التراث والهوية .. دراسات في الفكر الفلسفي بالمغرب عبدالسلام بنعبدالعالي

 التراث والهوية .. دراسات في الفكر الفلسفي بالمغرب

عرض: د. عصام عبدالله

هذا الكتاب هو أول دراسة فلسفية جادة تلقي الضوء على الفكر الفلسفي المغربي المعاصر من خلال رصد المفاهيم الفلسفية الأساسية المتداولة في المغرب. فلم يتقص المؤلف، وهو مفكر بارز وباحث مدقق، الفكر الفلسفي من منظور "الوحدة" الذي يملأ الفراغات ويقضي على الفروق والاختلافات، ولا من حيث هو تيارات سارية ومذاهب مفترضة، كما فعل غيره من المفكرين وأبرزهم "جميل صليبا" مع الفكر الفلسفي في الثقافة العربية المعاصرة، وإنما حاول أن يرصده في تعدده اختلافاته من خلال بعض المفاهيم الاستراتيجية مثل: التاريخ، الهوية، الأيديولوجيا، وما يرتبط بهذه المفاهيم من مفاهيم أخرى، ومن هنا تبدو أهمية الكتاب وجدته.

ولعل أول ما يلفت النظر في هذا الكتاب، ان مؤلفه حين رصد هذه المفاهيم الفلسفية، لم يقف عند عتبات المؤلفات التي تقدم نفسها على أنها إنتاج فلسفي فحسب، ولكنه حاول أيضا رصدها في المؤلفات الأخرى التي تضع نفسها خارج الفلسفة وعلى هامشها، مثل مؤلفات عبدالله العروي وعبد الكبير الخطيبي وغيرهما، ومن ثم استطاع أن يميط اللثام عن حركة هذه المفاهيم وتلونها عند أكثر من مفكر وباحث، وفي أكثر من مجال من مجالات المعرفة.

ورغم أن المؤلف قد أفصح في مقدمته عن غرضه الأساسي من هذا الكتاب وهو بالضبط التساؤل عما إذا كانت هناك حياة فكرية فلسفية عندنا، وما إذا كان هذا الفكر يحيا بالفعل، أي يموت، مادامت حياة الفكر - كما يقول هيجل - هي موته وعدم خلوده إلى التطابق وبناء الوحدات لخلق الفوارق وتعديد الهوية وهدم الأوثان. إلا أن القارئ يستطيع أن يدرك منذ الصفحات الأولى المعنى العميق الكامن وراء هذا الكتاب ومفاده أن ثمة أزمة فلسفية في المغرب، على أن تفهم الأزمة هنا بمعناها الإيجابي لا السلبي، فهي ليست مظهرا من مظاهر الضعف أو الوهن ولكنها - في الأقل - في المستوى الثقافي عرض من أعراض الصحة والتقدم. وتتمثل هذه الأزمة في اختلاف المفكرين المغاربة حول عدة قضايا فلسفية، تتعلق بالتراث والتاريخ والهوية والأيديولوجيا والخصوصية والأصالة والمعاصرة. وهنا تطالعنا مواقف وأسماء "الجابري" و"العروي" و"الخطيبي" و "أومليل" و"يفوت" و" وقيدي" وغيرهم، وهي مواقف ترقى إلى مستوى الفروق والاختلافات التي قد تبيح للمرء أن يتحدث عن بداية نهضة فكرية فلسفية في المغرب.

أصالة موهومة

وإذا كان الفكر الفلسفي المعاصر لا ينشغل اليوم بموضوعات بعينها بقدر ماينشغل بنفسه ويبحث عن أصوله وكيفية نشأتها، فلا عجب أن ينصب اهتمام المفكرين المغاربة على مفاهيم استراتيجية ترمي إلى مراجعة مفاهيم الفلسفة وقضاياها وإعادة النظر في التراث الفلسفي، سواء تعلق الأمر بالتراث الغربي أو بتراثنا العربي الإسلامي، بغية فهمه وتقييمه أو بالأحرى تملكه.

