جدل الماء والصحراء: البيئة في عُمان

 جدل الماء والصحراء: البيئة في عُمان

عدسة: فهد الكوح

جغرافية المكان تثير كوامن النفس، فتبوح بسؤال إثر سؤال، والفضول يدفع الإنسان إلى مزيد من البحث والتجوال وكأنه يكتشف عالماً جديداً في كل بقعة، فوراء كل جبل من شاهقات عُمان، عالم من الجمال المنظور والمحسوس، وكل حفنة رمل تروي غرائب الحكايات التي تبدأ مع حلول الإنسان الأول في عمان بعد العصر الجليدي وقبل الميلاد باثني عشر ألف عام، ومع انسياب الموج أو صخبه تهب عليك همسات مضمخة بالانتصارات والعنفوان.

وقفت مندهشاً وأنا أشاهد تجمّعاً كبيراً حول بركة ماء عميقة في الرستاق, سألتهم ماذا يحدث هنا؟ ابتسم مرافقنا الشاب عبدالله, وقال: أتحسب بيئة عمان صحراء وبحراً وزراعة ومخلوقات فطرية فقط؟ هنا يا صديقي (عين الكسفة), نزلنا من السيارة وتوجهنا نحو بركة الماء, وإذا ببخار لطيف يتصاعد منها وبجانبها أقيمت بعض الأماكن للاستحمام في مياهها الجارية بلا انقطاع أو توقف في جميع الفصول.

(عين الكسفة) واحدة من أشهر العيون في عمان, يستفاد من مياهها المعدنية في الشرب والري, والاستشفاء أيضاً, وأولئك المتجمعون حولها يقصدونها للتخلص من الروماتيزم وبعض الأمراض الجلدية, تنبع مياه هذه العين من فالق ضخم في صخور جبال حاجر الجيرية, وتستمد مياهها من الأمطار التي هطلت في الأزمنة الغابرة. إلى المسجد الذي يجاورها, دخلنا للصلاة والتقينا بعد انتهائنا منها شيخاً وقوراً وخط الشيب لحيته, حدّثني بما يحفظونه في الذاكرة الشعبية عن هذه العين, فقد سبق أن أغلقها أحد قادة جيوش الغزاة, ولكنها عادت لتتفجر مياهها من مكان قريب.

يضحك الشيخ وهو يحدّثنا عن إحدى النساء العجائز التي كانت تسرح بنعاجها على نباتات ترويها مياه العين, وحين شاهدت القائد الغازي ينسحب بجيشه من عمان أمام صلابة أبنائها ودفاعهم عن أرضهم, يحاول ردم العين ولم يفلح في ذلك, لا يكاد يغلقها من جانب حتى تنبثق في عطائها من جانب آخر, قالت له العجوز بمكر: يا سيدي, يُقال إن مياه هذه العين لا يوقفها إلا صوف الغنم ممزوجاً مع التراب, تريد بذلك بيع ما تكنزه من صوف أو ما كسد عندها, فقال القائد: هذا فعل مقدور عليه, وأخذ يحمل أغنامها واحدة تلو الأخرى ويرميها في فوهة العين حتى توقفت الماء والعجوز تلطم وجهها وتولول على نعاجها. ما لبثت العين إلا فترة وجيزة ثم انفجرت من مكان غير بعيد, وعين الكسفة المتدفقة تغذي بمياهها عين الثوارة في بلدة نخل. حين يممنا شطر نخل كنت أعتقد جازماً أن اسمها قد جاء من الأعداد الهائلة لأشجار النخيل فيها, لكن المدير العام للبلديات الإقليمية والبيئة لمنطقة جنوب الباطنة وليد يعقوب فاجأني بأن تسميتها لأنها أشبه بمصفاة للماء تنخله نخلاً. وقفت على إحدى شرفات قلعة نخل التي يعود بناؤها إلى ما قبل الإسلام, فبدت البلدة أمامنا أخّاذة بهدوئها وبمناظرها الخلابة ونباتاتها التجميلية التي تأتي زهور الكيذا (الكاذي) في مقدمتها, قالوا: إن لهذه الزهور طقوساً جميلة ساعة غرس نبتتها, فهي تزف إلى تربتها كالعروس وسط أجواء الغناء والطرب وقرع الدفوف, والأكثر طرافة أن لها أغانيها الخاصة, هكذا, وإلا فإنها سوف تنمو غاضبة ولن تبوح بفتنتها ورائحتها العطرية. تتبّعنا جزءاً من سلسلة العيون في منطقة الباطنة, وانتقلنا إلى عين الخضراء في وادي السحتن, ذلك الوادي الذي يعتمد سكانه على الزراعة بأنواعها, بدأنا ببلدة طباقة, وبدأت تطل علينا واحات النخيل التي يزرعون بين أشجارها مختلف أنواع الخضراوات. ومن طباقة دخلنا قرية عين الخضراء, قرى صغيرة بين الجبال. في عين الخضراء, النسوة يحملن الصفائح المعدنية مملوءة بالمياه إلى منازلـهن, فلا مورد آخر للماء غير هذه العين الغزيرة نسبياً, وعندما يجتمعن حولها تبدأ الأحاديث والثرثرة التي تطول كما هو حال كل نساء العالم. تساءلت: أين منازل هؤلاء الناس؟ فالتفت إليّ حمد بن سيف العبري - وهو من أبناء الوادي - ليشير بيده قائلاً : خلف هذه الأشجار. على سفوح الجبال تغلغلنا قليلاً في الواحة, الأولاد يركضون على سفح الجبل, كيف لا يخشى عليهم أهلهم من السقوط؟ إنه الإنسان ككل المخلوقات, ابن بيئته أيضاً. وبينما كنت أسير بين الأحراش الطبيعية, صرخ أحد أبناء المنطقة (لا يطعنك السلاه) التفت إليه ولم أدرك معنى ما سمعته, فقال مرافقنا: إنه يحذّرك من وخزات الأشجار الشوكية المتطفلة على جوانب السواقي. وصلنا إلى بلدة سفح, الأطفال والنساء يهربون من أمام الكاميرا, الطريق ترابية تمتد أمامنا متسعة تارة, وضيقة تارات, وساقية المياه (الفلج الطبيعي) نراها حيناً عن يميننا وحيناً عن يسارنا, وتظهر مرة لتختفي مرة أخرى جارية تحت سطح الأرض, بلغنا بلدة فسح ومنها إلى عمق.

