ابن رشد.. التأويل والتعددية نصر حامد أبوزيد
الحديث عن ابن رشد هو الحديث عن العقل المهاجر، العقل الذي طردته الثقافة العربية الإسلامية، فتلقفته الثقافة الأوربية الناهضة، ومنحته الحماية، فأشرق بنوره في أنحائها وساهم في تبديد ظلمات القرون الوسطى.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يولد هذا العقل في بيئة الأندلس، ملتقى العوالم والتقاء الثقافات بعد التقاء اللغات والأديان. إنها البيئة التي أنتجت عقلانية ابن رشد وصوفية ابن عربي وإشراقية ابن طفيل. إن "حي بن يقظان" - ودلالة الاسم لافتة - هو الباحث عن الحقيقة وراء اللغات والأديان، الحقيقة كما يصل إليها الإنسان المتوحد في الفلاة معتمدا على حواسه وتجاربه وخبرات منتقلا من الحسي إلى العقلي، ومن العقلي إلى ما وراء المادة والعالم، فيصل إلى الحقيقة التي لا تخالف ما وردت به الشرائع السماوية على لسان الرسل والأنبياء.
هذا الإنسان القادر على المعرفة، والقابل لممارسة حق الاختلاف النابع من اختلاف القدرات وتعددية التأويل، هو الإنسان الذي يحرص ابن رشد على إبرازه وتأكيد وجوده. ونحن في أزمتنا الراهنة التي تظهر وتتجلى على جميع المستويات والأصعدة - اجتماعية واقتصادية وثقافية وفكرية بل وحضارية - نحتاج إلى هذا الإنسان بوصفه أملنا الوحيد في اجتياز تلك الأزمة والعودة إلى المشاركة في صنع الحضارة الإنسانية والمساهمة في تقدم النوع البشري. نحن - بعبارة أخرى - في حاجة إلى استرداد عقلنا المهاجر - ابن رشد - لا بمنطق "هذه بضاعتنا ردت إلينا"، بل بمنطق استرداد ذلك العقل مضافا إليه ما اكتسبه في صيرورته التاريخية وتحولاته الحضارية والفكرية. إن ابن رشد المطرود - والذي نفخر كثيرا بإنجازاته دون وجه حق - يحتاج منا أن نستقبله بروح جديدة وبوعي مغاير لذلك الوعي الذي تسبب في تهميشه أولا ثم في طرده بعد ذلك. وإنجازات ابن رشد عديدة ومهمة وتغطي كثيرا من مجالات المعرفة، وما تزال تحتاج للدرس والتحليل من منظور الوعي بالأزمة الراهنة. لكني سأتوقف هنا أمام دلالتين أرى أنهما شديدتا الأهمية من منظور أزمة الفكر المعاصر في عالمنا العربي الإسلامي.
التعددية ودلالة الاختلاف
الدلالة الأولى هي دلالة "التعددية"، بكل ما تنطوي. عليه من دلالة "الاختلاف" لا في شئون الحياة والمجتمع فحسب، بل في شأن الدين والعقيدة أيضا. وإذا كان الاختلاف في شئون الحياة والمجتمع هو اختلاف مصالح وأغراض، فإن الاختلاف في شان الدين والعقيدة هو اختلاف "تأويلات" ليست بمنأى تام عن اختلاف المصالح والأغراض. هكذا تفضي التعددية إلى التأويل من حيث إن جذرهما واحد في الحكمة الإلهية. وإذا كان "التأويل" يمثل الدلالة الثانية التي سنتوقف عندها في محاولة استعادة ابن رشد، فإن وقوعه فرعا للتعددية لا ينفي أنه يؤصل للتعددية. وبعبارة أخرى إذا كان تعدد التأويلات في فهم النصوص الدينية أمرا مشروعا، فإن الاختلاف والتعدد في شئون الحياة والمجتمع يكتسب به مشروعية أعمق تضاف إلى مشروعيته العقلية الخالصة.
