د. الطاهر أحمد مكي ود. حامد أبوأحمد

د. الطاهر أحمد مكي ود. حامد أبوأحمد

  • هزيمة 1967 أثرت على دراسة الأدب العربي في إسبانيا
  • بدور مارتينيث مونتابيث الوحيد الذي تصدى لما سمي "قومية الثقافة الأندلسية"
  • الإبداع الذي تم في شبه جزيرة الأندلس يحمل خصائص أهلها ومناخها وتربتها
  • الأدب الإسباني مجهول لدينا.. !! وما يترجم منه نادر!! والذين يتصدون له لا يجدون عونا!!

الأندلس، الفردوس العربي المفقود، وجع تاريخي لا يهدأ مهما تقادمت الأزمنة والعهود.. طاف بها الشعراء وحلقوا في ربوعها.. نفي إليها شوقي فأبدع روائعه المعروف، تغنى لـ "نائح الطلح" وكتب سينيته الشهيرة.. وناجى صقر قريش في موشحه المعروف. وعاش بها نزار قباني فتوجهت شاعريته فيما أسماه "مرحلة الحس القومي" فأبدع قصائده النثرية من كتابه "الشعر قنديل أخضر" وشعره الموقع في "الرسم بالكلمات". وأطال الباحثون التأمل في تاريخها، والدارسون التعمق في آثارها الفكرية والأدبية التي نقلت منارة العلم إلى أنحاء أوربا القرون الوسطى الغارقة في الظلمات. من عشاق الأندلس ودارسي تراثها الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي، درس فيها وحصل على دكتوراه الدولة بامتياز في الأدب والفلسفة من كلية الآداب جامعة مدريد عام 1961 بعد تخرجه في كلية دار العلوم بالقاهرة عام 1952. عمل الدكتور الطاهر مكي مدرسا، فأستاذا مساعدا، فرئيسا لقسم الدراسات الأدبية فوكيلا للدراسات العليا بكلية دار العلوم، وحاضر في جامعات أميركا اللاتينية عن الحضارة الإسلامية والعربية، كما عمل أستاذا زائرا في جامعات تونس ومدريد والمغرب والجزائر والإمارات العربية المتحدة. وقد أثرى المكتبة العربية بالعديد من الكتب والدراسات. يحاوره الدكتور حامد أبوأحمد أحد المعنيين والباحثين في التراث الأندلسي والأدب الإسباني المعاصر، والذي ترجم العديد من روائعه وطالع له قارئ "العربي" العديد من الدراسات.

  • لعل مجال الاستشراق على الرغم من كثرة تصدي الباحثين له، يحتاج إلى وقفة وإضاءات مستمرة. وفي الخمسينيات، أيام دراستكم في جامعة مدريد، اقتربت بعمق من قضاياه وكبار الباحثين في حقله، والآن في التسعينيات تعرف عنه الكثير، هل ثمة تغير ملموس حدث على المستويين: الكمي والكيفي في هذا الميدان؟

- حدث كثير من التغير في المستوى الكيفي وفي الاتجاهات. على أيامنا كان هناك باقي أفراد الجيل الثاني من كبار رواد الاستشراق الإسباني مثل إميليو جراثيا جوميث، وإلياس تيريس، وخوان برنيت، وخوان فيا كروس. وكان تمكنهم من اللغة العربية وآدابها قويا وعميقا،. يحسنون فهم نصوصها والترجمة منها، وبعضهم مثل جوميث كان له نشاط ملحوظ. ولكن الجيل الذي أتى بعدهم من تلاميذهم لم يكن على المستوى نفسه من الذكاء ومن العمق، إذا استثنينا فيديركو كورينتي دي كوردوبا، وبدرو مارتينيث مونتابيث. أما الباقون فكانوا مشدودين إلى الحياة أكثر، وكان اقترابهم من التراث العربي هامشيا إذا شئنا الدقة، لأن الدولة بعد استقلال المغرب وجلائها عن شماله لم تكن تعنى كثيرا بدارسي اللغة العربية ولم تكن تنفق عليهم، ولم يكن الدارسون للعربية كذلك يجدون لهم مجالا للاستفادة من دراساتهم، وتبع ذلك أنه بعد هزيمة 1967 بدأت أوروبا كلها تعيد حساباتها على أن العالم العربي بلا مستقبل، ومن ثم حدث بعض التغيير في نظام التعليم: فبعد أن كانت اللغة العربية إجبارية هي واللغة اليونيانية القديمة على كل طلاب كلية الآداب، بكل أقسامها، على الخيار بينهما "وكان الطلاب يختارون اللغة العربية لأنها أسهل، ولأنها معاصرة، ولأنها أكثر التصاقا بتاريخ إسبانيا". ألغي هذا النظام ولم تعد اللغة العربية إجبارية، ولم يعد يقبل عليها أحد.

