امرأة بين الصفوف

 امرأة بين الصفوف

تأليف: آرتوروآرياس

الهبوط كان بطيئاً، بطيئاً كان الوصول إلى حقل الذرة. من جانب إلى الجانب الآخر، من جانب من الممر المتعرج إلى الجانب الآخر. لم يتوقفن. أغذذن السير، من جانب إلى الجانب الآخر. ولهذا، ما كان في مقدورهن أن يحسسن الحمل الذي كان يتزايد أكثر فأكثر، الحمل الذي على ظهورهن، والحمل الآخر، الحمل المشتعل في أعماقهن كلهيب غاز لا ينطفئ. الحمل الذي يمكنهن أن يستشعرنه في أي جزء من الظلال المتفاوتة الطول التي ألقتها الأشجار على العشب الجاف. ثلاثتهن المصدومات رعباً، حمل أطفالهن على ظهورهن.

فكرت فيليثيانا أنها على وشك أن تجن. كانت حافية القدمين، لكن قدميها كانتا قد كفتا عن أن تكونا قدميها. وكان وجهها متورماً لعدم قدرتها على أن تصرخ، لعدم قدرتها على أن تصرخ يا إلهي. جنباً إلى جنب نحو سفح التل.

طلقات نارية. سمعنها عن قرب، كما لو أنها آتية من بركة الماء، أسفل التل، وسط استقبال حار من قبل الأشجار. السكون الذي أعقب ذلك أرعد الأوراق النباتية. أما الدوي فقد هز الأغصان وأوراق الشجر. كان قلبها طائرا مخضباً بالدم ملقى على العشب. طلقة نارية أخرى، لكن الدوي تبدد على الفور كما لو أنه سرب بعوض لاذ بالفرار، ثم تناهت إلى مشامها رائحة الكوردايت. لمست خدها كما لو أنها في حاجة شديدة إلى أن تتحسس الملمس الخشن للتجاعيد المبكرة المتوزعة على وجهها. وعلى حين فجأة، تبددت الغيوم، فغمرها وهج الشمس.

حركت يدها بإشارة لا تنم عن شيء. غابت مانويلا عن النظر عند أول منعطف. لم تسمع وما كان في مقدورها أن تسمع ما جدالينا الملقاة في حفرة على الطريق خارج زمام القرية. شعرت أنها داخل دوامة لا قرار لها. اتجهت نظرتها المذعورة نحو النهر الذي كان يمكنها رؤيته، على البعد، جنوبي منعطف الممر. لقد أرادت أن تتأكد أن شيئاً واحداً على الأقل باق في مكانه الأصلي. نعم، كان هناك النهر الممتد صامتاً وخالياً من البشر، شبيهاً بهيكل عظمي، تحت الوحشة التي تركها احتجاب قلب السماء.

توارت الشمس من جديد. عضت التراب الجاف الذي رسبه النسيم في فمها كما راكمه على فروع أشجار الصنوبر الكالحة. نظرت إلى السماء. بدت الغيوم كما لو أنها عدد لا حصر له من كلاب صيد سوداء تنشب أنيابها المتعطشة للحم في المنظر الخلوي وتصطف بطول خط الأفق لتطارد عدداً لا يحصى من حيوانات صيد مجهولة.

وكان النسيم الرطب ولكن المليء بالتراب شبيها بلهاث كلب، بالنفس الدافئ الصادر من شخص محتضر. كان القناصة يطوقون. زادت من سرعتها، ألوان البركة وسطوحها تختلج كما لو أنها لبحيرة عميقة تومض بعصبية. كان في مقدورها أن تحس أن قطرات العرق تتصبب من شعرها الأشعث. لم تجفف نفسها، تركت قطرات عرقها ترطب جلدها كما لو أنها، في تقاطرها المالح والبط، يمكن أن تكون الوسيلة التي تكبح الصراخ الذي يأتيها من أعماقها: ماجدالينا راقدة في الحفرة، صراخها الذي لا ينتهي.

وجه مستدير. عينان صغيرتان جففتهما كثرة الحزن. أنف سميك وعريض. ما كان جسداً قوي البنية ذات يوم يبدو الآن مهزولا مع كل دقيقة من هبوطها، من جانب إلى جانب، وعلى ظهرها حمل يجعلها من ثقلها في منأى عن الإحساس به. الشمس، قلب السماء، الساقطة على بلوزتها المطرزة بخيوط صفراء وحمراء وبنفسجية وبرتقالية، أزاحت حزمة ضوء من عليها لتخفف ما كانت تنوء به من حمل. زرت عينيها لتستكشف البعيد: مع أنه لم يعد هناك صوت لإطلاق نار، كان بإمكانها أن ترى الحيوانات وهي كلها تفر هاربة خارج غابة الأشجار.

