ميجيل دي أونامونو Miguel de Unamuno المواجهة بين الإيمان والعقل فؤاد كامل
ميجيل دي أونامونو Miguel de Unamuno المواجهة بين الإيمان والعقل
مفكر معاصر من أشهر المفكرين الإسبان وأشدهم تأثيرا في بلاده، لا يعدله في علو الصيت وقوة التأثير سوى مواطنه المفكر الإسباني الكبير أورتيجا إي جاسيت. وكان كل منهما ينفر من صياغة أفكاره في مذهب أو نسق منظم، كما أن كلا منهما لا ينتمي إلى مدرسة بعينها أو إلى تيار فكري معين، وأن كان يغلب على كل منهما الاتجاه إلى الوجودية، وهي في أونامونو أجلى وأظهر. كان أونامونو معبرا عن الإنسان المعاصر بكل تناقضاته الباطنة وصراعاته الداخلية إذ عرضها أونامونو في أمانة شديدة والتزام دقيق بالحقيقة، وهو يذكرنا تذكيرا قويا بكل من بسكال وكيرجور وهيدجر وكامي، ونستطيع أن نصفه - مطمئنين - بأنه ينحدر من سلالة القديسين والمتصوفة الإسبان العظام الذين كرسوا حياتهم للكشف عن ممالك الإيمان، فقد كانت فلسفته قائمة على أزمة المواجهة التي يعانيها المفكر بين الإيمان والعقل، وهو في نهاية الأمر يرجح كفة الوجدان الديني على العقلانية، والقلب على العقل، والإيمان - أو بالأصح إرادة الإيمان - على القلق والشك. وهو أيضا قد أنزل الحياة في المرتبة الأولى على الفكر، وهو القائل: "فلنحيا أولا، ولنتفلسف بعد ذلك". وكذلك كان يعتبر نفسه شاعرا في المقام الأول ومفكرا في المقام الثاني، وإنتاجه الغزير يضم دواوين شعر وروايات ومجموعات قصص قصيرة ومسرحيات وعدة مجلدات من المقالات الطويلة والقصيرة. سيرة وحياة ولد ميجيل دي أونامونو في مدينة بلباو الواقعة على خليج الباسك في شمال إسبانيا عام 1864. وتلقى تعليما دينيا في طفولته، ترك في نفسه آثارا إيمانية عميقة، ثم درس الفلسفة والكلاسيكيات في مدريد، وقرأ بخاصة فلاسفة إسبانيا السابقين عليه من أمثال بالمس Balmes ودونوسو كورتيس Donoso Cortes ومنهم عرف كانت وديكارت وهيجل وفشته. وبعد أن حصل على الليسانس من كلية الآداب بجامعة مدريد، وكان قد تعرض أثناء دراسته لأزمة دينية عنيفة، حصل على دكتوراه في الآداب برسالة في "اللغة البسكية" (وهي لغة إقليم الباسك الذي نشأ فيه)، عاد بعدها إلى بلدته بلباو، ليمارس الكتابة الصحفية والتدريس الخاص حتى سنة 1891، وفي هذه السنة تقدم لشغل كرسي علم النفس والمنطق والأخلاق في جامعة مدريد، ولكنه أخفق في الحصول عليه، وأخيرا حصل على كرسي اللغة والأدب مفكر معاصر من أشهر المفكرين الإسبان وأشدهم تأثيرا في بلاده، لا يعدله في علو الصيت وقوة التأثير سوى مواطنه المفكر الإسباني الكبير أورتيجا إي جاسيت. وكان كل منهما ينفر من صياغة أفكاره في مذهب أو نسق منظم، كما أن كلا منهما لا ينتمي إلى مدرسة بعينها أو إلى تيار فكري معين، وأن كان يغلب على كل منهما الاتجاه إلى الوجودية، وهي في أونامونو أجلى وأظهر. اليونانيين في جامعة شلمنقة، وظل يشغل هذا المنصب حتى عام 1901. ولم يلبث أن عين في هذا العام مديرا لجامعة شلمنقة