بدرو مارتينيث وجهود محمودة

التطور المهم الذي حدث، والفضل فيه حقيقة لبدرو مارتينيث الذي عاش أعواما طويلة في مصر. إنه رأى أن العرب وقد أصبح لهم كيان دولي، ويسهمون في تطور الحضارة إبداعا، وبينهم أدباء وشعراء لا يقلون في مستواهم عن أدباء بقية العالم. من الظلم لهم ولإسبانيا نفسها أن يقف دارسوهم من المستشرقين الإسبان عند مناهج الأجيال التي سبقت، وكانت تتوقف في دراساتها عند الأدب الأندلسي فحسب بوصفهم شركاء لنا فيه، وهو اتجاه بدأه خوليان ريبيرا وأطلق عليه يومها "قومية الثقافة الأندلسية"، وقد بدأ بدرو مارتينيث وحده في الحقيقة، وظل صامدا ضد الجميع يدعو إلى العناية بالأدب العربي المعاصر. وكان من حسن حظ الأدب العربي وحظ هذه الفكرة أن أنشئت الجامعة المستقلة بمدريد فأصبح فيها أستاذا، ثم رئيسا لقسم اللغة العربية ثم عميدا للكلية، وحتى رئيسا للجامعة فترة من الوقت، فأصّل هذا الاتجاه، وجمع حوله مجموعة من الشبان تميزت بأنها توقف اهتماماتها على الأدب العربي الحديث شعره ونثره، بينما ظلت الأقسام القديمة تهتم بالأدب الأندلسي فحسب، وبذلك ربحت إسبانيا معرفة بها وربحنا نحن مزيدا من الامتداد لأدبنا المعاصر.

العهد العربي بين التحامل والإنصاف

  • معنى ذلك أن الاتجاه الذي كان يركز على الدراسات الأندلسية لم يحدث به تطور ملحوظ؟ وإذا كان ثمة تطور قد تم، فهل لنا أن نلم بأبعاده وتأثيره؟

