الرسومات الجدارية.. في مقابر بني حسن في صعيد السيد القماش
الفن مع الإنسان منذ النشأة الأولى، وجميع ما نراه من مضامين ومن أساليب فنية قام بها الإنسان ولا يزال، جزء لا يتجرأ من تاريخه، بل ومن ثقافته وتراثه وعلومه، ويتشكل مع اختلاف المكان وتباين الزمان ويتغير بتغير الفكر وتنوعه واختلاف المشاعر والوجدان، حتى نستطيع أن نقول إن الفن بالنسبة للإنسان هو المقياس الحقيقي لرؤيته الشخصية والنفسية والحسية والنفعية والحضارية أيضا.
الفن كما تقول سوزان لانجر "هو بمثابة بلورة لكل نشاط المجتمع.. وسجل صادق لوجدان الناس ووعيهم بصفة عامة". كما أن الخبرة الجمالية - في رأي ديوي "هي مظهر لحياة كل حضارة وسجل لها، ولسان ناطق يخلد ذكراها ويحفظ أمجادها، والحضارة هي البوتقة الكبرى التي تصهر صناعات الجماعة وفنونها.. وشتى مظاهر نشاطها" وهكذا نستطيع أن نقول إن لكل حقبة تاريخية طرازها وفكرها الخاص، ولكل مجتمع رؤيته وأسلوبه الذي يصطنعه للتعبير به عن نفسه في الفن، كان الأفراد في كل حقبة زمنية يستحدثون التجربة الجمالية، وهم الذين يتمتعون بتذوقها ويعيشونها ويقومون بتجويدها حتى يصلوا إلى درجة الكمال بها، إلا أن الحضارة التي ينتسبون إليها هي التي تسهم في تكوين الجانب الأكبر من مضمون تجربتهم، حيث يعيشون هذه الحضارة بكل اختلاف مكوناتها.
والأجداد في مصر الفرعونية، وبداخل مقابرهم العظيمة، وعلى جدرانها سجلوا عالمهم الذي كانوا يعيشونه بكل غموضه وأسراره، بكل تحديهم للصخر والتغلب عليه، وجعله طوعا بين أناملهم التي جعلت من الرهبة أنسا، ومن الوحشة ألفة، ومن الخوف تعجبا لقدرة هؤلاء العظماء، بما تركوا من صور ورسوم على جدران تلك الحجارة الصماء التي لا تنطق إلا بألوانهم وخطوطهم ورسوماتهم التي توحي بوجدان عامر بالجمال، فبدت ساحرة في أسلوبها، قوية في تعبيرها تجعل الرائي مشدوها معجبا بقدرتهم وبفنهم..
لقد جعلوا من هذه الجدران لوحات تمدنا بما كان في حياتهم من مغامرات في الصحراء، ومن عمل دائب في الحقول، ومن تأكيد العلاقة بين الموسيقى والرقص والغناء، وكذلك لوحات تصور لنا الحياة الأخرى بمواكبها الجنائزية وهي تتجه إلى الآلهة والمثول بين يديها والخوف من الحساب، ويؤكد هذا ثروت عكاشة فيقوله: "وما هذا إلا لأن فنون مصر الجميلة ولدت مع مولد مصر بأساطيرها ومعتقداتها الدينية المليئة بالأسرار" (تاريخ الفن / ج2).
وإننا إذ ما تأملنا هذه اللوحات الجدارية وتلك الرسوم وجدناها تحمل بين طياتها سمات الفن المصري القديم،. وهي سمات واضحة ميزته على مر للعصور التاريخية التالية، بالرغم من أنها اختلفت باختلاف الزمان والمكان، إلا أنها في الغالب كانت توائم التقاليد الفنية السائدة التي يقرها حكامه. ويعتقد أن ذلك يرجع إلى العوامل الجغرافية والاقتصادية والدينية التي كان لها الفضل الأكبر في تشكيله، ويجدر بنا أن نسجل أن المصريين القدماء هم من أكثر شعوب العالم تمسكا بتقاليدهم الفنية ومعتقداتهم الدينية، ولذلك فلا عجب أن نلاحظ أن سمات الفراعنة قد بقيت قوية على مر العصور والأزمان، ما بقيت الديانة المصرية.
