مزالق الاحتراف

مزالق الاحتراف

هذه شهادة لملاكم عربي وصل إلى المصاف العالمي في رياضة الملاكمة، وهو هنا يتحدث عن ملاكمة المحترفين.

الملاكمة كما يصفها البعض هي رياضة الفن النبيل في الدفاع عن النفس، وقد عرفت الملاكمة منذ بداية الحضارة، وهذا مدون على البرديات بالمعابد في الدولة الفرعونية، وأيضا منذ عهد الحضارة الإغريقية، وقد تطورت الملاكمة وتم وضع القوانين المنظمة لها والتي تحدد طرق لعبها ومنازلاتها حتى وصلت إلى الشكل الحالي، ووضعت لها القوانين التي تكفل حماية الملاكم مما جعل كل من يشاهد هذه الرياضة يود أن يمارسها فتعمل على إشباع غريزة الصراع والدفاع عن النفس المكبوتة في داخل الإنسان، ثم انقسمت الملاكمة إلى عالمين كبيرين هما: عالم ملاكمة الهواة، وعالم ملاكمة المحترفين.

واستمرت الملاكمة، هواية واحترافاً، في تطورها حتى طغت ملاكمة الاحتراف، وذلك بسبب الدولارات وأباطرة وبارونات المراهنات، ورجال المافيا الذين يهمهم في المقام الأول الربح الذي لا يتأتى إلا بزيادة عدد المتفرجين، ووجود الإثارة والدماء في كل مباراة، حتى تحولت الملاكمة إلى تجارة في لحوم الملاكمين الذين يكسبون الآلاف بل والملايين من الدولارات ولكن على حساب سلامتهم وحياتهم، والضحايا من الملاكمين كثيرون، مع وجود اختلاف في أنواع عاهاتهم وإصاباتهم، وأقرب الأمثلة لذلك هو الملاكم الأسطورة (محمد علي كلاي) المريض بالشلل الرعاش من كثرة ما تلقاه من ضربات في المباريات الكثيرة التي لعبها حتى تحول هذا الأسطورة من بطل رياضي عظيم في الماضي إلى إنسان لا حول لـه ولا قوة!! وأصبح كل من يشاهده يشفق عليه ويتحسر وهو يتذكره كيف كان أيام عظمته على الحلبة.

وهناك من دفع حياته ثمنا لمتعة الجماهير المتعطشة للدماء، وهناك من خرج بعاهات مثل تشوهات في الوجه، وانفصال في الشبكية كالملاكم الأسطورة في وزن المتوسط (شوجار راي) الذي لولا تقدم الطب ما تم علاجه، وقد نصح بعدم مزاولة الملاكمة بعد ذلك.

وهناك من وجد صعوبة في الكلام بصورة طبيعية، أو النسيان وهي حالة تنتاب جميع الملاكمين سواء كانوا هواة أو محترفين، وعدم القدرة على التركيز، كل هذا بعد اعتزال الملاكم الذي لا يمكن أن يكون اختياريا لأن البطل يستمر إلى أن يسقطه بطل آخر، ويظهر على حساب البطل السابق ـ هذه هي سنة الحياة ـ لأن عالم الملاكمة مثل السينما فنجم الشباك اذا استمر على الدوام يمل الناس منه، وهذا يحقق الخسارة لأباطرة المراهنات، فإذا لم يستطع أحد أن يسقط ملاكماً، عملوا على ازاحته بأي شكل وبأي وسيلة مشروعة أو غير مشروعة مثلما يرجح أنه حدث مع الملاكم الأسطورة المسلم (مايك تايسون) أو (مالك) الآن. لقد كان النجم الأوحد لشباك ملاكمة الاحتراف، فكان أمراً طبيعياً عندما تذهب إلى مباراة تايسون مع أي ملاكم آخر أن تكون جاهزاً لمغادرة الصالة لأن المباراة تنتهي بالضربة القاضية لصالح تايسون بعد دقائق قليلة وقد تأقلم المتفرجون مع هذا الوضع، وكل من يذهب لمشاهدة تايسون يراهن على فوزه بالقاضية لأنه الحصان الرابح، وفعلا يحدث هذا مما سبب خسائر طائلة لمكاتب المراهنات التي تديرها مافيا المراهنات، فبدأت تحاول إزاحة البطل تايسون من الساحة فلم تستطع هذه المافيا إزاحته إلا بعد أن دبرت له مؤامرة مفادها أنه قام بمحاولة اغتصاب ملكة جمال السود في أمريكا، وقد يكون فعل ذلك، لكن يرجح أن الموضوع كان فخاً وقع فيه بحماقة.