- حدث التطور. ولكن كانت بدايته في نهاية القرن الماضي مع فرانشيسكو كوديرا رأس هذه المدرسة الحديثة، وتلميذيه خوليان ريبيرا وأنخل جونثاليث بلنثيا، فهؤلاء، على عكس سابقيهم، لم يعودوا يدرسون التراث الأندلسي على أنه تراث عرب جاءوا من وراء المضيق، أو مسلمين وفدوا من المشرق أو من شمال إفريقيا واستعمروا إسبانيا، وإنما أخذوا يدرسونه على أنه تراث إسباني لأناس كانوا يعتنقون الإسلام ويتكلمون العربية. والدين الإسلامي، في حقيقته وجوهره، ليس وقفا على قوم دون قوم، فمن الممكن أن يكون الفرد إسبانيا ومسلما في آن واحد. وقد بذل ريبيرا جهودا جبارة في إثبات أن العرب الذين وفدوا من خارج إسبانيا كانوا أقلية وذابوا في محيط الإسبان، الذين كانوا يقيمون في شبه الجزيرة. ومن هنا فإن هذا الإبداع الذي تم في شبه جزيرة الأندلس يحمل خصائص أهلها، ومناخها، وتربتها.. وللإسبان فيه من الحق مثل ما للعرب وللمسلمين. وهي نظرية فيها كثير من الإنصاف، وأبحاث علمائها تتسم، على غير كل ما سبق، بكثير من الموضوعية والبعد عن التحامل على العرب. وقد استمرت هذه المدرسة وأنتجت أبحاثا قيمة، وبلغت أوج قمتها في عصر الجمهورية "من أوائل الثلاثينيات حتى عام 1936"، وهي الفترة التي خفت فيها قبضة الكنيسة، وازدهرت حرية الفكر، واحتفلت حكومة الجمهورية بمضي حوالي ألف عام على إعلان الخلافة في قرطبة، وكان احتفالا مهيبا. ولكن ما إن سقطت الجمهورية وعادت الفاشية حتى قويت قبضة الكنيسة من جديد، ولكن في هذه المرة بذكاء ونعومة، فأخذ رهبانها يدرسون العربية ويوجهون الأبحاث، وأخذت هي بدورها تعنى بالمستشرقين، من يسايرها تفتح له الأبواب، ويتولى أكبر المناصب، ومن لا يسر في طريقها فعليه أن يهاجر، أو يموت جوعا، أو يبحث له عن مهنة أخرى غير البحث في التاريخ الأندلسي. وهكذا اتسمت هذه الفترة من 1939 حتى موت فرانكو سنة 1975 بالعلاقات السياسية الطيبة مع العالم العربي، وبالمداراة، ولكنها في العمق كانت تهدف إلى تشويه الفترة العربية من جانب، وإفساد الدراسات العربية في الجامعات الإسبانية من جانب آخر. مثلا كان الأب باروخا يدرس الأدب العربي في جامعة مدريد، وهو لا يحسن من العربية أكثر من معرفة الحروف، لا يقيم نصا ولا يحسن قراءة كلمة، وإنما يستخدم المعاجم في معرفة معاني الكلمات دون نطقها أو معرفة شيء من ظلالها  الأدبية. وكان الطلاب يتخرجون في قسم اللغة العربية بعد دراسة خمس سنوات وهم لا يحسنون الكلام ولا القراءة ولا الترجمة. وشاع بين الشباب أن الانتساب إلى هذا القسم إهدار لشبابهم ولجهدهم ولوقتهم فانصرفوا عنه.

وبعد وفاة فرانكو ومجيء الوزارة الاشتراكية الجديدة بدأت الأمور تتحسن من جديد وتأخذ اتجاها متحررا، وبدأ المفكرون الإسبان يقيمون العهد العربي في الأندلس تقييما موضوعيا بما له وما عليه. وبالطبع قد يخطئون في فهم النصوص أو قراءتها، وقد تضيع من بين أيديهم الوثائق، لكنهم في الحقيقة يتميزون بالجرأة والصوت المرتفع عندما يشهدون للعهد العربي بالخير، وعندما يدينون تصرف الكنيسة والحكام الإسبان، في القرون التي تلت سقوط الدولة الإسلامية، بالتعصب والتخلف والطغيان.

أجيال جديدة.. وأخطاء كثيرة

  • في خضم هذا المعترك حول الاستشراق في إسبانيا، والتراكمات المتناقضة في حقله - خلال الممارسة - ترى ما هو الوضع الحالي الذي آلت إليه حركة الاستشراق؟ ثم ألم تسفر عن ظهور مجموعة جديدة أو شخصيات مهمة على مستوى السابقين؟