ويعتبر الفن المصري القديم من أعظم فنوق العالم، إذ يتسم بالمرونة كما يتسع في جملته لجميع الاتجاهات الفنية.
وإذا أردنا أن نحدد ماهية الفن المصري القديم، فإننا نقصد بذلك ما تركه لنا قدماء المصريين عن فنون العمارة والنحت والتصوير، التي يرجع أقدمها إلى خمسة آلاف سنة على أقل تقدير.
وإني أتفق في الرأي مع "مايزر" في كتابه القيم (الفنون التشكيلية وكيف نتذوقها)، حيث يرى أن الفنان المصري القديم كان (يندفع إلى خلق تكوين مكون من خطوط وألوان وملامس وغيرها ويفكر في معاني التصميم"
الدولة الوسطى
وفي الدولة الوسطى بدأ الفنان يهتم بالتصوير على الحوائط مباشرة، والسبب في ذلك يرجع إلى حوائط المقابر المحفورة في الجبل من الحجر الجيري الصلب جدا والخشن، حيث يتعذر على المصور المصري الحفر على هذه الحوائط ثم ملؤها باللون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن استعمال الفرجون "الفرشاة" أسهل بكثير من استعمال الأزميل، ولذلك غطيت الحوائط غير المستوية بطبقة من الجص، ثم رسمت عليها الأشكال بخطوط خارجية، مع الاستعانة بمربعات لضبط النسب، ثم يملأ فراغ الشكل بالألوان.
لهذا أصبح فن التصوير (الرسم الملون) في الدولة الوسطى مستقلا عن الزخرفة، بالإضافة إلى أنه نتيجة لاستخدام الفرشاة حيث أعطيت الفنان فرصة في حرية الحركة وسرعتها، مما كان له أثر في أن أصبح للتصوير أيضا أكثر حرية في التعبير بانطلاقه من القيود الدينية إلى الحياة الاجتماعية الشعبية.
وأصبحت الرسوم الجدارية تتميز بالحيوية ورقة الإحساس والحركة والنزاع إلى تسجيل محاكاة الطبيعة من بشر وحيوانات وطيور.
وأصبحت أجسام البشر أكثر رشاقة في الحركة، وكذا في صور الحيوانات والطيور، أكثر دقة وملاحظة وطرافة. وكان تصوير الحيوانات هو المجال الذي فاق غيره في الدولة الوسطى، حيث كانت رياضة الصيد والخروج إلى الصحراء من أمتع ما يقوم به صاحب المقبرة في حياته.
كما تناول التصوير بعض موضوعات النحت في العصور السابقة، ولكنه عند تناولها قام بتطويرها ومعالجتها حسب رؤيته الجديدة وطريقته الجديدة في رسمها، فجاءت مليئة بالخصوبة الثراء، مثل منظر المصارعة في الدولة القديمة والذي صورته الدولة الوسطى في أوضاع عديدة ومختلفة وقوية، حتى أصبح من الممكن الاستعانة بها في عمل موسوعة كاملة مصورة عن المصارعة في مصر القديمة، لتؤكد أن مصر هي أول من عرف رياضة المصارعة في التاريخ، وكذلك مناظر الحرب وغيرها من المناظر التي تعبر بصدق ووعي عن مفهوم الحياة الاجتماعية لدى المصور المصري القديم.