وقد رد المؤلف هذه المفاهيم على تعددها إلى ثلاثة مفاهيم أساسية: مفهوم "التاريخ" وما يرتبط به من مفاهيم أخرى كالتراث والكلية والتاريخية والاستمرارية والقطيعة. ومفهوم "الهوية" وما يتعلق به من مفاهيم كالأصالة والقومية والخصوصية والتغاير. ومفهوم "الأيديولوجيا" وما يرتبط به كمفهوم التأويل والقراءة والموضوعية والحقيقة والواقع واللا شعور والخيال.

ولا شك أنه عند ذكر هذه المفاهيم الثلاثة - حسب تقسيم المؤلف - تنصرف أذهاننا مباشرة إلى داعية أيديولوجي مؤرخ وهو "العروي" الذي يرى أن الطريق الوحيد للتخلص من الانتقائية والسلفية هو الخضوع للفكر التاريخي بكل مقوماته، وهي عنده أربعة مقومات: صيرورة الحقيقة، وإيجابية الحدث التاريخي، وتسلسل الأحداث ثم مسئولية الأفراد عنها. وهو إذ يدعو إلى هذا الخضوع للفكر التاريخي، فكما يقول: "للفصل بين الخصوصية والأصالة، فالأولى حركية متطورة، والثانية سكونية متحجرة ملتفتة إلى الماضي". وباستطاعة هذا الفكر التاريخي وحده أن يحررنا من أصالة موهومة تمجد التراث، ذلك لأن رباطنا بالتراث في نظر العروي قد انقطع نهائيا وفي جميع الميادين، وأن الاستمرار الثقافي الذي يخدعنا لأننا مازلنا نقرأ المؤلفين القدامى ونؤلف فيهم إنما هو سراب. وسبب التخلف الفكري عندنا هو الغرور بذلك السراب وعدم رؤية الانفصام الواقعي، فيبقى الذهن العربي حتما مفصولا عن واقعه متخلفا عنه بسبب اعتبار الوفاء للأصل حقيقة واقعية مع أنه أصبح حسا رومانسيا منذ أزمان متباعدة. لذا فهو يدعو إلى ماركسية تاريخانية أو تاريخية ماركسية مقوماتها كما يقول: الإيمان بثبوت قوانين التطور التاريخي ووحدة اتجاهه، وإمكان اقتباس الثقافة (أو ما يطلق عليه وحدة الجنس)، ثم إيجابية دور المثقف والسياسي. ولا مبرر لهذه الدعوة - برأيه - إلا فرضية واحدة مستخرجة من واقع التاريخ ذاته، فالدور التاريخي الغربي الممتد من عصر النهضة إلى الثورة الصناعية هو المرجع الوحيد للمفاهيم التي تشيد على ضوئها السياسات الثورية الرامية إلى إخراج البلاد غير الأوروبية من أوضاع وسطوية مترهلة إلى أوضاع صناعية حديثة، وليست هذه الفرضية فكرة مسبقة بل نتيجة استطلاع التاريخ والواقع، وهي المبرر الوحيد لحكمنا على السلفية والليبرالية والتقنوقراطية بالسطحية، وعلى الماركسية بأنها النظرية النقدية للغرب الحديث، النظرية المعقولة الواضحة النافعة لنا في الدور التاريخي الذي نحياه.