أمامها كانت مانويلا. ظهرت وتوارت. كانت واقعة فريسة لخوف متعاظم. ولم يكن وراءها سوى روسندا، هي فقط ولا أحد سواها. ولكنها، مع ذلك، شعرت بأن القرية بكاملها تتدافع وراءها. كما لو أنهم جميعا أفلتوا من تلك الهوة ويمكنهم أن يبدأوا من جديد. ماجدالينا ملقاة في الحفرة. كل شيء عاد الآن إلى الذاكرة. لمست وجهها مرة أخرى لتتأكد أنها مازالت على قيد الحياة. كانت على قيد الحياة. لكن قواها العقلية كانت مشوشة. كل شيء كان مختلطاً، مستتراً خلف ستار من الضباب. اللون الرمادي ينساب من كل جانب. اليابسة تحت قدميها أخذت تميد بها، لكن ذلك لم يعد يوحي لها بشيء. كما أن اليابسة قد أصبحت الآن مجردة من عيدان الذرة. لاهثة من الجري، والعرق ينثال من كل جسدها. وفي الداخل، لم يعد شيء باقياً سوى الخوف.

أسرع من ذي قبل. ليس بسبب الحمل الآن، ولكن بسبب أنه لم يعد بإمكانها أن تحتمل لحظة أخرى تتنفس فيها ذلك الغاز المشتعل. جعلها الطائر المخضب بالدم مبهورة النفس. الظلال استطالت، وكلاب الصيد السوداء تلاحمت في شكل كمين. كانت مرهقة جدا، ومنهكة القوى، ومصابة بالإعياء من طول عنائها. أرادت أن تزيل العرق، لكن الحمول على ظهرها كانت ثقيلة جدا فلم تفكر في المخاطرة برفع ذراعها وفقد اتزانها، ثم شرعت في محاولة للتخلص من قطرات العرق الزاحفة باتجاه عينيها كما لو أنها نسور جائعة. ماجدالينا راقدة هناك. بركة الماء كانت عبارة عن مجرى ضيق يمكن الإطلال منه على السماء. التراب الجاف مالئ فمها. كانت في دوامة. ذلك النهر الذي غاص ماؤه تماماً.

أسرع من ذي قبل. مرقت سحلية بين قدميها ثم توارت خلف صخرة. لا بد أنها كانت راغبة في أن تتوقف وتتطلع إليها، لكنه ما عاد هناك وقت لأن هبوطهم كان قد استحال إلى سقوط.

يداها كانتا تتدليان ثقيلتين. وكان جسدها بكامله خدراً ملقى فاقد الوعي. فكرت في أنه يتعين عليها ألا تعود أبداً، فلم يكن هناك شيء لتعود من أجله، لا بل إنه يتعين عليها أن تبقى إلى الأبد داخل هذه الهاوية التي لا قرار لها، مصغية إلى دقات قلبها، دقات قلبها وحدها، حتى نهاية الزمان، أسرع، أسرع.

الهيكل العظمي للنهر كان أمامها مباشرة تقريباً. وكان المنعطف صاعداً. وكان عليها أن تنقل الحمل كله إلى شقها الأيسر حتى لا يؤدي إسراعها إلى سقوطها في الناحية اليمنى فتنتقل أبدياً إلى الهوة الأرضية المظلمة. على نحو غامض، تذكرت أمها وهي تعلمها هذه الحركة. قسرت نفسها على أن تتذكر، لكن الصورة الوحيدة التي استحضرتها إلى ذهنها كانت ماجدالينا، القرية بكاملها تتدافع وراءها. أجسام ذات أطراف مطاطة زاحفة نحو هوة مظلمة وقد مزقتها كلاب الصيد بشراسة. الغيوم طوال الوقت، باردة، ربما بسبب الطائر المخضب بالدم، لهيب الغاز المشتعل أبداً، مضغ التراب الرمادي الجاف. لا ذرة. المنعطف في الممر.

كوّرته ثم توقفت قليلاً. ما عاد من الممكن تجنيبها من الارتطام بطفلة مانويلا. تعالى صراخ الرضيعة كالصفير، كانت يداها الصغيرتان تتأرجحان في الهواء. معاً وعلى حدة، معاً على حدة.

مانويلا كانت تقف ساكنة بلا حراك، كتمثال. كما لو أنها كائن لا حياة فيه، كجذع شجرة لا يمكن تمييزه عن جذوع الشجر الأخرى، مشرئبة بعنقها لتحملق في الأعماق الظلية لبركة الماء. طعم التراب في فمها. خانق لها، الثقل الملتهب، كلاب الصيد المسعورة. ودت لو أنه كان في مقدورها أن تفر خلال الظلال التي تلقيها الأشجار على العشب الجاف. لكن وجهها كان قد تورم لدرجة أنه ما كان في مقدورها أن تعرف أين قلب السماء. الأنياب تجاهد لتنتزع منها صرخة. عملية ما كانت لتنتهي أبداً. كن قد انقلبن داخل هوة. النسور الجائعة أصبح ممكنا لها الآن أن تنقر عينيها.

