الملاكمة والمخ والنفس

 الملاكمة والمخ والنفس

عندما نمد أيدينا لنصافح أيادي تمتد لنا بالسلام، فإن فعل المصافحة بالأيادي يتضمن معنى انثروبولوجيا نفسياً نستهدفه بشكل لا شعوري، ومؤداه أن اليد التي يمكن أن تمسك بالسلاح ـ خاصة اليد اليمنى ـ لتقتل وتجرح، تسلم نفسها عارية ليد أخرى عارية. فالسلام بالأيادي يقول: هأنذا لا أحاربك يا من تمتد يدي المجردة لمصافحته.. بيننا سلام.

المفارقة تكمن إذن في أن اليد هذه تتحول في (لعبة) الملاكمة إلى سلاح في حد ذاتها، ولقد عرفت حلبات الملاكمة بالقبضات العارية حوادث دامية حتى أولى سنوات القرن العشرين. صحيح أن الحضارة حاولت كف هذه اليد العارية عن أن تكون سلاحاً قاتلا، بإحاطتها بقفاز سميك ولدن يخفف حدة ضرباتها، وبواقٍ للدماغ يمتص ما بقي من حدة هذه الضربات، لكن يظل التقهقر مرغوباً فيه من قبل جامعي المال عبر رياضات الاحتراف، لهذا ينزعون عن الأدمغة واقياتها في نزال المحترفين، وهنا مناط الاعتراض.

لا شك أن العالم في طواياه يتضمن غابة كامنة، وأن الدفاع عن النفس حق وواجب تجاه وحوش محتملين في تلافيف الغابة الخبيئة، لكن تسمية الأشياء بغير ما نعرفه عن جوهرها، هو أمر فيه نظر.

بالطبع ثمة رائحة ـ نظنها طيبة ـ في بعض الاعتراض لدينا في هذا الباب المكرس أساسا للرياضة بهدف اللياقة، والمتنائي بحكم توجهه عن رياضة المنافسة، والمتخاصم بالتأكيد مع كل عنف في هذه الرياضة أو تلك، لكننا نتجاوز اعتراضنا المضمر الآن لنتحدث من زاوية طبية هي أساس بناء هذا الباب سواء في شقه الصحي أو شقه الرياضي.

الملاكم المترنح

عام 1928 بدأت الأدبيات الطبية تتحدث عن متلازمة (مجموعة أعراض) لمرض الملاكم المترنح (The punch - drunk syndrome ) وهي تصف حالة ملاكم متقاعد أخذ يلفظ كلماته بغير وضوح لتداخلها، بينما كانت مشيته تتعثر وخطواته تحف بالأرض، وكان لا يستطيع الحفاظ على أفكاره متواصلة ولو لوقت قصير.

وتبين أن هذه الأعراض ليست نتيجة ضربة قاضية نالها الملاكم، ولكنها حصاد لركام من ضربات بلا حصر تلقاها رأسه في نزالاته السابقة.

إن الملاكم المحترف يستطيع تسديد لكمة قوتها تعادل 100 مرة قوة الجاذبية الأرضية، وهذه اللكمة من شأنها أن تجعل مخ من يتلقاها في رأسه يرتطم بجدار جمجمته الداخلي، ومن ثم يمكن أن يحدث نزيف بالمخ يؤدي إلى الموت، وعندما لا يحدث ذلك فإن النتائج الأخف لا تعني السلامة، لأن تراكم ارتطامات المخ بجدار الجمجمة تسبب تلفاً متصاعدا بأنسجة المخ المرهفة مما قد يصل بالتدمير إلى مناطق شديدة الخطورة والحيوية.

إن الضربات التي يتلقاها رأس الملاكم تشكل في واقع الأمر قنبلة صحية موقـوتة، لأن كثيرين من الملاكمين لا يعانون أثناء فترة نشاطهم أي أعراض مقلقة، لكن بعد سنوات من مغادرتهم لحلبات الملاكمة يبدأ الخطر في الظهور بشكل داهم مما يجعل بعض الأطباء يطالبون بمنع الملاكمة، لكن أطباء آخرين يعترضون مطالبين بالتريث وإجراء مزيد من الأبحاث قبل اتخاذ أي خطوات غير مدروسة.