محاورة التراث

غير أننا نجد - حسب المؤلف - أن "الجابري" يرفض هذه الكونية الموهومة عند "العروي"، ويتشبث بأهمية محاورة التراث لتملكه وبالتالي جعله معاصرا لنا، بمعنى النظر إليه نظرة تاريخية تعتمد على إضفاء المعقولية على الشيء المقروء، وبالتالي البحث فيه عما يمكن أن يساهم في إعادة بناء الذات العربية وهي المهمة المطروحة في الظرف الراهن. فليس رباطنا بتراثنا - في نظر الجابري - بمثل الرخاوة التي يتصورها العروي، فالانفصال ينبغي أن يكون إعادة ربط، والقتل إحياء، والهدم إعادة بناء، مؤكدا على أن كل تملك لما يمكن أن يسمى تراثا إنسانيا لابد أن يتم عبر خصوصية بعينها. ومجمل القول أن العروي يهمل التواريخ الفعلية لحساب تاريخ كوني وكلية ميتافيزيقية. وهذا بالضبط هو ما يأخذه عليه "الخطيبي" الذي يأبى النظر إلى التراث من خلال نزعة تاريخية ترد التاريخ إلى كلية ميتافيزيقية نسيجها الاستمرارية والعقلانية والميل إلى النظام والإرادة. إن الخطيبي يفتتن بالتراث، وهو يرى أنه لكي نقطع الصلة معه يجب أن نعرفه جيدا، كما يجب أن نكون قد أحببناه وتشبعنا به. لذا يدعونا أن نفرغ الكتابة التاريخية ونطهرها من المطلقات التي تقيد الشعب، فتجمد الزمان الذي يحياه والمكان الذي يعيش فيه والجسد الذي يحيا به. ويعتبر الخطيبي أن التاريخية إن كانت مرحلة ضرورية اقترنت بفترة الدعوة إلى الوحدة القومية المطلقة، فلم يعد لها مبرر، إنها ترتبط بمفهوم معين عن الهوية والاختلاف، وبالضبط الاختلاف المتوحش - على حد تعبيره - الذي يقذف بالآخر في خارج مطلق فيؤدي بشكل حتمي إلى ضلال " الهويات المجنونة".

إن ما يأخذه الخطيبي على العروي هو فقر نظريته في الاختلاف وخلطه بين الأنثربولوجيا الثقافية وفكر الاختلاف. وهو يريد أن يميز الهوية عن التطابق فيعتبر أن لا شيء حتى تراثنا ذاته يقدم لنا نفسه كما لو كان نعمة، كما يعتقد أن الغرب أو الآخر يقيم في كياننا، فالذاتي ينبغي تملكه والهوية يجب غزوها. والغير لا يصبح آخر إلا إذا حول عن مركزه وزحزح عن تحديداته المهيمنة، لذا فهو يدعو إلى استراتيجية "التفكيك" التي تفسح المجال لفكر يتمسك بالفوارق والاختلافات، يقول الخطيبي: "لنأخذ الإنسان العربي، وعلى وجه التحديد الإنسان المغربي، فإننا نلاحظ أنه يحمل في أعماقه كل ماضيه قبل الإسلامي والإسلامي والبربري والعربي والغربي. أهم شيء إذن هو ألا نغفل هذه الهوية المتعددة التي تكون هذا الكائن، ومن ناحية أخرى يجب أن نفكر في الوحدة الممكنة بين هذه العناصر جميعا، لكنها وحدة غير لاهوتية تترك لكل عنصر نصيبه من التميز وتتيح بالنسبة للمجموع حرية الحركة". غير أن هذا التعدد لا يقدم لنا نفسه ببساطة ويسر، إذ سرعان ما تغلفه الأيديولوجية لتخفي تناقضاته وتملأ فراغاته وتجعل منه وحدة متطابقة فتقضي على عمل الموت فيه. ومهمة "النقد المزدوج" - وهو عنوان أهم مؤلفات الخطيبي - هي بالضبط القضاء على التطابق الموهوم للكشف عن الهوية المتعددة.

الحقيقة والخيال

وهكذا نجد أن الاختلاف والتعدد في وجهات نظر المفكرين المغاربة كان لابد أن ينسحب على مفهوم الأيديولوجيا، ذلك لأن هذه المفاهيم الفلسفية لا توجد منفصلة عن بعضها البعض بل هي تتداخل في علاقات متشابكة، ووظيفة البحث العلمي ضبط هذه المفاهيم وتحديدها، ومعرفة شبكة العلاقات التي تنتمي إليها، فالجابري يميز في التراث الفلسفي بين ما يطلق عليه المحتوى المعرفي وبين الوظيفة الأيديولوجية. والمحتوى المعرفي يشكل في معظمه مادة معرفية ميتة غير قابلة للحياة من جديد، أما بالنسبة للمضمون الأيديولوجي فالأمر يختلف. إن له بشكل من الأشكال حياة أخرى يظل يحياها على مر الزمن في صور مختلفة. والجديد في الفلسفة يجب البحث عنه لا في جملة المعارف التي استثمرتها وروجتها، بل في الوظيفة الأيديولوجية التي أعطاها كل فيلسوف لهذه المعارف، ففي هذه الوظائف إذن يجب أن نبحث للفلسفة الإسلامية عن معنى، عن تاريخ. وإذا نظرنا إلى القيم التي بلورتها الفلسفة العربية الإسلامية وجدناها قابلة لأن تبعث وتحيا على الدوام. ذلك أن هذه الفلسفة لم تكن فحسب جدالا حول حقائق وبناء المعارف، وإنما كانت أيضا خطابا أيديولوجيا ناضلا جند نفسه لخدمة العلم والتقدم والدفع بالتطور إلى الأمام.