نفسها، غير أنه عزل من هذا المنصب لأسباب سياسية في 1924، وأعيد انتخابه في 1931، وعين مديرا لها مدى الحياة في 1934. وفي تلك الأثناء سيطرت ديكتاتورية بريمو دي ريفيرا على أسبانيا، وكان أونامونو من ألد أعدائها، فنفاه الديكتاتور إلى جزيرة فورتفنتورا Fuerteventura إحدى جزر الكناري عام 1924، ولما صدر العفو عنه في هذه السنة نفسها أبى العودة إلى بلاده، وأقام في باريس حتى سقطت حكومة بريمو دي ريفيرا فعاد إلى إسبانيا سنة 1930. وتزعم حركة المقاومة للملكية الإسبانية المنحلة آنذاك. وانتخب نائبا جمهوريا مستقلا عن مدينة كورتيز من 1931 - 1933. وفي بداية الحرب الأهلية في إسبانيا سنة 1936، أعلن تأييده للوطنيين، وفي خطبة له أغضب هؤلاء الوطنيين فعزلوه من منصب مدير الجامعة وحددت إقامته في شلمنقة التي توفي بها في العام نفسه. بين الأدب والفلسفة.. عطاء وإبداع كان أول عمل أدبي أصدره أونامونو هو ترجمته لكتاب كارلايل عن "الثورة الفرنسية"، ثم جمع مقالاته المنشورة حتى 1895، وأصدرها في كتاب تحت عنوان "عن الطهارة" انتقد فيها العزلة الإسبانية وتخلف إسبانيا عن روح العصر في العلم والصناعة. وصدرت بعد ذلك في 1897 روايته الأولى عن "السلام في الحرب" وتتحدث عن ذكريات طفولته أثناء حصار الملك كارل في بلباو. ومن الممكن أن تعد هذه الرواية رواية "الوجودية" الأولى، وأعقب ذلك صدور العديد من الكتب والمقالات، ففي 1905 ظهر أحد كتبه التي أذاعت شهرته وهو كتاب "حياة دون كيشوت وسانشو" مع تحليل مفصل لشخصيات سرفانتس التي اعتبرها أونامونو أخلد وأصدق من مؤلفها نفسه والكتاب كله إيمان بالكيشوتية، ونداء إلى التفكير من خلال السمو الروحي. وفي حنين مشبوب إلى الخلود عرض أونامونو رؤيته للحياة في رائعته الشهيرة "المعنى المأساوي للحياة" التي صدرت عام 1913، وفيها يحلل الانفصال بين الإيمان والعقل. وفي "محنة المسيحية" الذي طبع أول مرة بالفرنسية عام 1925، ثم بالإسبانية عام 1931، فصل فلسفته الخاصة بالقلق والشك رغم اعتناقه للكاثوليكية بحيث أدرجه الفاتيكان في الكتب الممنوع تداولها. ولأونامونو روايات منها "الحب والتربية" التي صدرت سنة 1902 وفيها يصف محاولة أب لتربية ابنه بطريقة علمية ولكنه يبوء بالفشل في النهاية ويدمر ابنه. ورواية "الضباب" 1914، و"هابيل سانشيز" 1917، وأهم رواياته وأعظمها جميعا روايته الأخيرة "سان إمانويل: الطيب والشهيد" ويعالج فيها موضوعه الأثير وهو "الخلود". وفي محاولته على للتعرف عناصر الروح الإسبانية واسترداد الشعور بعظمتها، جمع عدة مقالات تحت عنوان "ماهية إسبانيا" 1895، كما جاب بلاده ووصفها في كتابه "مناظر" 1902، وفي "بلادي" 1903، و"أراضي البرتغال وإسبانيا" 1911. هذا فضلا عن مسرحياته الذهبية ومجموعات قصصه القصيرة ودواوين أشعاره التي بلغت ذروتها في ديوانه "مسيح فلاسكيز" 1920، والمعروف أن فلاسكيز من أشهر المصورين الإسبان الذين صورا المسيح والعذراء في لوحات خالدة. الحقيقة هي ما