والغريب أن كثيرا من الباحثين في زمن الميل إلى إلغاء التعدد والاختلاف لحساب هيمنة فصيل اجتماعي وسياسي واحد، وسيطرة اتجاه فكري واحد بعينه، فهموا من ابن رشد أن جل همه ومحور فلسفته هو إبراز عدم الاختلاف بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة. وتناسوا، أو بالأحرى تجاهلوا، أنه وهو يؤكد عدم الاختلاف كان يؤصل التعددية والاختلاف بين البشر. وكان في الوقت نفسه يؤكد أن رفع الاختلاف لا يتم إلا بآليات العقل الإنساني لاكتساب المعرفة البرهانية اليقينية من جانب، ولتأويل ما يتعارض مع هذه المعرفة تأويلا صحيحا من جانب آخر. وبعبارة أخرى اهتم الباحثون غالبا بثمرة فكر ابن رشد ونتيجته دون أن يكتسبوا آليات تفكيره ذاتها. وهذا النهج بعينه هو نهجنا في التعامل مع الفكر شرقيا كان أم غربيا، فلا نتعامل معه بوصفه فعالية متحركة دينامية، بقدر ما نهتم بالنتائج النفعية المباشرة.
عدم التناقض.. واكتساب المعرفة
لذلك اخترنا رسالته "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" (تحقيق محمد عمارة، دار المعارف، مصر، 1972م) لكي نحلل من خلالها الكيفية التي يتناول بها هذا "الاتصال"، دون أن نقف عند حدود النتيجة ونستثمرها استثمارا نفعيا. والرسالة تلخيص لفلسفة ابن رشد التي لا يمكن تناولها في المساحة المتاحة هنا، وهي الفلسفة التي لا تسعى إلى إلغاء الحكمة لحساب الشريعة كما توهم البعض، ولا لإلغاء الشريعة لحساب الحكمة كما توهم آخرون. والأحرى القول إنها فلسفة تؤكد عدم التناقض المعبر عنه بكلمة اتصال التي تؤكد التمايز والاختلاف في المناهج والأدوات والأساليب، وتؤكد في الوقت نفسه التآلف والانسجام. وبعبارة أخرى يذهب ابن رشد إلى أن حاجتنا إلى الشريعة لا تقل عن حاجتنا إلى الحكمة ولا تزيد لأنهما نهجان متمايزان في المعرفة تحتاج إليهما البشرية. وتعليل ذلك في تعدد طباع الناس، واختلاف استعدادهم.
إن طباع الناس - فيما يقول ابن رشد - تختلف في قابليتها لاكتساب المعرفة، التي يسميها "التصديق". فمن الناس من يكتسب المعرفة بالأقاويل البرهانية، وهي الأقاويل الفلسفية، أي بآليات التفكير النظري التجريدي، ومنهم من لا يقبل عقله هذه البراهين ويكتفي بالأقاويل الجدلية التي يكتسب بها المعرفة كما يكتسب الفريق الأول معرفته بالبراهين. لكن ثمة فريقا ثالثا من البشر لا يقبل الأقاويل البرهانية ولا الأقاويل الجدلية، ولا يتسع طبعه إلا للأقاويل الخطابية (ص 31). هذا الاختلاف في طبائع البشر لم يفض فقط إلى تعدد وسائل اكتساب المعرفة - الأقاويل - بل أفضى إلى أن تراعي الشرائع السماوية هذا الاختلاف. وهذه نقطة مهمة في خطاب ابن رشد الذي لا نحتاج إلى تأكيد أنه يرى أن المعرفة اليقينية هي المعرفة البرهانية، في حين أن المعرفة الجدلية معرفة ظنية فقط، ويبقى للمعرفة الخطابية أنها معرفة تخيلية.
رغم هذا التفاوت في قيمة المعرفة المنتجة في كل نمط من الأقاويل، حرصت الشرائع السماوية على استخدامها جميعا بما هي خطاب للناس جميعا، وليس خطابا لفريق من البشر دون فريق. لذلك عم التصديق بها كل إنسان، كما يقول ابن رشد "إلا من جحدها عنادا بلسانه أو لم تتقرر عنده طرق الدعاء فيها إلى الله تعالى لإغفاله ذلك من نفسه. ولذلك خص عليه الصلاة والسلام بالبعث إلى الأحمر والأسود، أعني لتضمن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالى، وذلك صريح في قوله تعالى "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (ص 31). إن تضمن الخطاب الإلهي لأنماط الدعوة الثلاثة - الحكمة والموعظة والجدل - يؤكد من منظور ابن رشد التسليم بتعدد الطباع. ولم يكن للخطاب الإلهي أن يتجاهل هذا التعدد الذي يرتد إلى الطبائع التي خلق الله الناس عليها من جهة، والى اختلاف المرجعيات الاجتماعية والمعرفية من جهة أخرى. وليس اختلاف الطبائع من منظور ابن رشد مجرد اختلاف في الاستعداد الفطري الطبيعي، بل لهذا الاختلاف أسبابه في العادات الاجتماعية وفي طبيعة التعليم. يقول ابن رشد: "وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان. فقد تلطف الله فيها لعباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان، إما من قبيل فطرهم، وإما من قبل عاداتهم، وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم، بأن ضرب لهم أمثالها وأشباهها، ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال، إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع، أعني الجدلية والخطابية. وهذا هو السبب في أن انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن، فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان" (ص 46).