- في جملتهم يملكون النوايا الطيبة، ويحاولون أن يصنعوا شيئا، لكن ليست لهم مثابرة الأجيال التي سبقت، ولا العكوف على الدرس، لأن الحكومة - كما أسلفت - لم تعد تنفق علي هذه الدراسات ما كانت تنفقه أيام أن كانت تستعمر جزءا من المغرب. ولذلك فإن هؤلاء الشبان يحاولون ويجتهدون، لكن حصادهم يخلو من العمق الذي كنا نجده مثلا عند جراثيا جوميث، ولا نجد عندهم الإحاطة والشمول الذي كان عند آنخل بالنثيا. ومن جانب آخر فإن العالم العربي ارتكب بدوره أخطاء كثيرة - و ما أكثر أخطاءه - فالمستشارون الثقافيون في إسبانيا لكل سفارات العالم العربي يذهبون للنزهة، ولا يعرفون شيئا عن اللغة الإسبانية وآدابها، ولا يستطيعون أن يديروا حوارا مع أي مستشرق إسباني، أو أن يسهموا في دعم الدراسات العربية، ولذلك عندما ألغي تدريس اللغة العربية من الفرقتين الأولى والثانية لطلاب كلية الآداب لم يتدخل أحد في الأمر. كذلك نحن لا نهتم بتغذية الأقسام العربية ومراكز الأبحاث العربية بالكتب والمجلات وبآخر ما يصدر في بلادنا، على حين أن إسرائيل، حتى قبل أن تعترف بها إسبانيا، وقبل أن تنشئ سفارة هناك، لم تكن تتوانى لحظة في إرسال كل ما يصدر بها إلى المراكز المتخصصة في الدراسات العبرية، بل إن إسرائيل حاولت أن تستقطب كبار المفكرين والأدباء. وأنا أذكر أن إسرائيل في أوائل الستينيات استطاعت، بوسائلها الخاصة، أن تستضيف رامون مينيندرث بيدال رئيس المجمع اللغوي وأكبر مفكر في إسبانيا أيامها. وعندما ذهب إلي إسرائيل كان أول مكان أخذوه إليه بيت يهودي متخصص في الإسبانية يقوم بترجمة "ملحمة السيد" إلى اللغة العبرية. وعاد الرجل من هناك، وبكل ثقله الفكري والعلمي أخذ يصرح أنه من الحماقة ألا تعترف إسبانيا بهذه الدولة المثقفة المتحضرة. إضافة إلى ذلك فإن الشبان الذين يدرسون العربية ويتخصصون فيها لا يملكون من الوسائل المادية ما يعينهم على أن يقيموا في العالم العربي بضع سنوات تساعدهم على أن يتمكنوا من اللغة العربية ويتعمقوا في آدابها، علما بأن الأموال التي ننفقها في مصر مثلا على ترجمة أعمال كتاب عرب إلى اللغات الأجنبية ويقوم علا ذلك بعض الدارسين منا، وتخرج هذه الكتب من المطابع إلى المخازن مباشرة ولا ينتفع بها أحد ولا يحس بها مخلوق، نقول لو أننا خصصنا هذه المبالغ وحولناها إلى منح تعطى لطلاب من مختلف بلدان العالم، فهؤلاء عندما يعودون إلى بلادهم فسوف يتوفرون على ترجمة أدبنا، وهم أقدر منا على معرفة ما يريد القارئ في بلادهم ثم إنهم أكثر قدرة على الصياغة الأدبية في لغتهم الأصلية.