مقابر بني حسن
وإذا انتقل بنا الحديث إلى محافظة المنيا الحالية، فنجد أنها تقع على بعد 153 ميلا من القاهرة (157 ميلا عن طريق نهر النيل) وتحوي تراثا مجيدا خلفه لنا أجدادنا القدماء يشهد لهم بجمال الذوق ورقة الإحساس والقدرة الفنية العالية، وخاصه مقابر بني حسن الصخرية المشهورة والتي تقع أمام مدينة أبوقرقاص على البر الغربي، جنوب المنيا ببضعة أميال. ومقابر بني حسن هي سلسلة طويلة عن المقابر التي تمتد لبضعة أميال على طول واجهة الهضاب الواقعة على الشاطئ الشرقي للنيل من نقطة تقع أمام قرية شرارة وتمتد حتى قرية اتليدم، وتعتبر المجموعتان الواقعتان في أقصى الشمال وفي أقصى الجنوب أقدم هذه المقابر.
فالمجموعة الشمالية ترجع إلى الأسرتين الثانية والثالثة، على حين تخص المجموعة الجنوبية الأسرة الخامسة. وتعتبر هذه المقابر في مجموعها أثرا رائعا لحضارة الدولة الوسطى، وهي مصطفه على طول الهضبة لمسافة ربع ميل، فمداخل المقابر الكبيرة تبدو بوضوح من أي نقطة من السهول الخصبة الخضراء التي تقع تحت الهضبة مباشرة، مما يوجب الدهشة والإعجاب، حيث جبل بني حسن والأرض المنبسطة الرملية والسهول الخصبة الزراعية، ثم شريان النيل واتساع الجبال الغربية، فإن طبيعة المنظر الذي يراه المرء من أعلى نقطة عن المقابر يجذب الأنظار إلى هذا المكان. إلى مدى ما يقرب من أربعين ميلا يمكن رؤية نهر النيل وهو يلمع تحت أشعة الشمس عندما يخترق متعرجا الوديان الخضراء الجميلة من الروضة حتى الهضاب البيضاء للكوم الأحمر في الشمال، كما نرى مآذن الجوامع البعيدة المدى في المنيا عندما يحدث النهر انحناءه الأخير ثم يختفي عن الأنظار؟ فكل ذلك يمكن رؤيته من فوق الشرفة، حيث هي الممر العريض الذي يمر أمام المقابر وكأنها شرفة طبيعية صنعتها الطبيعة. ومجموعة المقابر التي تجذب الأنظار والتي تعتبر ذات أهمية بالغة هي مقابر الأسرتين الحادية عشرة، والثانية عشرة الخاصة بحكام مقاطعة الوعل "الغزال" كما سميت قديما. وتقع هذه المقابر في منتصف المسافة لهذا الخط الطويل من المقابر أمام مدينة أبوقرقاص مباشرة. وهناك جبانة كبيرة لأفراد الحاشية والموظفين التابعين لأمراء مقاطعة الوعل واقعة مباشرة تحت واجهة الهضبة التي تضم المقابر الضخمة لرؤسائهم الإقطاعيين.
وهذا المكان يحتوي على تسع وثلاثين مقبرة بنيت على أساس عقائدي قوي. وتمدنا الكتابات في اثنتي عشرة مقبرة بأسماء الأشخاص الذين أقيمت المقابر عن أجلهم، ومن هؤلاء ثمانية كانوا رؤساء وحكاما عظاما، واثنان كانا أميرين، وواحد كان ابن أمير، وآخر كان كاتبا ملكيا. وبهذا فإننا نتنقل بزيارتنا لهذه المقابر بين عظماء القوم في المجتمع المحلي في مصر الوسطى. تقع أقدم المقابر إلى الجنوب من هذه المجموعة التي تمتد على طول الهضبة لمسافة ربع ميل تقريبا.
وهذه المقابر القديمة ترجع إلى الأسرة الحادية عشرة، وتتكون عدة من حجرات مستطيلة بسيطة مع بئر للدفن ومقصورة ذات سقف يستند في بعض الأحيان على أعمدة مستديرة منحوتة في الصخر، وإذا ما مررنا أمام هذا الصف من المقابر متجهين نحو الشمال وجدنا مقابر أشراف الأسرة الثانية عشرة قد أصبحت تدريجيا أكبر وأكثر إتقانا والكثير منها ذات أروقة، والنظام الداخلي فيها أتم، وزخرفتها ورسوماتها على قدر عال من الدقة والإتقان.