الآخرون كانوا يتسلقون نفس الطريق، صف الرءوس صار قريباً. كانوا يحملقون في النساء. الواحدة بعد الأخرى، الواحدة بعد الأخرى. يتقدمون بخطى منتظمة وواثقة. أما هي، فكانت قد قطعت شوطاً طويلاً حتى وصلت إلى لا مكان. وما عاد من الممكن لها أن تصل إلى أي مكان.

على الطريق الذي ساروا فيه هم وشاراتهم، بدوا مثل قطط برية. كل ما كان ينقصهم هو الأظفار.

أحست بضربة قوية على ظهرها، وبلكزة كوع، أصوات نحيب أحاطت بها من جديد فبدا لها لو أنها في دوامة. غير أن دفء الصراخ لم يوفر لها أي حماية. كانت روسندا هي التي ارتطمت بها فاصطدمت هي بمانويلا. ثلاثتهن كن وقعن في الكمين. لم يكن من سبيل أمامهن إلى التقهقر. تذكرت خرائب القرية. لقد كانت هناك ذات مرة. لقد كانت. أما الآن فقد انتهى كل شيء. القطط البرية المتسلقة تقترب أكثر فأكثر، الواحد تلو الآخر، وها هم الآن على قيد خطوات.

على نحو غريزي، استندت بظهرها إلى جذع شجرة. وفعلت كل من مانويلا وروسندا نفس الشيء. ليت في مقدورها أن تندمج بالأوراق الخضراء، أن تتبخر كما تتبخر مياه نهر جفف، أن تنزع فتيلاً لايزال مشتعلاً في داخلها.

أغذوا السير نحو النسوة اللائي كان في مقدورهن أن يسمعن نشيجاً. ثلاثتهن غالبن ميلهن إلى الصراخ في وجه هذا السكون اللا محدود. نظرن إلى بعضهن البعض، ثم إلى صف الجنود

أدركت شيئاً لم تكن قد أدركته من قبل. كانت هناك ثلاث نساء أخريات وسط صفوف الجنود. أول ما أدهشها عيونهن اللامعة وأفواههن الواسعة. أحست ببرودة وبأن كل شيء غاب في الظلام. لا يمكن أن يكون الأمر كذلك. كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك?! دوى انفجار اهتزت له أذناها وعيناها. انهالت على مخيلتها شذرات من الذكريات، مزق متنوعة تناثرت على أرض صلبة. أحست بأنها ملطخة وبأن صراخ الأطفال يثقبها. كان في إمكانها أن تتنفس بالكاد، كمن يتوقع لطمة قوية، صمت. صراخ الأطفال ليس إلا. الآن، طابور الجنود أصبح فوقهن تماماً. فوقهن بالضبط. لكنها لم ترغب رؤية ذلك.

لم تستطع أن تتجنب الأمر ونظرت. كانت النساء الثلاث مخفورات وقد قيدت أيديهن خلف ظهورهن. جنديان على جانبي كل امرأة قابضان على الذراعين. يدفعانها دفعاً ويجرجرانها على الأرض. أرجلهن رسمت خطوطاً عجيبة على التراب وتركت ذيولاً طويلة تفرعت هنا وهناك لتشكل صوراً غريبة يتم محوها أولاً فأولا. ثم الضباب من جديد.

النساء الأخريات كن مطوقات تماما. ذلك كان السبب في أنه لم يكن في مقدورها أن تحصي عددهن بدقة. كل شيء حولها كان مهتزاً. الأشياء بدت متضخمة بنسب مختلة. ودت لو أنها انفجرت ضاحكة مستشعرة بأن ماجدالينا تكابد سكوناً كهذا وهي ترقد داخل الحفرة على مشارف القرية.

سبق لها أن رأت المرأة المطوقة من قبل. حاولت أن تدعي أنها لم تتعرف على وجهها، إذ كان الجنود يرقبونها عن قرب شديد، عن قرب شديد. لكنها، على أي حال، لم تتعرف على الوجه. نعم، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تراها فيها جيداً، مع أنها لا بد أن تكون قد لمحتها من قبل في مكان ما، ربما في سوق في أحد الشوارع. قبلاً كان كل شيء ممكناً. قبلاً.

هي طبعا، لم تميز الوجه. ذلك برغم أن هذه لم تكن المرة الأولى التي تراها فيها. فالمرأة التي بين الصفوف، هذه الأجنبية التي يجرجرها الجنود وقد قيدت يداها خلف ظهرها، كانت هذه المرأة هي أمها.

واصل الصف الطويل صعوده نحو أعلى المنحدر، واختفى عند المنعطف. وحينذاك، حملقت فيليثيانا في البقعة التي كانت المرأة قد توارت عندها، لكنها لم تر إلا النباتات الأرضية الداكنة.

 

آرتوروآرياس