حياة على السفوح

ولانزال في وادي السحتن الكبير المؤلف من 42 قرية, ومن عمق بدأنا بالصعود المخيف نحو قريتي الهويب ووجمة, تجمعات سكانية صغيرة قائمة على سفوح الجبال, يعتمد سكانها على الزراعة, المدرجات على السفوح تكتظ بالعنب والزيتون والفاكهة والخضراوات وما شابه. وقفنا قبيل وجمة وإذا بشجرة مقطوعة, هبط إليها مرافقنا حمد ليعرف السبب, وبعد تفحصها تبين أنها ربما انكسرت بسبب الهواء, سألته عن سر اهتمامه, فقال: نحن مسئولون عن حماية الأشجار الطبيعية وعن الحيوانات البرية في وادي السحتن, لقد صدر قانون حماية البيئة ومكافحة التلوث في عام 1982, وأنشئت في السلطنة وزارة البيئة لتنفيذ الخطة القومية لحماية البيئة. كانت الأشجار الطبيعية في كل مكان, الطلح, البوت, الشوع كلها أشجار تنتشر على السفوح بين الأفلاج الطبيعية, ويستفاد من هذه الأشجار كمورد للطب الشعبي, فزيت الشوع من أجل طرد الغازات وللتخلص من بعض الأورام, وزيت القفص من أجل دهن الأعضاء المصابة بالروماتيزم. في ظلال الجبال أقيمت بعض الأسوار من الحجارة كحظائر للمعز التي تنتشر لترعى على السفوح, بجانبنا يقف رجل مسن يحمل في يده منظاراً يراقب به القطيع, قالوا إنه يرعى المعز, وسألته عنها , قال: هي تسرح عند النباتات الطبيعية على السفوح, قلت: كيف تجمعها في آخر النهار؟ ببساطة قال: إنه مجرد صوت ألفته المعز ما إن أطلقه لمرات حتى تتجمع أمامي, فأسير خلف القطيع إلى الحظيرة. ويبدو أنه هو الآخر عنده همومه, فالكثير من معزه ينفق بين الجبال, فحين تلد الأنثى على السفوح المرتفعة ينتابها الإرهاق والإعياء, فلا تستطيع العودة ولا يعرف مكانها خلف الصخور.

لم يبق بيننا وبين وجمة إلا أمتار قليلة كنا فوق سطح البحر بقرابة 3 آلاف متر, وعلى هذا الارتفاع العجيب, تحتضن البيئة العمانية أبناءها, قال مرافقنا: هذا هو جبل شمس, وأشار بيده نحو قمة لاتزال الشمس تضيئها رغم غروبها عن كل ما حولها وحولنا. وسُمي الجبل بهذا الاسم لأن قمته أول بقعة في عمان تستقبل الشمس حين شروقها, وآخر بقعة تودّعها الشمس عند الغروب. وعلى هذه القمم الجبلية, وفي ظلال الصخور, تعيش الحيوانات البرية كالغزلان والوعول وغيرها على النباتات الطبيعية, وتشرب من العيون التي تصب في الأفلاج الطبيعية. وهذه القمم بمجملها مع سفوح الجبال محميات طبيعية للحيوانات والأشجار البرية, حتى المعز في الصيف تعيش على القمم ولا تنزل إلا في المساء بعيد غروب الشمس. كنا نخرج من وادي السحتن عن طريق وادي ابن عوف لنخرج بعدئذ إلى الطريق المعبّدة ونتجه نحو الرستاق, هبطنا من ذلك الارتفاع بتدرّجاته المخيفة ومنعطفاته الحادّة, الرمال تصر تحت عجلات السيارة, بعد ذلك صارت الطريق متعرّجة, ولكن بلا مرتفعات أو منحدرات, والجبال تحيط بها من كلا الطرفين, وتكثر استداراتها متماشية مع التفاف الوادي والجبال, لقد استغرقت المواصلات حتى مهّدت الطريق الترابية بين الجبال وعلى سفوحها وقتاً طويلاً ذاقت خلاله أنواع المشقة وألوانها. من الرستاق عدنا إلى جزر السوادي مع المدير العام للبلديات الإقليمية والبيئة لمنطقة جنوب الباطنة, كان جهاز الكاسيت في السيارة يبث أغاني وطنية تشيد بالنهضة الحديثة التي بلغتها عمان, نهضة واضحة الملامح جاءت بعد مراحل من العناء والبؤس مرت بها البلاد وفقدت خلالها جزءاً من إمبراطوريتها, وتعرض مدها للانحسار, ثم تقوقعت بعد ذلك داخل حدودها وهي تمر بفترات قاسية انعزلت خلالها نهائياً عن العالم الخارجي ثم عادت إلى البزوغ مع السبعينيات كطائر العنقاء, واليوم تعيش نهضة حديثة يسعد بها العمانيون ويباركها الأشقاء والأصدقاء.