الشرائع لا تلغي التعددية
التعددية إذن القائمة في طباع البشر وفي اختلاف عاداتهم ومرجعياتهم أمر حرصت الشرائع على التعامل معه بوصفه حقيقة سابقة عليها. ولم تسع الشرائع لإلغاء التعددية أو للقضاء عليها بدليل أنها انطوت في بنية خطابها - الخطاب الإلهي - على تعددية مماثلة تجعل الخطاب مفتوحا لآفاق التأويل والفهم. إن ثنائية الظاهر والباطن التي يتضمنها الخطاب الإلهي ليست ثنائية تسعى إلى الإخفاء كما فهم بعض المتصوفة والباطنية، ولكنها ثنائية التعددية في البشر وتسمح لكل البشر بأن يكونوا مخاطبين. وبعبارة أخرى ليست الشرائع خطابا موجها للصفوة التي تمتلك حق احتكار الفهم والتأويل، بل هي خطاب للناس جميعا تعددت مستوياته مراعاة لاختلاف مستويات المخاطبين.
هذه التعددية المنعكسة في تعدد مستويات الخطاب الإلهي من شأنها أن تفضي إلى تعددية "التأويلات"، لكن هذا من شأنه لو ترك الأمر بدون ضابط معرفي أن يشوش المعرفة الدينية ويخضعها للأهواء، ويبدو أن ابن رشد كان حريصا أشد الحرص على الضوابط المعرفية التي لا تلغي التعددية ولا تسعى للقضاء عليها من باب خلفي تحت عناوين ويافطات مضللة. إن السبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها (ص 33 - 34) وهذا من شأنه أن يثير اعتراضا منشؤه "الإجماع". يورد ابن رشد الاعتراض على الوجه التالي:
إن في الشرع أشياء قد أجمع المسلمون على حملها على ظواهرها، وأشياء على تأويلها، وأشياء اختلفوا فيها. فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره؟ أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله؟ (ص 34) وبعبارة أخرى: هل يمكن أن يحدث تعارض بين الفهم والتأويل المعتمد على البرهان وبين الإجماع المعرفي؟ في سياق الرد على هذا الاعتراض يبدو ابن رشد حريصا أشد الحرص على السياج المعرفي - البرهان - بوصفه السياج العاصم من الزلل. والإجماع ليس سياجا معرفيا بمستوى السياج البرهاني، لأنه ينتمي إلى الظني في الغالب ولا ينتمي إلى البرهان. قد ينتمي الإجماع إلى مجال البرهان ويتمتع بدرجة المعرفة اليقينية في مجال الشئون العملية، لكنه في مجال المعرفة النظرية - أو النظريات بلغة ابن رشد - لا يكاد يتجاوز حدود "الظني" والاحتمالي. وبعبارة أخرى لا يرقى الإجماع معرفيا لمستوى البرهان ويطل في حدود الجدلي. بالإضافة إلى ذلك - أي إلى ظنيته - فهو يكاد يكون مستحيل الوقوع، لأنه ليس ممكنا أن يتقرر الإجماع في مسألة ما في عصر ما إلا بأن يكون ذلك العصر عندنا محصورا، وأن يكون جميع العلماء الموجودين في ذلك العصر معلومين عندنا، أعني معلوما أشخاصهم ومبلغ عددهم، وأن ينقل إلينا في المسألة مذهب كل واحد منهم فيها نقل تواتر، ويكون مع هذا كله قد صح عندنا أن العلماء الموجودين في ذلك الزمان متفقون على أنه ليس في الشرع ظاهر وباطن، وأن العلم بكل مسألة يجب أن لا يكتم عن أحد، وأن الناس طريقهم واحد في علم الشريعة (ص 35) وينتهي ابن رشد إلى أنه لا يمكن أن يتقرر في التأويلات التي خص الله العلماء بها، إجماع مستفيض، وهذا بين بنفسه عند من أنصف (ص 38).