عنيفة أم لا؟

في بريطانيا التي كانت ساحة عرض وتصدير لملاكمة القبضات العارية وشهدت حلباتها حادث وفاة أثناء (اللعب) راح ضحيته الملاكم موراي ليفنجستون الشهير باسم (بيلي سميث) في مطلع القرن العشرين وتحديدا يوم 24 أبريل عام 1901، لم يهدأ فيها الجدل حول عنف (رياضة) الملاكمة وضرورة تحجيم هذا العنف وتقليصه، فوضعت قواعد (للعبة) هدفها حماية المتلاكمين أسميت قواعد(كينز بري) عام 1867 بطلب من المركيز (جون شولتو دوجلاس) الحاكم الثامن لمقاطعة (كينزبري)، لكنها لم توضع موضع التطبيق مما جعل (رياضة) الملاكمة تفقد صفة الشرعية وعدم الاعتراف الرسمي حتى فجرت حادثة وفاة الملاكم سميث القضية برمتها ووضعت هذه (الرياضة) تحت الضوابط المشددة ومن ثم نالت الاعتراف، لكن هذا الاعتراف لم يمنع استمرار الجدل الذي تواصل حتى نهاية القرن العشرين، ونظن أنه سيتصاعد في قرننا هذا الواحد والعشرين.

أخيرا نشر تقرير للجمعية الطبية البريطانية يتبنى وصم (رياضة) الملاكمة بالعنف بناء على دراسة طبقت على الملاكم البريطاني (فرانك برونو)، وجاء بها أن سرعة وصول لكمته إلى خصم يبعد عنه مسافة نصف متر ـ وهي المسافة المعتادة في مباريات الملاكمة ـ تصل إلى 9،8 متر في الثانية، أي 20 ميلاً في الساعة.

وعندما تصل لكمات من هذا النوع إلى جذع الخصم، فإن عضلات الصدر والكتفين ـ وحتى البطن ـ القوية جميعاً، والمدربة تمتص قوة الضربات ولا يكون لها أثر خطير على الأرجح، أما المشكلة الحقيقية فهي في بعض اللكمات التي تصل بهذه السرعة والقوة إلى الرأس. وتوصف بأنها (ضربات قاضية).

في هذه الضربات القاضية يحدث أن يكون المخ ثابتاً في مكانه بفراغ الجمجمة، موسداً داخل أغشيته المرهفة ومحاطاً برقيقة من السائل الشوكي، وتكون له سرعة تحرك الرأس في حدود السرعة العادية، لكن عندما تباغته ضربة القبضة الهائلة السريعة على جانب الرأس تدفع الجمجمة إلى الوراء بشدة، في سرعة كبيرة وخلال زمن خاطف لا يتعدى جزءاً صغيراً من الثانية، ولا يتحرك المخ مع الجمجمة بالسرعة المفاجئة فيصطدم بالجدار الداخلي للجمجمة المترنحة وسواءاصطدم بالنتوءات الحادة داخل الجمجمة فأدمي أو جاءت الصدمة بحنايا الجمجمة الصلبة فإن الضرر قائم لأن المخ يسكن ذلك الوعاء (الجمجمة) معلقا دون أن يربطه به عند القاعدة غير بعض الأوعية الدموية والحبل الشوكي ، ومن ثم يتضرر المخ تبعاً لحجم الضربات وتراكمها ابتداء من أعراض الارتجاج التي تتضمن فقدان التوازن وغياب الوعي وأحيانا الغيبوبة مروراً بتكون أنزفة تتحول إلى خثرات دموية تتكلس وتضغط على خلايا المخ فتدمرها مما يفجر في وقت متأخر أعراض العته أو الاختلال العصبي بتظاهراته المختلفة التي منها متلازمة الملاكم المترنح.

في مواجهة هذا التقرير الطبي البريطاني نشرت المنظمة المسئولة عن ملاكمة المحترفين في بريطانيا رداً لا يعفى (رياضة) الملاكمة من العنف، لكنه يشير بالأرقام إلى أن (رياضة) الملاكمة هي أقل عنفاً عن كثير من غيرها، فعدد حالات الوفاة على حلبة الملاكمة ببريطانيا في الفترة من 1986 إلى 1992 لا يزيد عن حالة واحدة، بينما بلغ في رياضات الهواء 94 حالة، وفي سباقات السيارات 91 حالة، وفي رياضات تسلق الجبال 72 حالة، وفي رياضات الماء 59 حالة، وفي ألعاب القوى 36 حالة، وفي سباقات الدراجات 24 حالة، وحتى كرة القدم سجلت في الفترة ذاتها حالات وفاة 22 لاعباً راحوا ضحية تلك الرياضة الجماهيرية المحبوبة!

قد تكون كل تلك الارقام دامغة، لكنها لا تنفي صفة العنف عن (رياضة) الملاكمة، بقدر ما تنبه إلى ضخامة العنف في الرياضات الأخرى التي كنا نظن أنها وديعة للغاية، كركوب الدراجات.