رسوم لألعاب أوليمبية
أما عن رسوم بني حسن فقد اكتسبت شهرة بعيدة واسعة منذ قديم الزمان، وترجع - كما ذكرنا - إلى الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة، وهذه الرسوم تعتبر ينبوعا غزيرا يفيض بأدق التفاصيل عن حضارة مصر القديمة والتي تجلت روعتها في التفاصيل الطبيعية وجعلت منها رسوما خالدة وهذه الرسوم قد أوجدت إلى جانب الموضوعات المطروقة العادية أشياء جديدة لم تكن مألوفة من قبل، ونستدل على ذلك بمناظر تدريب الجنود وهم يحملون بعض أدوات القتال في هذا العصر وأهمها الأقواس والحراب وفؤوس القتال. ونرى أيضا الدرع الكبير الذي يشبه الخيمة ويحمله ثلاثة من الرجال. وتلك الدروع كانت تقوم. في ذلك العهد بما تقوم به العربات المصفحة في عصرنا الحالي، والرياضة والمصارعة التي نرى مناظرها مفصلة، ورياضة حمل الأثقال والمبارزة بالعصي، والتجديف والسباحة، والهوكي، والملاكمة، واليوجا، ولعب الكرة.
ويتضح لنا أسلوب جديد في تصوير المستويات والتعبير عنها في مقابر بني حسن، وكان المعروف سابقا أن الفنان المصري عندما يريد التعبير عن عدة مستويات فإنه يفصل بينها بعدة خطوط تمثل خط الأرض في وضع متواز أفقي، ولكن في بني حسن نجده قد اتخذ من كل منظر مستوى مستقلا عن المنظر الآخر، ويعبر عن البعد الثالث للمنظر نفسه. ولقد أكد الفنان القيم الجمالية المتعارف عليها في الفن المصري القديم، من تحديد مسار العين سواء في الخط الأفقي أو الرأسي، بوضع مجموعة العناصر على خط واحد يجمعها، والذي بدأ مع الأسرة الثالثة.
ويتضح أيضا أسلوب جديد في الربط وهو تنوع أو تطور لأسلوب الربط عن طريق الخطوط الأفقية والرأسية، والتي اعتمدت على ارتباط الفنان المصور بالعقيدة الدينية وبالحياة الطبيعية والثقافية والاجتماعية، والفلسفة الخاصة لهذه الفترة من تاريخ الفن المصري القديم.
إن أسلوب الدولة الوسطى وبخاصة مقابر بني حسن يعتبر الأسلوب القديم الجديد من حيث الأفكار والابتكارات الفنية والجنوح للتطور.
ومازالت المواد والخدمات التي استعملها فنان مصر القديمة باقية حتى الآن نضرة تعبر عن مدى تعلقه باللون وحبه له بدرجة كبيرة، مما جعله يتعلق بالبيئة اللونية التي يعيشها ويرتبط بها ارتباطا وثيقا على سجيته، معبرا أروع تعبير عن إحساسه بها.
والواضح أن الفنان المصري في مقابر بني حسن كان ثاقب الفكر والنظر، ذا مقدرة هائلة على الرسوم والتلوين بالفرشاة، وأن درجة تطور الأسلوب الفني عنده كانت بارعة، على الرغم من أن الصور نفذت بأسلوب بسيط، وهي تمتاز بالحيوية الدافقة وتؤدي إلي جمال خلاب، ونستدل على ذلك أيضا من صور الملوك المصورة على الجدران، فمع أن أجسامهم مصورة في هيئة رسمية، وتمثيلها يتم حسب القواعد الثابتة منذ عهد الدولة القديمة، فإن وجوههم تدل على قوة الرسم والملاحظة والقرب من الواقع بدرجة لا تضارع في الدولة القديمة.