هذا الحرص على التعدد والاختلاف لا ينفي وجود الثوابت المتفق عليها في الشرائع عند ابن رشد. وتتحدد تلك الثوابت في المعارف التي يمكن الوصول إليها بالطرائق الثلاث المذكورة - البرهان والجدل والخطابة - بالدرجة نفسها من الوضوح واليقين. وتتحدد هذه الثوابت في أصول من أهمها: "الإقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوات وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي. وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الدلائل الثلاثة التي لا يعرى أحد من الناس من وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته، أعني: الدلائل الخطابية، والجدلية والبرهانية، فالجاحد لأمثال هذه الأشياء، إذا كانت أصلا من أصول الشرع، كافر، معاند بلسانه دون قلبه، أو بغفلة عن التعرض إلى معرفة دليلها، لأنه إن كان من أهل البرهان، فقد جعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان، وإن كان من أهل الجدل فبالجدل، وإن كان من أهل الموعظة فبالموعظة" (45 - 46). لكن هذه الأصول لا تتميز بالوضوح الذي لا يحتاج إلى التأويل إلا على مستوى المعرفة الكلية العامة، أي المعرفة غير التفصيلية. من هنا يميز ابن رشد بين مستويات ثلاثة في التأويل تتجاوب مع مستويات المعرفة الثلاثة: المستوى الأول هو مستوى الخطاب الذي يفهمه على ظاهره بلا تأويل، والمستوى الثاني هو المستوى المختلف فيه بين من يرون ضرورة تأويله وبين من يرون عدم تأويله. والمستوى الثالث هو المستوى الذي لا يتفق الجميع على ضرورة تأويله لأن حمله على الظاهر محال.
مستويات التأويل.. مستويات المعرفة
وفي المستويين الثاني والثالث يقع الخلاف بين العلماء في التأويل، وذلك بحسب مرتبة كل ما حد من معرفة البرهان، أو بسبب غموض الموضوع أو عواصته بلغة ابن رشد، أي لكونه عويصا - واشتباهه، والمخطئ في هذا معذور، أعني من العلماء (ص 51). والمثال الذي يوضح أن الاختلاف في فهم الأصول اختلاف مشروع أن السعادة الأخروية والشقاء الأخروي من الأمور المقررة الظاهرة في الشريعة، أي من الأمور المعلومة بالطرق الثلاث: البرهانية والجدلية والخطابية. من هذه الزاوية يرى ابن رشد أن المتأول لهذا الأصل من أصول الشريعة كافر "مثل أن يعتقد أنه لا سعادة أخروية ها هنا ولا شقاء، وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وأنها حيلة، وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط " (ص 47). ومعنى ذلك أن تأويل الخطاب بهدف إلغائه وإنكار السعادة والشقاء الأخرويين هو التأويل المخالف للأصل، وليس كذلك الأمر في تأويل كيفية السعادة وكيفية الشقاء. يرى ابن رشد: "إن هذه المسألة، الأمر فيها يبين أنها من الصنف المختلف فيه، وذلك أنا نرى قوما ينسبون أنفسهم إلى البرهان، يقولون: إن الواجب حملها على ظواهرها إذ كان ليس ها هنا برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها، وهذه طريقة الأشعرية. وقوم آخرون أيضا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها، وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافا كثيرا. وفي هذا الصنف أبوحامد (الغزالي) معدود هو وكثير من المتصوفة، ومنهم من يجمع فيها التأويلين كما فعل ذلك أبوحامد في بعض كتبه.
ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذورا، والمصيب مشكورا أو مأجورا، وذلك إذا اعترف بالوجود، وتأول فيها نحوا من أنحاء التأويل، أعني في صفة المعاد لا في وجوده، إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود، وإنما كان جحد الوجود في هذا كفرا، لأنه في أصل من أصول الشريعة، وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود" (ص 49 -51).