وعن أسلوبهم في المحافظة على البيئة, قال وليد يعقوب: نقدم خدماتنا في الرستاق من خلال بناء الأسواق ومراقبتها والإشراف عليها, ونشرف أيضاً على المسالخ والحدائق, ونقدم خدمات البلدية في مجال إنشاء ملاعب الأطفال ورصف الطرق, وعلى رأس ذلك كله, فإننا نحافظ على النظافة العامة, وفي إطار المحافظة على البيئة, لدينا مراقبو الحياة الفطرية وحماية الأشجار النادرة في وادي السحتن - وقد رافقوكم إلى هناك - وفي وادي بني خافر, تكثر أشجار العلعلان, السدر, السمر, الشوع, القفص المفيدة بيئياً من جهة وكثير من المواد المستخرجة منها كالزيوت تفيد في علاج الأمراض من جهة أخرى, ونحافظ على البيئة أولاً وقبل كل شيء عن طريق التوعية التي تبدأ بإصدار النشرات والمطبوعات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وزيارة ربّات المنازل وإقامة المعسكرات الصيفية التي تساهم في نظافة الأفلاج والأودية, وفي تقليم الأشجار, وإعادة الأصباغ للأماكن لنحافظ على جمالها. ونشرف على المصانع والمعامل من خلال فرق تفحص العينات الغذائية وتسحبها من الأسواق ما لم تكن سليمة. وأقسام المراقبة الصحية تقوم بالكشف الدوري السنوي على العاملين ولا يسمح بقيام المصانع والمعامل إلا في أماكن بعيدة عن المناطق السكنية. ويقلل الوقود الخالي من الرصاص الآثار السلبية لعوادم المركبات التي تخضع للفحص المروري الدوري, فالإنسان هو الأهم دوماً في بيئتنا, ونوجه بعض المختصين لفحص المياه والتأكد من سلامة مياه الآبار والعيون وصلاحيتها للشرب. والمياه في الرستاق وضواحيها وما يتبع لها من مدن وقرى تأتي إما من العيون عن طريق الأفلاج أو من الآبار الجوفية بواسطة المضخات. ونظام الأفلاج منتشر بكثرة في عمان, والأفلاج قنوات طبيعية للمياه كما هو في جبال حاجز في الباطنة أو هي قنوات صناعية مادتها الأساسية الأسمنت والحجارة, أي أن يد الإنسان هي التي عمّرتها. ويعتقد أن الأفلاج ترجع إلى سنة 2700 قبل الميلاد, وأبرز هذه الأفلاج فلج دارس في نزوى, وفلج الحمراء مركز مائي حيوي لولاية الحمراء التي تربط منطقتي الداخلية بالظاهرة, يروي زراعاتها ويشرب الأهالي منه.

وصلنا الحمراء مع مرافقنا واستأذنته في مرافقة أحد الأهالي, وكانت فرصة اللقاء بأحد وجوه الولاية, حمير العبري الذي تجشم عناء التجوال معنا بين فلج الحمراء وبساتينها وأسواقها القديمة. علمت منه أن فلج الحمراء يقطع 17كم ليدخل الولاية ووزارة موارد المياه تقوم بصيانته, فيما تشرف البلدية على نظافته شأنه شأن أي فلج في عمان. الذين التقيناهم في الحمراء, قالوا: إن لم تزوروا مسفاة العبريين فكأنكم لم تزورا الحمراء, ولم تروها وهي على بعد أقل من 10كم عن الولاية. وعلى طريق صخرية توجهنا إلى المسفاة, من بعيد لا تبدو إلا الحصى والأرض جرداء ولا ترى الجنة الغناء في الوادي بين المرتفعات حتى يقترب منها الزائر فيرتفع صوت خرير المياه وهي تنساب من عين المسفاة ممتزجاً مع حفيف الأشجار ومسترسلة في أفلاج تنحدر من الأماكن المرتفعة لتصل إلى أسفل الوادي وهي تروي الزراعة التي تنتشر في المنخفض متنوّعة بين المانجو والنخيل, والليمون, والبرتقال, والسفرجل والموز. وبين الأشجار زُرعت النباتات التي تطعم للماشية . وإذا كان الموز منتشراً باستحياء في المسفاة, فإنه يكثر في بلدة بركة الموز, ويشاركه النخيل في الحصة الأكبر, ومياه فلج بركة الموز تروي البساتين ويقتسمها الأهالي, ويُعطى كل واحد ما تستحق أشجاره أو مزروعاته من الماء, وغالباً ما يكون ري الأشجار كل عشرة أيام, يشرف موظف مختص يدعى العريف على تقسيم المياه ويتقاضى على عدله في القسمة أجراً مجزياً من أصحاب البساتين. ولا تقتصر زراعات بركة الموز على الموز والنخيل, وإنما فيها أيضاً قصب السكر والعنب, وأينما ذهبنا في الأماكن التي تحتوي على الأفلاج, فإن الصفتين المشتركتين هما النظافة المطلقة والخلو التام من الأدران والفضلات, والثانية شكوى الأهالي من قلة الأمطار التي تهطل عليهم بشكل كاف منذ سنوات ثلاث ويذيّلون شكواهم دائماً بالرجاء (الله كريم).

نعود إلى الفندق نشاهد على الجدران وبين بطاقات المعايدة المعروضة للبيع صوراً للسدود العمانية الكثيرة وللشلالات المنحدرة بغزارة, نسأل عن المكان يسمّونه لنا, نطلب الزيارة لنتعرف على الثروة المائية في عمان, فيأتي الجواب وفيه شيء من الألم: هذه الشلالات كانت أثناء مواسم الأمطار, وحتى السدود التي تخزّن مياه الأمطار استحالت إلى أرض قاحلة لا أثر عليها للماء, والشكوى كالعادة مذيّلة بكلمتي الرجاء (الله كريم).

