تقدم مثل هذه العروض في الحدائق العامة، وبأسعار زهيدة للغاية، لعموم الجمهور من الناس العاديين. وحتى أرقى حفلات العزف الكلاسيكي تقدم لألوف الناس مجانا في أيام العطل وسط الطبيعة، والمستمعون يجلسون على العشب مع طعامهم وشرابهم، وكأنهم في سيرك. هذا، فضلا عن حديقة حيواناتها الصغيرة الجميلة.

مدينة الفن الراقي

أخيرا، فإن سان فرانسيسكو مدينة تضم عددا من متاحف الفن الراقية، وفيها كنوز من لوحات الانطباعيين الفرنسيين بوجه خاص. كما تضم معرضا دائما صغيرا للفن الحديث، فضلا عن عديد من الصالات الخاصة لبيع اللوحات والمقتنيات الفنية. ثم، هناك المتحف الآسيوي، ومتحف العلوم الطبيعية والأحياء المائية وبيت زجاجي بديع للنباتات والزهور. إن سان فرانسيسكو، بحق، هي جوهرة الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية، وأجمل مدنها، وأكثرها إثارة حضارية. إنها مدينة لا تفوت زيارتها حقا.

 

رياض عصمت







المنطقة التجارية والمالية في سان فرانسيسكو





واجهة منازل من الطراز الفيكتوري وخلفها أبنية المدينة الحديثة





أبرز نقطة على الساحل الغربي الأمريكي الذي يطل على المحيط الهادي





جسر غولدن والقوارب الشراعية بين الخليج والمحيط





جزيرة الكتراو تضم أشهر السجون وصور حولها أكثر من فيلم سينمائي





بيت الزهور والنباتات في حديقة غولدن غيت





فرقة سان فرانسيسكو الإيمائية تمثل في إحدى الحدائق العامة





مسرح في الهواء الطلق في منطقة ميش ديلوريس الإسبتنية





جسر الخليج الذي يربط سان فرانسيسكو بأوكلاند بيركلي