نحياه على الأزمة الروحية العنيفة التي عاناها أونامونو في شبابه تقوم تجربته الأساسية في الحياة والوجود. وفي هذه التجربة اكتشف أونامونو إرادته للاعتقاد، كما اكتشفها وليم جيمس وعرضها في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، كما اكتشف أيضا أن هذه الإرادة تتأسس على إرادة أخرى أقوى منها هي إرادة البقاء، ذلك أن التعاطف مع النفس يقود إلى حب الذات، وهذا الحب يقوم على صراع شامل يتسع لحب كل ما يعيش في هذا العالم، ومن ثم فإنه ينشد البقاء، ومن ثم فإننا بفعل من هذا الحب الذي ينبع من تعطشنا إلى الخلود، نجد أنفسنا مساقين إلى إضفاء وعي على الكون، وهذا هو الإيمان بخالق له. ومن هذه التجربة الحية التي اكتنفها القلق والشك وأحاطها العذاب والألم استمد أونامونو فلسفته، فليست الحقيقة هي ما نفكر فيه وإنما ما نحياه. وكانت تسيطر على حياته شهوة جامحة لم يتخلص منها أبدا هي شهوة الخلود أو الحنين إلى الأبدية، وفيها يكمن سر قلقه الدائم ونزعته المناضلة، فكان يقول: "ينبغي أن نبذر في بني البشر الشك والتحدي والقلق، كما ينبغي بخاصة وقبل كل شيء ألا نعيش في سلام مع العالم. وأنا لا أريد أن أعيش في سلام مع الآخرين أو مع نفسي، أنا في حاجة إلى الحرب، الحرب مع صميم نفسي الباطنة، نحن جميعا في حاجة إلى الحرب". ولهذا كانت نفسه أولا وقبل كل شيء، ساحة لصراع هائل بين العقل والإيمان اللذين عاش أونامونو موزعا بينهما طريدا شريدا كما يقول الشاعر، متعطشا إلى الحب الأبدي الذي يمنح ما هو أبدي. ويعني به التعطش إلى الله. وهذا التمزق، هذا القلق الذي يعانيه الوعي حين يصبح فريسة للمتناقضات هو الذي يجده أونامونو عند القديس بولس والقديس أغسطين، وكذلك عند بسكال وكيركجور. وهو في قلب اليأس نفسه يبحث عن الأمل. وكان هذا الأمل هو تصوره الشخصي للإيمان المسيحي وكرامة الإنسان الفاني. وبقدر ما وجد الفناء نفسه مبررا لتوكيد الوجود، وسبيلا لابتداع الأمل، يعد فكر أونامونو إرهاصا للوجودية المناضلة، إذ يقول مرددا قول سينانكور: "الإنسان هالك لا محالة، ولكن فلنهلك ونحن نقاوم، وإذا كان العدم مقدرا علينا، فليس لنا أن نجعل من هذا العدم عدلا وإنصافا". فلسفته وليدة صراع مع الوجود والحق أن الطابع الغالب على أفكار أونامونو هو الطابع الوجودي الأسيان "المأساوي" أولا: لأن فلسفته لا تلتمس في كتاباته فحسب، بل من سلوكه في الحياة بوجه عام ومن موقفه من العالم، ومن أفعاله السياسية بوجه خاص في زمن كانت تموج فيه بلاده بالاضطرابات والأزمات، ففلسفته تنبع قبل كل شيء من موقفه الإنساني الخاص في المكان والزمان. وثانيا: لأن كتاباته تميل إلى الانفعالية والعاطفية أكثر من ميلها إلى العقلانية والموضوعية، فهو لم يكن يعبر عن أفكار دقيقة مضبوطة، بل عن مشاعر متأججة مشبوبة، وكانت لغته صالحة لمثل هذا التعبير. ثالثا: لأن الموضوعات التي أختارها لكتاباته كانت وجودية، فهي تتناول الموت والقلق والشك والإيمان والذنب والخطيئة