ونظراً لتحوّل عمان من حالة الجفاف الصحراوي إلى حالة الجفاف القاسية, فإن هناك إجراءات متخذة للحفاظ على ما بقي لديها من ثروة مائية, إذ إن لائحة تنظيم الآبار والأفلاج حددت شرطاً لحفر الآبار أو تعميقها أو تركيب المضخات عليها بحصول المواطنين على تصاريح من وزارة موارد المياه, ولا تمنح الوزارة مثل هذه التصاريح إلا بالاستناد إلى دراسة علمية وجيولوجية مسبقة, وبما أن الماء هو أرخص الموجود وأغلى المفقود, فإن وزارة الموارد المائية لا تتهاون بشكل من الأشكال في حماية منابع المياه وأماكن جريانها من التلوث والاستنزاف, وقد طورت الحكومة نظم الري حتى أن أسلوب التنقيط والرش انتشر في أكثر من 800 مزرعة, هذا عدا إدراج المزيد من المعلومات المتعلقة بموارد الماء في المناهج الدراسية, والقيام بحملات توعوية بأشكال عدة وتخصيص المواقع المحددة للتخلص من النفايات الصلبة ومعالجة مياه الصرف الصحي بعيداً عن الماء وعن موارده.

محميات برية... وبحرية

إن حرص العمانيين على عدم تلوث المياه لا يقتصر على مياه الشرب أو الري فحسب, وإنما يشمل ذلك مياه البحر أيضاً حفاظاً على نظافة البيئة وسلامتها وعلى الحياة الفطرية في البحر أيضاً.

توقف عبدالله العريمي مدير دائرة البيئة بمنطقة جنوب الشرقية في صور عن الحديث عندما دخل أحد التجار رافعاً شكواه المستعجلة من أجل إنقاذ مياه الشاطئ, فقد انقلبت فيها إحدى سفنه واندلق من خزانها الوقود ليغطي مساحة 16 متراً مربعاً, وسارع العريمي بإلقاء أوامره للمصور التابع للدائرة ليذهب ويصوّر البقعة, وبدأ باتصالاته لاتخاذ الإجراءات اللازمة. وعدنا إلى الحديث من بدايته ليذكر العريمي مهامهم في إطار المحافظة على البيئة كمراقبة المنشآت الصناعية وفضلات الكراجات ومغاسل السيارات كالزيوت ومياه الغسيل, وهل الخزانات المخصصة لاحتجازها سليمة؟ والتخلص منها, هل يتم بالطرق الصحيحة؟

وعن المحميات في هذه المنطقة, فهناك اثنتان, إحداهما برية وهي السليل التي أعدت للسياحة البيئية مستقبلاً, وفيها تتكاثف أشجار السمر في المحمية مع أشجار السدر والسرح ذات العبير المنعش في الصيف, وتصل مساحة السليل إلى 220كم2, وفيها ما يقارب 45 رأساً من الغزال العربي إضافة إلى القط البري وبعض الذئاب والثعالب الحمر, ولكنها تلجأ إلى الجبال المجاورة ولا تشاهد إلا نادراً, ورؤيتها مسألة غاية في الصعوبة, وتنتشر دوريات مكافحة الصيد غير المشروع بكثرة, وتعتمد أيضاً وزارة البلديات الإقليمية والبيئة على أساليب التوعية الحديثة وعلى التثقيف البيئي من خلال المحاضرات والندوات التي تقام بالتنسيق مع الجهات الحكومية للصيادين قرب البحر, ولهواة الصيد البري.

اغتنمناها فرصة في صور, وزرنا أماكن صناعة السفن, كنت أستمع إلى طرق المسامير بإيقاع محدد على ألواح السفينة المحدّبة, فأشعر وكأنها نغمات, تلك النغمات الإيقاعية شدّتنا إلى ورشات صناعة السفن التي استمرت صور تصدرها إلى دول الخليج عقوداً طويلة ثم تحدد تصديرها إلى الولايات العمانية الساحلية. صناعة السفينة تستغرق أكثر من أربعة أشهر يعمل خلالها أكثر من عشرة عمال, أخشاب الجوانب للسفينة نتاج البيئة العمانية, وتحديداً السدر والقرط, والسفينة العمانية لها سطور مضيئة في تاريخ انتصارات البلاد وفي حركتها التجارية, وما كانت تحمله من منتجات البيئة العمانية. وفي الآونة الأخيرة, استرجعت عمان سفينة (فتح الخير) الصورية الأصل من اليمن والمصنوعة منذ قرابة 50 عاماً, ووضعتها في إحدى الساحات الرئيسية كمعلم تاريخي يدل على الأسطول التجاري وصناعة السفن في عمان. وبلهجة خبير يقارن جمعة العريف بين السفن الخشبية وغير الخشبية التي أخذت تنتشر حديثاً, ثم يؤكد أن الخلل بنقص مسمار يسبب خللاً للسفينة, وغالباً ما تحشى الفراغات بين ألواح السفينة بفتائل القطن المشبّعة بزيت النارجيل, النارجيل الذي عرفت صلالة بزراعته.

من مصنع السفن, خرجنا إلى شاطئ البحر, كانت أسراب الطيور البحرية تحلق مطمئنة على الشاطئ, حتى أنها تشكّل مجتمعة ما يشبه الغمامة التي تحجب الشمس, كثرتها وتنوّعها يثيران الإعجاب, النوارس, البلشون الأبيض, الفلامنجو وأبومنجل, مخلوقات يبدو أنها استطاعت أن تستشف الأمان والحماية وتحس بهما, فاقتربت من بني الإنسان, وبالفعل فإن طيور البحر بأنواعها وأشكالها محمية لا يحق لأحد كائناً من كان إزعاجها أو المساس بحرياتها, والطريف أنني لم أرها بهذه الأعداد المذهلة على باقي الشطآن العمانية ولا حتى في جزر الديمانيات.

محميات السلاحف..