هكذا تتحدد الأصول عند ابن رشد - المجمع عليها دون خلاف - في الأصول التي لا يعذر أحد بجهالتها، إذا استخدمنا عبارة علماء أصول الفقه. وهذا تحديد ينفي عن الإجماع السلطة المعرفية البرهانية التي أضيفت عليه في سياق تاريخنا الفكري والعقلي. الإجماع المعرفي الذي هو إجماع العلماء، أمر عسير، فضلا عن أنه ظني وليس برهانيا. هكذا يصبح الاختلاف الناتج عن التعدد أمرا مقررا مفروغا منه، وليس قيمة في حاجة إلى إثبات أو اعتراف. وليس تعدد التأويلات واختلاف العلماء في التأويل إلا نتيجة طبيعية لهذا التعدد الطبيعي والاختلاف بين البشر. لكن إذا كانت الشريعة قد استخدمت في خطابها الأقاويل الثلاثة، وإذا كان البرهان هو المعرفة اليقينية، فمن الضروري أن يكون البرهان هو أساس التأويل ومعياره، لذلك نفهم التفرقة التي أكدناها في النص السابق والتي يضعها ابن رشد بين من ينسبون أنفسهم إلى البرهان وهم الأشعرية، وبين الفلاسفة ممن يتعاطى البرهان بالفعل. وللتأويل في خطاب ابن رشد جانبان: الأول ضرورة اعتماده على البرهان الذي يحدد مرجعية المعنى والدلالة، الثاني: أن يوافق قوانين اللغة العربية ولا يتعارض معها.
بين البرهان والشريعة
يحدد ابن رشد الجانب الأول على الوجه التالي: الشريعة حق، وهي تدعو إلى معرفة الحق، ومعنى ذلك أن النظر البرهاني لا يمكن أن يفضي إلى مخالفة الشرع: "فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له" (ص 31 - 32). وللبرهان في علاقته بالشريعة ثلاثة احتمالات: الاحتمال الأول أن يصل البرهان إلى حقائق سكت عنها الشرع سكوتا تاما، أي حقائق تقع خارج مجال الشريعة والدين. ولا مشكلة إزاء هذا الاحتمال الأول، فالفيلسوف هنا - أو صاحب البرهان - يخوض في شئون لا دخل للشريعة بها، ومثله في ذلك مثل الفقيه الذي يستنبط بالقياس الشرعي حكم ما سكت عنه الشرع من الأحكام (ص 32). لكن ثمة فارقا مهما يلح عليه ابن رشد بين درجة اليقين البرهاني عند الفيلسوف وبين المعرفة الظنية التي ينتجها القياس الشرعي عند الفقيه "فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف عنده قياس يقيني" (ص 33).
الاحتمال الثاني أن يكون هناك اتفاق بين الحقيقة التي نتوصل إليها بالبرهان وبين حقيقة ندركها من ظاهر الخطاب الشرعي، أي من ظاهر الدلالة اللغوية دون الحاجة إلى التأويل. ولا مشكلة على الإطلاق إزاء هذا الاحتمال الثاني، لأن الاتفاق بين البرهان والخطاب الشرعي اتفاق ملموس. تتركز المشكلة إذن في الاحتمال الثالث وهو أن يقع الاختلاف والتناقض بين الحقائق البرهانية وظاهر الخطاب الشرعي. وحل ذلك الاختلاف لا يكون إلا بالتأويل الذي يعتمد على طبيعة التعدد التي سبق الحديث عنها في الخطاب الإلهي مراعاة لأحوال المخاطبين وتعدد مستوياتهم. هذا إلى جانب اعتماده مبدأ "عدم مخالفة الحق للحق". لكن للتأويل شرطا مهما هو عدم مخالفة قوانين اللغة العربية، وهو الجانب الثاني من جوانب التأويل، الجانب الذي يمثل وجها آخر لغويا للجانب الأول البرهاني. يقول ابن رشد محورا معنى التأويل ودلالته من الجانبين المشار إليهما:
ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غيرك لك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي. وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية، فكم بالحري يفعل ذلك صاحب علم البرهان؟ فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف عنده قياس يقيني. ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب فيها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول (ص 32 - 33).