والخلود. رابعا: كان يستمد منابع تفكيره من الوجوديين الرواد من أمثال بسكال وكيركجور وأغسطين، كما أنه وجد نوعا من القرابة بينه وبين كل من أكد الحدس والذاتية في حياة الإنسان وفي بناء رؤية للعالم من أمثال شونبهور ونيتشه ووليم جميس. وخامسا وأخيرا: فلأن فلسفته لم تكن مذهبا أو نسقا عن تعمد وقصد، وفي هذا يشبه كيركجور أبا الوجودية، وإنما جاءت هذه الفلسفة تعبيرا عن نضاله وصراعه مع الوجود، ومان يعتبر كل صياغة مذهبية لهذا التعبير المباشر تزييفا أو على أقل تقدير تشويها لحقائق التجربة الحية المعيشة. والتصور الديني العام لأونامونو يرتبط بالتوتر بين الإيمان والعقل، واعتقاده أن الدين ضروري للحياة، وأن علينا - لأسباب برجماتية عميقة - أن نعيش على أساس أن الإله يحيا في الواقع. وهذا الاعتقاد يؤدى إلى الالتزام بوصفه سمة محورية للحياة الأصيلة. وهذه الحياة مكرسة وموحدة مع مثل أعلى ينبع أصلا من أعماق كل إنسان. وحقيقة هذا الالتزام لا يدعو إليها ولا يؤكدها سوى القلب. ولكن، لما كان العقل يلقي دائما ظلالا على هذا الالتزام، فلا بد من وثبة شجاعة عمياء من الإيمان الذي يحتاج إليه الوجود الإنساني الأصيل. الكل.. أو لا شيء وأشد الحلول جاذبية لمشكلات الوجود الإنساني، وللمعنى الفاجع للحياة هو الرجاء في حياة أبدية تعبر عن نفسها في ظمأ الإنسان الدائم إلى الخلود. ولهذا الظمأ بعدان فهو إما أن يشير إلى عدم فناء الروح أو إلى اندماج الروح في الكون أو في مجموع الوجود. وفيما يتعلق بالبعد الأول يعتقد أن في تدمير الوعي الإنساني استحالة قبلية: "فنحن لا نستطيع أن نتصور لا وجود الوعي، لأن هذا التصور نفسه هو فعل من أفعال الوعي، وأما بالنسبة للبعد الثاني، فإن الإنسان لا يكون شيئا مذكورا إذا لم يكن كل شيء. والوجود معناه الحنين للوصول إلى المكان كله والزمان كله، أي إلى الوجود كله. ولكي يكون الإنسان إنسانا لابد أن يسعى إلى الله. ولو لم يكن الإنسان مجدا في هذا السعي، فلن يكون حتى إنسانا". فشعار أونامونو هو " الكل أو لا شيء". ولا مناص للإنسان من أن يهوي إلى قرارة اليأس والشك والعذاب لكي يصل إلى الأساس الصلب الذي يجب أن يشيد عليه يأس القلب وأمله. والأمل في الخلود تدعمه فكرة الله، ولا ينبغي أن يكون الإله فكرة مجردة لأن هذا التجريد ليس هو ما يشتاق إليه الفؤاد، كما أنه لا يمكن أن يخفف من قلق الوجود الإنساني. وعزم الإنسان على أن يحيا على شوقه إلى الله ورجائه فيه هو وحده الذي يمكن أن يكون أساسا للعمل والإحسان، وهو ما يؤدي في النهاية إلى إحساسه بالخير والجمال، فالحقيقة ذاتية في نظر أونامونو، ولا وجود لها إلا بوصفها تحققا في الاعتقاد الأصيل. ومن ثم، فإن الاعتقاد بدوره هو التعبير عن الوجود الشامل للإنسان الذي لا يتحقق إلا في الفعل، وعلى هذا تكون الحقيقة في نهاية الأمر فعلا من أفعال الإرادة، إنها إرادة للإبداع في الواقع، وفي هذا الرأي الذاتي عن الحقيقة ما يضفي طابعا صوفيا على فكر أونامونو.
|
|