في المساء حين وصلنا إلى مقر إقامتنا في صور, كان بعض الرجال من حماة الحياة الفطرية ينتظروننا لنتوجه إلى رأس الحد. وصلنا إلى محمية السلاحف وعقارب الـساعة تشير إلى العاشرة والنصف ليلاً, اصطحبونا إلى الشاطئ ذي الرمال الناعمة الهشـّة, فكان السير لمئات من الأمـتار يرهق الأوصـال, وعلى ضـوء مصـباح البـطارية, شاهدنا آثار سير إحدى السـلاحف وكأنها آثار عـربة قتـالية مجنزرة, تتبعنا الأثر وإذا بالسلحفاة الضخمة التي يزيد وزنها على المائة كيلوغرام وطولها يزيد على المتر تعد الحفر. قال مرافقنا: إنها السلحفاة الخضراء التي تضع في المرة الواحدة أكثر من مائة بيضة, وهي كباقي السلاحف تحفر فـي أكثر من ثلاثة أماكن حفراً عميقة لتضع بيوضها في إحداها, وتنتقل من واحدة إلى أخرى تحت الأرض, وهي تردم الحفر جميعها مسوية بها وجه الأرض, ثم تنثر الرمال الناعمة فوق الحفرة التي تحتوي البيض للتمويه, فتبدو الأرض فوق الحفرة وكأن نملة لم تسر عليها, وحالما تشاهد أحداً, فإنها تهرب وإن كانت تنوي البيض, فإنها تمتنع إلا إذا كانت قد بدأت من قبل, فإنها لا تتوقف ولو تجمّع حولها بشر الدنيا, نجلس بكل هدوء وترقب في ظل الجبل قرب الشاطئ, البحر يؤنسنا بأمواجه التي تداعب الشاطئ ولا نرى شيئاً حولنا إلا الظلام وقليلاً من لمعان الماء تحت أضواء النجوم. سألت مرافقنا: وهل ستبيض السلحفاة اليوم؟ فأجاب: نرجو الله أن تفعل. امتدت جلستنا حتى ما بعد الواحدة ليلاً, ونحن ننتظر, وفجأة نهض مستطلعاً ثم نادانا, كان البيض يتساقط ساخناً من جوف السلحفاة, حملت إحدى هذه البيوض وإذا بقشرتها سميكة صعبة الكسر, وتختلف تماماً عن بيض الطيور بقساوة قشرتها. أصوات الثعالب تؤرق المكان من حولنا وآثار خطواتها كثيرة على الرمال, مخلوقات تبحث عن أرزاقها, فتترصد السلاحف لتسرق بيضها بعد مغادرتها أو تأكل صغارها التي يفقس البيض عنها. قال مرافقنا: كان الإنسان قديماً يشارك الثعلب, وبذكائه فإن الإنسان كان يكشف مكان السلاحف فيصطادها ويأخذ بيضها ليتغذى به, قلت: وهل يؤكل لحمها وبيضها, قال: نعم ولايزال البعض يصفه كدواء في الطب الشعبي للاستشفاء من بعض الأمراض الصدرية.

يستغرق بيض السلاحف في الرمل فترة قد تصل إلى 55 يوماً حتى تفقس عن الصغار الذين يكثر الذكور بينهم كلما انخفضت درجات الحرارة عن معدل معين, وفي حال العكس, تنتج البيوض إناثاً. ولا تبيض السلاحف ولا تخرج أسراب السلاحف الصغيرة من تحت الرمال إلا في الليل مستهدية إلى البحر بلمعان الماء, فإن رأت نوراً أيّاً كان تبعته ضالة طريقها, وحماة الحياة الفطرية خلال دورياتهم يوجهونها إلى الماء وإلا فإنها تكون فريسة سهلة ووجبة شهية للثعالب, كما أنهم يمنعون الناس من صيدها أو أخذ بيوضها. والسلحفاة التي تظهر في عمان يرصد موظفو البيئة تحرّكاتها ويعلقون في يدها قطعة معدنية محفوراً عليها رقم محدد تسلسلي وعنوان محمية السلاحف الذي يتبع له مكانها بدقة, حتى تغدو القطعة المعدنية أشبه ما تكون ببطاقة شخصية للسلحفاة, وكثيراً ما ترد الرسائل من الدول الأخرى التي تظهر فيها السلحفاة بعد مدد زمنية تطول أو تقصر, ويخبرنا مرافقنا أن السلاحف المرقمة في عمان زاد عددها على (41200) سلحفاة والشواطئ العمانية عُرفت بارتياد أنواع من السلاحف كالخضراء التي شاهدناها والشرفاف والرمانية وريدلي الزيتونية.

ومن الطبيعي للبلاد التي تولي السلحفاة اهتماماً أن تزيد في هذا الاهتمام حين يكون للأسماك وطيور البحر التي تنشر في الماء وعـلى الشـطآن الحـياة. ولا أنسى صباح ذلك اليوم حين وقفنا في ولاية بركاء على شاطئ خليج عمان لكي نبحر إلى جزر الديمانيات غير الآهلة بالسكان مع بعض الموظفين في مراقبة الحياة الفطرية, القارب يترنح على صفحة مياه البحر المضطربة والأمواج تنقض على الشاطئ, سألت أحدهم - وليتني لم أفعل - ما حكاية البحر اليوم؟ التفت إلي بوجوم وتكلم بشيء من الاهتمام: يبدو أنه ليس هادئاً, ولنترك الأمر لله. قلت: لا شك أن الأمر لله من قبل ومن بعد. يبدو أن ملامح الاهتمام ظهرت على وجهي, فقال: لا تهتم, نحن متعوّدون على تقلباته وهيجانه, فمنذ فترة, احتجزني لثلاثة أيام في جزر الديمانيات, وكنت أقتات خلالها على الأسماك, هي حاله المتقلبة, واليوم هو هادئ نسبياً, ومنذ أشهر, هاج بشدة حتى أودى بحياة اثنين هنا. وسأله أحد البحارة مستفسراً: هل اعترضتهم الذئبة؟ وقفت مشدوهاً بينهم, أصغي للحديث, فيما يحاول بعض الشبّان إصلاح محرك القارب الذي يتوقعون إصابته بالعطل ثانية وسط البحر, لست أدري بماذا أصف أثر الحديث الذي سمعته في صباح ذلك اليوم, أنا الذي لم أعتد البحر ولا أعرف السباحة, وأخشى البحر في هدوئه, فكيف إذا هاج وماج؟!