تايسون دخل السجن! وظهر في هذا الوقت العديد من الأبطال لشباك المراهنات واستمر نزيف الدماء وامتلأت جيوب مافيا هذه اللعبة حسب أرواح الملاكمين، حتى تحولت إلى رياضة مقامرة مثل التي تحدث في أندية القمار. ونحن لا نقلل من شأن ملاكمة الاحتراف، ولكن نحاول أن نوضح آثارها السلبية، حتى لا ينخدع المشاهد، فهناك مباريات نتيجتها كانت معروفة سلفاً أي قبل دق ناقوس بدء المباراة، تمثيلية منظمة: الملاكمان يتبادلان الضربات وتحدث الاصابات وتسيل الدماء على بساط الحلبة حتى تحين اللحظة التي يسقط أحدهما بالضربة القاضية كما هو مخطط، مهزلة رياضية في شكل مباراة ملاكمة محترفين ومن ذلك ما حدث في وزن خفيف الثقيل بين الملاكم الإنجليزي بطل العالم السابق (كريس يوبانك) المعتزل منذ سنة 1990 والذي ارجع إلى الحلبة في سنة 1996 وسط ضجة إعلامية كبيرة بعد توقف 6 سنوات محتفظا بقوامه الممشوق والعضلات البارزة والكثير من الحركات التي تبهر المتفرجين ولكن من دون ملاكمة، وفعلا اختار ملاكماً مغموراً من الأرجنتين يشبه مارادونا لاعب كرة القدم في الشكل والجسم ولا يشبه الملاكمين في فن الملاكمة بأي حال من الأحوال وحتى لا تنكشف هذه التمثيلية أو المهزلة قرر اقامتها في القاهرة لأن إقامتها في لندن تعتبر فضيحة ولأن الإنجليز لا يدفعون الاسترليني بسهولة وفعلا تمت في القاهرة (ودق الجونج) وبعد خمس جولات وجه (كريس) ضربة أوقعت شبيه مارادونا أرضا بالقاضية وسط صفير الاستهجان من المتفرج المصري والعربي الذي تابع المباراة بعدما أقام كريس مباراة حقيقية نسبيا في لندن مع ملاكم قوي خرج (كريس) مهزوما وتم إلقاء الزجاجات على (كريس يوبانك) الإنجليزي من المتفرجين الإنجليز.

ومثال آخر: (جورج فورمان) العجوز الذي عاد إلى الحلبة بعد دخوله في العقد الخامس من عمره كان يفوز على فتيان في أشد حالتهم قوة وبأسا مع وضع الكثير من احترامنا لشخص (جورج فورمان) بطل العالم الاسبق، إلا أن الملاكمة لها حد أقصى للعمر الافتراضي للملاكم، لأن كل ضربة توجه إلى الملاكم في رأسه تعمل على فقده آلاف الخلايا في المخ ولذلك لا يمكن أن يستمر الملاكم فوق منتصف العقد الثالث من عمره، وهذا يجعلنا نترحم على أيام الملاكمة الحقيقية ، وهناك الكثير من الأمثلة للمباريات الأسطورية التي كان طرفها الأشهر محمد علي سواء كان ضد جو فريزر أو ليستون أو فورمان أو باترسون فكلهم ملاكمون كبار.وهناك مباراة لا يمكن إغفالها أو تجاهلها وهي مباراة التحدي على لقبل بطل العالم لون المتوسط بين الأسطورة (شوجار راي) بطل العالم وبطل العالم اللاحق (مارفن هاجل) والتي استمرت اثنتي عشرة جولة وقد فاز فيها (شوجار راي) بالنقاط ووصفه البعض وقتها بأنه احسن لاعبي العالم فنا منذ بدء تاريخ الملاكمة مما جعل البعض يقارن بيه وبين محمد علي كلاي.

الملاكمة رياضة مثيرة ومثيرة جدا ولها وجهها المشرق المليء بالايجابيات مثل إظهار القوة والتحمل والمثابرة والشجاعة وعدم اليأس.. نتمنى أن تعود الملاكمة رياضة النبلاء والشجعان لإظهار كيفية الدفاع عن النفس ضد عدوان الأشرار إن دعت الضرورة.

أول نزال معترف به للحصول على بطولة العالم في ملاكمة الوزن الثقيل للمحترفين باستخدام القفازات والجولات التي يتكون كل منها من 3 دقائق، كان بين (جون لورانس سوليفان) و(جيمس جون كوربيت) في نيو أورليانز في 7 سبتمبر عام 1892 وفاز فيه جون كوربيت في الجولة 21.

آخر نزال للحصول على بطولة العالم بقبضات عارية في الوزن الثقيل تم في 28 أغسطس عام 1885 وكان بين سوليفان ودومينيك ماك كافري في حديقة شيستر بأوهايو، وقد غادر حكم المباراة (بيلي تايت) الحلبة دون اعلان النتيجة، لكنه عندما سُئل بعد يومين صرح بأن الفائز هو (سوليفان)!

 

علي عبداللطيف شرف الدين