موضوعات أندلسية في نصوص إسبانية

  • في الجيل الذي تحدثت عنه كان هناك تلاحم علما مستويات عدة: المستوى الإبداعي، فكنت تجد شعراء مثل خوان رامون خمينيث وأنطونيو ومانويل ماتسادو ولوركا يستلهمون موضوعات أندلسية ويتأثرون بالشعر العربي الذي ترجمه إلى الإسبانية إميليو جارثيا جوميث في مختاراته المشهورة، والمستوى الفكري، وخاصة فيما يتعلق بهوية إسبانيا مثل المعركة التي دارت بين أميركو كاسترو وسانشز ألبورنوص، وصدرت عنها كتب وأعمال مهمة جدا مثل كتاب كاسترو "إسبانيا في تاريخها"، وهناك مستوى آخر وهو ما أشرت إليه بقومية التراث الإسلامي في الأندلس. هذا التلاحم الذي حدث بين المستويات الثلاثة هل يمكن أن نجد مثيلا له اليوم في مستويات أخرى، مثل ترجمة أعمال عربية معاصرة إلى الإسبانية، خاصة بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، ودراسات في الثقافة العربية المعاصرة، كما نجد عند بدرو مارتينيث مونتابيث، وكارمن رويث برافو، وفيديريكو أربوس أيوسو وسواهم، وأبحاث تقدم في أقسام اللغة العربية بالجامعات المختلفة، ومجلة تصدر حاليا عن معهد التعاون مع العالم العربي، وهناك كذلك كتاب روائيون أخذوا يتخصصون في تقديم موضوعات عربية وإسلامية مثل خوان جويتيصولو صاحب أعمال مثل "مقبرة" و"فضائل الطائر الوحداثي" و"استعادة الكونت دون خوليان" وغيرها. أقول ألا تشكل هذه المستويات منظومة جديدة من التوجه نحو العالم العربي درسا واستيعابا ومحاولة للفهم والتعرف؟.

- أولا الإبداع إلاسباني لم يلتفت إلى الأدب العربي إلا متأخرا، بعد أن ترجم جراثيا جوميث - كما ذكرت - المجموعة الشعرية الرائعة من الشعر الأندلسي إلى لغة إسبانية راقية. وهذا شرط مهم في الترجمة. فهي التي لفتت نظر المبدعين الإسبان إلى أن وطنهم شهد أدبا يمكن أن يستلهم، وبخاصة في الرواية التاريخية، فهم يستلهمون الأحداث التاريخية الأندلسية، ولكنهم كانوا يكسونها ثوبا إسبانيا خالصا يتحيف الواقع العربي. أما في مجال الشعر فقد بدأ كتاب جارثيا جوميث الذي نشرت طبعته الأولى عام 1932 يمد الشعراء باتجاهات ذات طابع ومذاق أندلسي، ويظهر ذلك واضحا في ديوان "تماريت" للوركا، وحتى عناوين القصائد كانت تحمل أسماء عربية،. وقد كتبه عام 1936 أي قبل وفاته بقليل، ولم ينشر إلا بعد ذلك بأعوام، وطبع للمرة الأولى في المكسيك.

البحث في "لغز إسبانيا"