ترددت في داخلي, ولكن محرّك الطراد صار جاهزاً, وتوجه الرفاق, فسرت معهم نحوه, زفرت محركات القارب وتمايل قليلاً, ثم انطلق ليعدو كالسهم قاطعاً (35) كم إلى جزيرة الجون وهي واحدة من سلسلة جزر الديمانيات التسع المعروفة: أولاد الجون, الجون, قصمة, الجبال الكبار, الجبال الصغار, الخرابة, حيوت, الصيرة, لواح. وفيما القارب يعلو ويهبط وأحد البحارة يقف في مقدمته يرصد طريقه بحذر من بعض شباك الصيادين أو من ألواح خشبية تأتي من بعيد فتصطدم بالمحركات, كان حسين البلوشي يحدّثنا عن الحياة الفطرية التي تنشط بالديمانيات, فالسلاحف والطيور والنباتات في المياه قرب الجزر وتكثر أيضاً الشعاب المرجانية, وحمايتها من اختصاصنا. هبطنا من القارب في جزيرة الجون ذات الرمال البيضاء الناعمة التي تبرهن على عذريتها, فيد الإنسان لم تطلها بالعبث, الطيور تغرّد وترفرف بأجنحتها مقتربة كثيراً من صفحة الماء لتلتقط أرزاقها من الأسماك, علقت على المنظر موجّهاً كلامي إلى حسين البلوشي: حتى الطيور متخمة بالأسماك, قال: نعم, وللأسماك أحجام وأنواع كثيرة في المياه العمانية كالكنعد والشعري والخباط والجوافة وحتى الحبّار يكثر هنـا ولا تخلو مياه هذه المنطقة من أسـماك القرش كالذئبة وغيرها, ومسئوليتنا تشمل توفير أجواء التكاثر لهـذه الأسـماك من خلال المحافظة على الشعاب المرجانية التي تزوّدنا كبشر بما نحتاج إليه من الأسماك كنوع مهم من غذائنا, كما تحمي الشواطئ من العواصـف والأمواج, فهي في واقع الأمر مأوى للأسماك, وكل نوع من الأسـماك له نوع من الشعـاب المرجانية, وفضلاً عن هذا وذاك, فإن الأطباء يحصلون على مواد أولية لبعض الأدوية منها, أتساءل: وكيف تحمون هذه الشعاب؟ فيجيب حسين: إننا نمنع الصيادين من إلقاء مراسي القوارب عليـها, فكل مرساة وزنها يكون ثقيلاً بحيث يدمّر الشـعاب التي يقع عليها, وإن لم تدمّر المرساة الشـعاب, فإنها ستصيبها بأضرار بالـغة لدى حركتها التي تنتج من تحرّكات واضطراب القارب على الماء, خـاصة أن طـبيعة الشعاب المرجانية هشّة وتهشيمها أو إغلاق منافـذها سهل, وإذا حصل, فإن الأسـماك التي تسكنها سوف تهرب أو تموت, ونمنع أيضاً الصيادين من استخدام الرمح في صيدهم.

تنميتنا لا تؤثر سلباً في البيئة

من الديمانيات عدنا إلى العاصمة مسقط, وكانت فرصة اللقاء مع وكيل وزارة الإعلام حمد الراشدي الذي أضفى على لقائنا طابعاً ودّياً, وحسن استقباله وترحيبه دفعاني لكي أتجاذب معه الحديث حول دور الإعلام في حماية البيئة, فقال: في السبعينيات, بدأت برامج التنمية, ومع دوران عجلة التنمية كانت البيئة في الحسبان, وهدفنا ألا تكون التنمية على حساب البيئة, وتأسست لها وزارة خاصة دمجت فيما بعد مع وزارة البلديات, وسنت القوانين لحماية البيئة وصون الشواطئ, وأي بناء أو مشروع لا يمكن أن يقام دون موافقة وزارة البيئة لكيلا يتناقض مع ما حوله فيؤثر في جماليات البيئة. ودور الإعلام متجانس عندنا مع اهتمام الدولة بالبيئة والمحافظة عليها, فهناك برامج إذاعية وتلفزيونية مستمرة تعنى بالبيئة وتسترعي اهتمام الناس, وتحضّهم على المحافظة عليها, ولا تتوقف الحملات الإعلامية والتلفزيونية التوعوية من أجل البيئة, وقامت في السلطنة تجربة شهر البلديات وهو أكتوبر من كل عام, وفيه تجنّد السلطنة كل أفرادها لإظهار مدنها بالمظهر اللائق وتقدم الجوائز للمنطقة التي تفوز بالمركز الأول بيئياً, وتتسابق المناطق للفوز, ووزارة الإعلام تنقل كل نبض في هذه المسابقات وفي التنافس الحميمي.

وحول ترشيد استهلاك المياه وحفظ وصيانة الموارد المائية, يقول الراشدي: أيضاً نعمل من خلال البرامج الإذاعية والتلفزيونية, وإجراء بعض المسابقات على توعية الإنسان في عمان ليكون حريصاً على موارده المائية التي باتت شحيحة إلى حد ما قياساً بالاحتياج إليها, وموضوع المياه مما يسترعي الاهتمام التام لوزارة الإعلام, ولذلك فالخطط الإعلامية من أجل ترشيد استهلاك هذه الثروة التي تعادل الحياة مستمرة.