وإذا كان التأويل يستمد من مرجعية البرهان من جهة، ومن قوانين الكلام من جهة أخرى، فإن درجات الناس في العلم بالجهتين متفاوتة، وهذا هو الذي يجعل عملية الإجماع صعبة، بل مستحيلة. ومعنى ذلك أن الاختلاف والتعدد يظلان قائمين رغم بذل الوسع في الوصول إلى الحقائق البرهانية اليقينية من جهة، وفي فهم قوانين اللغة التي هي أساس التأويل من جهة أخرى. هكذا يفهم ابن رشد من الآية السابعة في سورة آل عمران أن قوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا أن الراسخون في العلم معطوف على اسم الجلالة وأنهم يعلمون التأويل. وهو بهذا الفهم يعارض قراءة أخرى للآية يقف أصحابها عند اسم الجلالة على أساس أنه نهاية الجملة، ويرون أن والراسخون في العلم بداية جملة جديدة، يقول ابن رشد جامعا أطراف القضية كلها:
"وقد تبين من قولنا أنه ليس يمكن أن يتقرر إجماع في أمثال هذه المسائل، لما روي عن كثير من السلف الأول، فضلا عن غيرهم، أن ها هنا تأويلات يجب ألان يفصح بها إلا لمن هو من أهل التأويل وهم الراسخون في العلم، لأن الاختيار عندنا هو الوقوف على قوله تعالى: والراسخون في العلم، لأنه إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل، لم يكن عندهم مزية تصديق توجب لهم من الإيمان به ما لا يوجد عند غير أهل العلم. وقد وصفهم الله تعالى بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل، فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم من أهل الإيمان به لا من قبل البرهان. فإن كان هذا الإيمان الذي وصف الله به العلماء خاصا بهم، فيجب أن يكون بالبرهان، وإن كان بالبرهان فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل، لأن الله عز جل قد أخبر أن لها تأويلا هو الحقيقة، والبرهان لا يكون إلا على الحقيقة، وإذا كان ذلك كذلك، فلا يمكن أن يتقرر في التأويلات، التي خص الله العلماء بها، إجماع مستفيض، وهذا بين بنفسه عند من أنصف (ص 37 - 38).
لكن ابن رشد الداعي للتعددية والحريص عليها، المؤمن بحق الاختلاف، الذي يجعل من التأويل الصلة الجامعة بين البرهان والشريعة، كان ينتج خطابه في سياق ثقافي حضاري مؤذن بالأفول. وقد كانت محاولات ابن عربي للجمع والتوفيق بين فرق الأمة وفصائلها، بل بين الأمة وغيرها من الأمم، في منظومة فكرية تأويلية واسعة هي خاتمة المطاف في ثقافة التعدد وحضارة الاختلاف. وكان أبو حامد الغزالي قد سبقهما في القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي - في سبيل مشابه ولكن نحو غاية مغايرة: إلغاء العقل والبرهان لحساب النقل والسماع، وإن كان قد فعل ذلك بآليات البرهان ذاته، كان الغزالي قد وجه هجومه الحاد والقاسي والذي كان أشبه بالضربة القاضية في "تهافت الفلاسفة" حيث لجأ إلى تكفير الفلاسفة في مجموعة من القضايا والأفكار. ورغم أن ابن رشد حاول أن يكشف تهافت التهافت، ويستعيد للبرهان مكانته في مرجعية التأويل، فإنه لم يسلم هو نفسه من علامات التراجع التي كانت واضحة في الثقافة التي ينتمي إليها.
هذا الانحياز للبرهان وللتعددية والاختلاف حتى على مستوى التأويل هو ما يدعونا اليوم لاستدعاء عقلنا المهاجر ابن رشد لحاجتنا إليه في ظروف واقعنا المأزوم على جميع الأصعدة، ولكن ونحن نستدعي ابن رشد لا بد أن نضيف إليه ما حققته البشرية من إنجازات المساواة بين البشر، وفي مجال حقوق الإنسان.
ومن أهم تلك الحقوق حق المعرفة والتعلم واكتساب اليقين. وإن البرهان الذي انحاز له ابن رشد والتعددية والاختلاف اللذين حرص عليهما كان بمثابة الأساس للإنجاز الإنساني في مجال حقوق الإنسان. من هنا فنحن حين نختلف مع حرص ابن رشد على التمايز والفصل بين المستويات، إنما نختلف معه ونحن على الأرض التي قهرها وساهم في إخصابها بثمار عقله. وقد يصح أن نقول في هذه الحالة: إنها بضاعتنا ردت إلينا، ولكن بشرط أن نفهم أنها البضاعة التي أضاف إليها الآخرون وبلوروها باستثمار أكثر جوانبها إشراقا وإيجابية.