يدافع المتحمسون لرياضة الملاكمة عن أنها في إطار رياضات الهواة نموذج لفن الدفاع النبيل عن النفس، وأن ارتداء واقي الأسنان والخوذة حديثة التصميم يجعل منها رياضة آمنة. لكن المعترضين يردون على ذلك بأن واقي الرأس هذا لا يقدم وقاية حقيقية للمخ وهو وإن كان يحمي الوجه نسبياً فإنه يزيد من احتمالات تضرر المخ على المدى الطويل لأنه يزيد من ترنح المخ داخل الجمجمة ومن ثم يزيد ارتطاماته ويعرض خلاياه للتلف الذي قد يتأخر ظهوره.

قراءة نفسية

بعد هذا الجدل الجسدي نأتي إلى الشق النفسي في (رياضة) الملاكمة.

لا شك في أن رياضة الملاكمة تتيح تفريغاً (آمنا) لطاقة العدوان الموجودة بنسب متفاوتة داخل كل البشر، سواء بين اللاعبين أو في صفوف المتفرجين. وهي جزء من ضرورات النفس الإنسانية ـ والحيوانية ـ لإشباع الحاجات الأساسية لاستمرار الحياة، كرد العدوان، واقتحام الخطر، بل هناك من يصنفها ـ مثل بيير داكو ـ كداعم لغريزة الحياة عندما تتعرى ـ أي العدوانية ـ من عواقبها التخريبية لتكمل دائرة استمرار الحياة، بالتناسل على سبيل المثال.

المشكلة تتفجر عندما تكون هذه العدوانية متجاوزة لحد السوية المألوف بين البشر، سواء كانت عدوانية تكوينية أو مكتسبة، أي عندما تكون مرضاً. وبالمناسبة يشار إلى أن الرضوض التي تصيب الجمجمة تترك اضطرابا في الطباع ينحو باتجاه العدوانية.

لقد طُرح سؤال مفاده: هل رياضات التلاحم تتطلب منافسين هم عدوانيون في الأساس؟

ولقد أجابت موسوعة (عجائب وغرائب العقل الإنساني) عن السؤال بنعم ولا على السواء، وذكرت لذلك مثال نجم الكرة (روزفلت جرابر) الذي كان في الملعب لا يرحم بينما في حياته العادية كانت هوايته الأساسية شغل الإبرة كالفتيات!

لكن الحديث عن مايك (أو مالك) تايسون، يقودنا حتما لوضعه في خانة العدوانية التكوينية والمكتسبة على السواء، فليس قضمه لأذن هوليفيلد أو ضربه لأورلين نوريس بعد سماع جرس انتهاء الجولة، وتورطه في قضايا الاعتداء أكثر من مرة كل هذا يؤكد على عدوانيته التي قد تكون سر انتصاراته الساحقة، فهو يذكر من يراه وهو (يلعب) بفهد ينال من فريسته.. مندفع ومباغت ويضرب كأنه يمزق لحم خصمه.

هل نعلمها لأبنائنا؟

لم تكن الملاكمة وحدها هي التي شملها سؤال إذا ما كانت جيدة أو غير جيدة لأبنائنا. بل دار السؤال حول كل الرياضات التنافسية التي زعم طويلا أنها (تبني الشخصية). وبدأت الإجابة بالتحذير من أن هذه (الرياضات) التنافسية، من واقع اتجاهها للتركيز على المنافسة والانتصار على (الخصم) والفوز بالمكافأة تهمل تعليم القيم التقليدية والمهارات الحركية الأساسية. ويرى بعض علماء النفس أن رياضات الالتحام والنزال (ومنها الملاكمة بالطبع) ترسب في النفس سلوكا (سيكوباتيا) معادياً للعلائق الاجتماعية السوية، من خلال تكريس أن ايذاء الآخرين أمر مقبول. وينصح هؤلاء النفسيون بأن يتم التركيز على مفهوم الارتقاء باللياقة والمهارات لا التهافت على الكسب. وبشكل عام يُنصح أن يجرب الصغار أنواعا مختلفة من الرياضات حتى يكتشفوا أو يكتشف ذووهم الرياضة الأنسب لهم حركياً ووجدانياً.

محمد علي كلاي كان أول إنسان يستعيد لقب بطولة العالم مرتين، فقد فاز باللقب لأول مرة في 25 فبراير 1964 عندما هزم (سوني ليستون)، لكن الاتحاد العالمي للملاكمة (WBA ) سحب منه اللقب الذي عاد واستعاده عندما هزم ليون سبينكس في 15 سبتمبر عام .1978

 

محمد المخزنجي