خرجنا من وزارة الإعلام إلى شوارع مسقط الباهرة بنظافتها ونظافة مبانيها البيضاء, والأشجار والنباتات تحف الشوارع وتنتشر في كل مكان, الحدائق العامة تتوسط المدينة. توقفنا في حديقة الريام وأفواج أطفال المدارس تتقاطر ليقضوا يوماً مفتوحاً على بساطها الأخضر وألعابها. دعانا الحارس لنتناول فنجان قهوة وشيئاً من التمر, وحدّثنا عن الاهتمام بمثل هذه الأماكن الترفيهية والحرص المستمر على نظافتها وعدم العبث فيها. ومن حديقة الريام نتحول إلى ميناء مطرح الذي تحيط به المدينة التجارية والمناطق السكنية, ورغم وجود أسواق الخضار والأسماك وازدحامها بالزوار, فإن المكان نظيف ولا أثر فيه للإهمال, وهذا نابع من حرص أبناء مسقط على نظافة وجمال مدينتهم. بعض الطيور تتهادى محلقة على الشاطئ, ثم تقترب من الواقفين وتلتقط فتاتاً من الخبز ينثره أحدهم لها. وقفت أتأمل الملامح البيئية لمسقط, وذلك الجمال المنظم في مختلف ضواحيها لأجد تفسيراً واضحاً لفوزها بلقب أنظف مدينة عربية في 1996م, وبالجائزة الثانية للوعي البيئي وحصولها على الدرع الفضي لمنظمة المدن العربية. والجميل في مسقط أنها مدينة عصرية, ولكن هذه العصرنة لم تكن على حساب طابعها التاريخي, فالقلاع والحصون والمباني القديمة محاطة بالعناية الفائقة, وهناك حرص أيضاً على ألا يناقض العمران الحديث الطابع التراثي, لذلك كان مبنى بلدية مسقط نموذجاً يجسّد الطابع الإسلامي ويحصد جوائز مهمة في العمارة.

صلالة... عبق اللبان

كلما أنصتنا لحديث العمانيين عن روعة الطبيعة والاهتمام بالبيئة والحياة البرية, كانوا يضربون لنا المثل بصلالة, وفي صلالة كانت محطتنا الأخيرة, وكان الختام (لبانا) ورائحة اللبان تضاهي طيباً رائحة المسك وهي من عطاء البيئة العمانية, ومما يحرص عليه العمانيون بيئياً. اتجهنا على طريق معبّدة من صلالة نحو جبال شير وطوفوف, وعرجنا على طريق ترابية بدأت السيارة تتراقص على حجارتها الصغيرة لنقف أمام أشجار تقف بصلابة في الصحراء شامخة وضاربة جذورها في أغوار الأرض, رأينا الأشجار ولكن أين اللبان؟, قال مرافقنا فيصل الرواس: إن هناك طريقة خاصة للحصول عليه بسكين خاصة يزاح بواسطتها لحاء الشجرة وتترك لمدة شهر إن كان الطقس بارداً أو نصف شهر إن كان الطقس دافئاً, ويعود إليها صاحبها أو المسئول عنها ليجمع السائل الأبيض الذي أفرزته, وتجمّد على شكل كرات صغيرة وتعود إلى إفراز السائل ثانية, وهكذا قد يتكرر الإفراز حتى المرة العاشرة أو لمدة ستة أشهر, وفي كل مرة يستخلص الإنسان هذا السائل اللبني العجيب ثم تتوقف الشجرة عن الإفراز لسنة كاملة, والسائل المستخلص يحوّل ليستخدم في المضغ أو يدخل في أدوية الطب الشعبي إن كان صافياً, وإما يصنّع ليكون بخوراً يعبّق الجو بطيبه. أي شجرة هذه تجرح فيسيل طيبها!

وصلالة تنتج أجود أنواع اللبان في العالم, وشجرة اللبان كانت مصدراً مهماً للتجارة في العصور القديمة, ومثل طريق الحرير وطريق البهار, كان هناك طريق اللبان التي تبدأ من عمان عابرة اليمن إلى مصر وسوريا وأوربا, ومن ميناء سمهرم الذي يتم فيه التنقيب حالياً في خور روري حيث يتوغل البحر بين الصخور كانت السفن تشحن اللبان إلى الهند ودول إفريقيا. ولعبق اللبان سحر استحوذ على المشاعر, فاستخدمه المصريون القدماء في تحنيط جثث الفراعنة وعطرت روائح بخوره معابد الآشوريين. وكان الرومان يعتبرون أخشاب اللبان الأفضل في حرق موتاهم, وعرفه الظفاريون في الطب الشعبي وأدركوا أثره في التخلص من آلام البطن, فمزجوه مع ماء الشرب.

ونعود إلى صلالة, وقد مالت الشمس نحو الغروب, بحذر شديد تتحرك بنا السيارة خشية الاصطدام بالجمال المنتشرة بكثرة في المنطقة المرتفعة, وكثيراً ما يحلو لهذه الجمال الصعود إلى الطريق السريعة وعبورها أو التبختر في منتصفها, وحينئذ تضطر السيارات للوقوف استجابة لذلك المخلوق الكبير الذي لاتزال علاقته وطيدة بالعمانيين وبالأرض العمانية, ولايزال يشكـّل بلحمه ولبنه جزءاً من غذاء العمانيين, ويُستفاد من جلوده, ولاتزال سباقات الهجن والخيل تقام في عمان, وهناك ما يماثلها في بعض البلاد العربية, ولكن الطريف لدى العمانيين حرصهم على إقامة مصارعة الثيران التي تحضرها حشود غفيرة من الأهالي, وبعد أن تنجلي غبار المصارعة بين الثورين, فإن الفائز من الثورين يتضاعف ثمنه, والخاسر تكون سكين الجزار بانتظاره, وهذه العادات من سباق للهجن والخيول ومصارعة الثيران جعلت العمانيين يولون هذه الحيوانات اهتماما كبيراً, فضلاً عن الفوائد الأخرى وارتباط هذه الحيوانات بالبيئة العمانية منذ القدم, وهذا الاهتمام ينبع من حب المحافظة على التقاليد من جهة, والوفاء للخيل والجمال التي ألفها الإنسان العربي وألفته منذ القديم.