في المجال الفكري. في العصر الجمهوري - كما قلنا - كانت هناك حرية فكر، وبدأ الصراع قويا بين قمم عالية، كانت تبحث عن حقيقة إسبانيا. وهنا سوف يحدث اختلاف مصدره المنطقة التي جاء منها الكاتب، فالذين قدموا من الأندلس كانوا يرون أن العهد العربي والإسلامي في مجمله كان خيرا على وطنهم، وكانت إسبانيا وحدها دون بقية دول أوربا هي المتقدمة ثقافيا وحضاريا. ولكن الذين قدموا من مناطق الشمال مثل سانشز ألبورنوص "فهو من آفيلا" أي من قشتالة القديمة التي اضطلعت بالعبء الأكبر في محاربة المسلمين وإخراجهم، فكان عدوا لدودا لهذه الفكرة برغم أنه كان ليبراليا، وكان مع الجمهوريين، ولم يعد إلي إسبانيا إلا بعد أن مات فرانكو بسنوات طويلة. لكن الذي حسم القضية هو أميركو كاسترو، وهو رجل لم يكتب التاريخ سرد أحداث وإنما كان يفلسفه، وساعده على ذلك تمكنه من الألمانية، وتعمقه في فلسفتها، والألمان، كما نعلم، هم أصحاب الدراسات الأولى في فلسفة التاريخ. فهو يرى أن إسبانيا قبل العرب كانت مجرد تجمع جغرافي، والكلمة تطلق على مساحة، وليس على أمة أو شعب أو قومية. ودليله على هذا أن كلمة إسبانيا اختفت من المعجم اللاتيني تماما بعد الفتح الإسلامي، ولم توجد في أية مدونة ولا أي كتاب حتى القرن الرابع عشر الميلادي، وأن دول الشمال كان يطلق عليها اسم مملكة ليون ونابارا وقشتالة. وإذن فالحديث عن قومية إسبانية ظلت موجودة في شبه جزيرة أيبيريا، وانتهزت الفرصة كي تنقض على العرب وتخرجهم من إسبانيا هو كلام غير علمي وخاطئ ولا أصول له، وهو الذي يشوه الدراسات الإسبانية الحديثة - هكذا يرى - ويتعجب من أن الذين يحملون على العرب ويصفونهم بأنهم غزاة يطربون للآثار الرومانية ويتغنون بها، كأن الرومان كانوا إسبانا ولم يكونوا غزاة شأنهم شأن العرب. وهي نظرية لقيت رواجا كبيرا بين العلماء، وترجم كتابه إلى كل اللغات الأوروبية، الحديثة، وأنا أقوم بترجمته الآن إلى اللغة العربية. ونظرا لأن هذه النظرية وجدت رواجا وانتشارا وتقبلا فقد دفعت سانشز ألبورنوص ليرد عليها بكتاب آخر ضخم عنوانه "لغز إسبانيا". لكن هؤلاء ذهبوا جمعيا، كما قلنا، وجاء الجيل الجديد الذي تنسم الدراسات التي تمت في الجامعة المستقلة بتوجيه من بدرو مارتينيث، وبدأ يهتم بالأدب العربي ويستلهمه، ولذلك نجد شعراء كثيرين، وبخاصة من كان منهم من أصل أندلسي، يوظفون الرموز الأندلسية من مآذن وقباب وأسماء وشخصيات في قصائدهم. وبعضهم بدأ يضطلع بترجمة مختارات من الشعر الأندلسي للمعتمد ابن عباد وابن زيدون وآخرين، فضلا عن المختارات الحديثة، ولم يعد استلهام التراث العربي شيئا مشينا، وإنما عاد التاريخ العربي مجال زهو وفخار.

خطوات على الطريق

  • معنى ذلك أنه على الرغم من عدم وجود تطور في المستوى التقني للتعليم إلا أن هناك تطورا في الرؤية نحو الأفضل بالنسبة للتعامل مع العالم العربي؟

- مصدر ذلك الديموقراطية العظيمة التي يتمتع بها الإسبان الآن. كذلك يحمد لوزارة الخارجية الإسبانية أن معهد التعاون مع العالم العربي بدأ يرعى هؤلاء الشبان في اتجاهاتهم الجديدة، بالمسابقات والجوائز والإسهام في نشر دواوينهم وأعمالهم. لكن يبقى كذلك أن هذه الأعمال الجيدة والجميلة ينبغي أن تخرج من مجال النشر الرسمي إلى مجال النشر التجاري حتى تحدث أثرا أكبر، ولكي يقرأها القارئ العادي ويجدها المسافر في المطارات ومحطات السكك الحديدية، إذ الحق أنها الآن توجد في مكتبات الجامعات والمكتبات المتخصصة، ويلجأ إليها الدارسون وربما يتحاور حولها الشعراء والقصاصون والصحافيون في نوادي مدريد ومقاهيها الثقافية - وهي كثيرة - لكن لاتزال دون الانتشار الذي نأمله لها.

  • في خاتمة هذا الحوار ما رؤيتك لمستقبل هذه الدراسات العربية في إسبانيا؟

هم يحاولون أن يتعرفوا علينا، ويبذلون في ذلك الكثير، يقرأون لنا ويترجمون عنا، وبقي أن نقابلهم نحن، وأن نرد إليهم هذا الصنيع، فالأدب الإسباني في بلادنا مجهول، وما يترجم منه نادر، والذين يترجمون لا يجدون عونا، ويد واحدة لا تصفق. لا بد أن نلتقي بهم لنزداد نحن وهم معرفة والتصاقا وتعاونا.

 









د. الطاهر أحمد مكي





د. حامد أبوأحمد





نزار قباني





أحمد شوقي





 





روائع أسبانية