غير أن هذا الاستخدام الإيجابي لمفهوم الأيديولوجيا عند "الجابري"، يرفضه "العروي" رغم أن استراتيجيته ليست مغايرة لاستراتيجية الأول، فهي أيضا استراتيجية بناءة. صحيح أن "العروي" - حسب المؤلف - قد قام في كتابه "الأيديولوجية العربية المعاصرة" بنقد أيديولوجي لهذه الأيديولوجية، وبالفعل فإن مفهوم "الأدلوجة" عنده هنا مفهوم سلبي، إلا أنه سرعان ما يتجاوز هذا الاتجاه النقدي من الهدم إلى البناء.

إن دعوته تتمثل في: كيف يستوعب الفكر العربي مكاسب العقل الحديث من عقلانية وموضوعية وفعالية، وهو يميز بين مقومات الفكر الحديث وأيديولوجية الغرب الإمبريالي، بين ما يطلق عليه منهجا وما يسميه أيديولوجية. والمنهج نوع من التفكير على أساسه تتكون أيديولوجية أي مجموعات من القيم. والأيديولوجية هي التي تتشبث بها الطبقة، أما المنهج فقد أصبح قاعدة مشتركة لكل التيارات الفكرية العصرية، لذلك فمن الناحية التاريخية الصرف، الفكر الحديث هو أساسا الفكر البرجوازي، والماركسية في شكلها التاريخي هي وراثة هذا الفكر.

وفي رأي المؤلف الذي لم يكتف برصد هذه المفاهيم فحسب، وإنما طرح أيضا رؤيته كمفكر من خلال تناوله لها، فإن "العروي" بتأكيده على الماركسية فقط كمنهج أصبح قاعدة مشتركة لكل التيارات الفكرية المعاصرة، يجتث دورا من أدوار التاريخ الأوروبي ليجعل منه عصارة تاريخ الإنسانية. إن ما يفعله - برأيه - هو أن إعادة بناء الذات بناء للآخر وأن الاستيعاب تلفظ، وأن إعادة البناء هدم، وحياة الفكر موته. ويؤكد المؤلف في النهاية على أننا ينبغي أن نذهب أبعد من ذلك، ونتساءل عن المفاهيم التي يحجبها عنا ارتباطنا التاريخي بنوع معين من العقلانية الغربية، خاصة العقلانية الديكارتية التي تضع خطا فاصلا بين الحقيقة والخيال فترمي بما هو خيالي ورمز في جانب الأخطاء، والتي تعلي من شأن العلم فتنسى بفعل ذلك المسألة الأساسية للاشعور.

إن ملامسة المسكوت عنه في تفكيرنا، وذلك العدد الهائل من المفاهيم التي قلما تعرف إلى حياتنا الفكرية منفذا، مثل مفهوم اللاشعور والرغبة والحياة الرمزية والخيال، هي الوجه الآخر للعملة، وبدونها لن يستقيم البحث. فمازلنا في حاجة إلى صقل تلك المفاهيم جميعا وتعويدها قليلا من الموت، فربما يكون بعضها قد عمر طويلا خصوصا مفهوم "الهوية" الذي يحمل كل ماضينا الديني والسياسي، ومفهوم التاريخ الذي يملأ ذاكرتنا ويشكلها.

 

عبدالسلام بنعبدالعالي