وما كنت أودّ أن أتحوّل من طيب اللبان إلى رائحة أخرى, لكنها البيئة, ففي (طاقة) وبعيداً عن الشاطئ بمئات الأمتار في صحراء واسعة تنتشر على قطع متساوية من الأرض الأسماك تحت الشمس لتجف, رائحة واخزة ومزعجة, أطنان من الأسماك تجفف لتكون علفاً للبهائم, إنها مـن الكـرم الـذي لا حدود له, والعطاء الغزير للبيئة العمانية إلى المخلوقات الأخرى, بماذا تخلطونها لتقدم علفاً فيما بعد؟ أجابني الشيخ سعيد الكهل الذي وخط الشيب رأسه وذقنه, وانتشرت التجاعيد على وجهه الأسمر الذي لوحته شمس البحر ورطوبته: لا تُخلط بأي شيء, ولكنها تقدم مجففة تماماً, قلت: أظنكم لا تحتاجون إليها عندما تجد البهائم المرعى؟ قال: بالعكس تماماً, فإنها لا تُقدم إلا مع المرعى الجيد لأنها بلا رعي تضر الحيوانات.

من حولنا ارتفعت أصوات الصيادين مع سائقي سيارات النقل والمشرفين على التجفيف وهم يقتسمون الغلة, فلهذا العمل مردوده الطيب, وفي مجاله يعمل أكثر من 700 شخص على الشواطئ الظفارية فقط. يا لها من ثروة سمكية تغرق وطننا العربي بغذاء أساسي لو وجدت لها مصانع كافية للتعليب. بعد زيارة للمرباط البلدة القريبة وحصنها الشهير, عدنا إلى صلالة لتطالعنا بأشجار النارجيل الشامخة تملأ الشوارع والحقول, وتنتشر أكشاك بيعها بكثرة. وصـلالة الموطن الأول للنـارجيل (جوز الهـند) في المشـرق العربي, ومع النارجـيل في صلالة تكثر زراعات البـاباي والموز, وعلى هذه الأشجار وغيرها من الزهور والنـباتات الطبيعية كالسرور وما شـابهه, تتـغذى جماعات النحل التي يكثر مربّوها في تلك الطبيعة المعطاء والبيئة الجميلة إلى جانب النحل البري الذي ألف الطبيعة وتكاثر فيها تلقائياً, وعن إنتـاج صلالة من العسل, يقول المدير العام للزراعة المهندس أحمد كشوب: إذا كان العسـل موجوداً وبكثـرة في العـالم, فإن عمان تمتاز بوجود العسل الجبـلي أو البـري فيها, وبالفـعل, فقد شممنا عسلاً جبلياً وتذوّقنـاه, رائحته مميزة وحلاوته لاذعة, ويبدو أشد كثافة, في صلالة أكثر من (1600) خلية تربية حديثة, ولا يمكن إحصاء خلايا النحل الجبلي الذي اتخذ من جذوع الأشجار وبعض الجدران مسكناً له, لقد تم فرز ما يعادل (8) أطنان في مديرية الزراعة عدا ما يقوم بفرزه الأهالي في آلات فرز بدائية, ومتوسطة إنتاج الخلية (10) كيلوجرامات من العـسل في الموسم.خلال زيارتنا إلى صلالة كان الجميع يلقي علينا باللوم لأن زيارة صلالة لها توقيتها الأجمل, إنه في الخريف, ففي ذلك الفصل ترتدي البيئة الصلالية أجمل حللها تحت رذاذ المطر وأثناء هيجان البحر, انتهت زيارتنا إلى صلالة النارجيل واللبان والعسل, ونحن نتمنى لها (خريفاً) دائماً تعيش فيه بهجتها.ودّعنا عمان التي تركت لدينا انطباعاً جميلاً عن بيئتها وصورة مشرقة لها, فقد حباها الله طبيعة غنّـاء تضافرت فيـها مياه البحر مع الصحراء وتضاريس كعلامات استفهام لأسئلة فضولية, ما أجمل أجوبتها!فخلف كل جبل واحة وأناس مخلصون في عملهم, وحريصون على تجميل بيئتهم التي تترك في النفس أروع الأثر, وهي تجود بعطائها المادي والمعنوي للإنسان, وتحمل كل موجة تدا عب الشطآن في عمان عطاء, وتبوح بأسرار. وعلى رمال الصحراء تكثر محميات الوعول والمها العربية, والتي أولتها عمان اهتماماً خاصاً, وأسكنتها في محميات كثيرة أبرزها جدة الحراسيس, بوادي جعلوني, وبدأت هذه الحيوانات تتكاثر وهي تشعر بالأمان في موطنها الأصلي, وبعيداً عن التجمعات السكنية أو قريباً منها, فإن النباتات والحيوانات والمياه وكل ما تشمله لوحة البيئة تحميه خطة استراتيجية وطنية لا تقتصر على تجميل الواقع وترفيه أبناء اليوم بالقدر الذي تحرص فيه على أن يكون الغد أكثر جمالاً وإشراقاً, وبيئته أكثر سحراً.

 

 

جمال مشاعل