ملف: خلدون النقيب.. ذروة الالتزام والإبداع الفكري في الخليج العربي

ملف: خلدون النقيب.. حلم التنوير العربي

تتجلى كتابات عالم الاجتماع الراحل د. خلدون حسن النقيب (1941 - 2011) في محاولاتها الدؤوبة كي تنأى بنا؛ نحن العرب، عن الخديعة، تلك الخديعة التي أورثتها مقولات مكرورة ونظريات بالية وعبارات إكليشيهية رددها الغرب، عبر سياسييه ومنظريه ومؤرخيه، كي تصبح أيقونات لا تُمسّ، وأن تصبح ـ بالضرورة ـ بضاعة تروج في أسواقنا الثقافية العربية بعد أن تبلى في مصانعها الغربية.

من هنا يتفق كثيرون معه في محاولاته النقدية من أجل «حلم التنوير العربي»، الذي برز في كثير من مؤلفاته وكتاباته، وهو الحلم الذي وضعه في مصاف المهمومين برفعة هذا الوطن واستقلاله، خاصة أن خطابه تجاوز الواقع المحلي والإقليمي، ليكون موجها إلى الضمير القومي والإنساني للأمتين العربية والإسلامية.

الملف الذي تقدمه «العربي» لا يعني إغلاق الحديث عن منجز د.خلدون النقيب، بل ـ بالأحرى ـ بوابة نشرعها لنعيد قراءة مشروع ذلك التنويري العربي الكبير. لقد آمن العالم الراحل بتأثير الثقافة في تكوين الشخصية العربية، حين تعني الثقافة لديه الحياة بكل أبعادها من سياسة وإعلام وتربية وتنمية، وأيقن أن الطريقة الوحيدة لتفسير التاريخ تكون عبر الثقافة، التي تكشف بجلاء محاولات تزوير هذا التاريخ، وهي محاولات سابقة ولاحقة، سيطرت بوهم مقولاتها على مخيلة ملايين من البشر، عبر الحقب المختلفة.

إن المُراجع لأفكاره في فقه التخلف ـ مثالا ـ يكتشف كيف تقوم كل طبقة وقومية وعقيدة بتزوير أحداث التاريخ لمن سبقها من الأمم، سواء كان ذلك شعرا منتحلا، كما قال طه حسين عن بعض الشعر الجاهلي، أواعتمادا زوَّره البابا في روما ليفوض بموجبه الكنيسة الغربية. ود.النقيب ينتهج في عرضه للحقائق أسلوبا يخاطب به القارئ العام والخاص ـ على حد سواء ـ وبمفردات لا تخلو منها الدعابة الراقية، والسخرية اللاذعة، مثلما يذكر في سياق مزيفي التاريخ أن «قارة أمريكا، أو العالم الجديد بأكمله، أخذ اسمه ليس من سكانه الأصليين، وإنما من أمريغو فسبوتشي (Amerigo Vespucci) وهو تاجر مخلل فاشل من إشبيلية أوهم رسام خرائط سنة 1497 بأنه هو المستكشف الأصلي»!

جُلُّ ما يخشاه د. خلدون النقيب ألا نحظى بالفرصة التي أتيحت لسلفه ابن خلدون، الذي أعاد كتابة التاريخ بطريقة أكثر موضوعية، بعيدة عن الهوى، والسبب هو أننا منذ نهاية القرن العشرين لم تعد لدينا السهولة الواجبة لاكتشاف التزوير، كما يتنبأ غور فيدال في روايته «بث حي من الجلجلة»، حيث أصبح تزوير التاريخ صناعة تقنية متقدمة، حفظ بأكمله، حقائق ومعلومات وسلالات، على رقائق كمبيوتر، ليأتي مجموعة من قراصنة الإنترنت ـ المنتشرين حول العالم ـ فيعبثوا بهذه الذاكرة، حسب رغباتهم الشريرة.

إن كتابات د.خلدون النقيب ستظل دائما ذلك الناقوس الذي يذكرنا بأهمية الحفاظ على تاريخنا، مثلما ينبهنا إلى أهمية أخرى في قراءة ذلك التاريخ، والتثبت من صدقه، ونقده أيضا.

المستقبل ـ كما يقول النقيب ـ ليس للأيديولوجيات التي تتمفصل حولها مصالح الطبقات، وإنما للتلصيقات والتوليفات من الأفكار والتصويرات التي تعكس معاناة الإنسان في عصر ما بعد الحداثة، وهو العصر الذي سبق عصر العولمة. وليس في هذه التلصيقات أسماء قطعية الدلالة، كما لا يمكن فهم الواقع المعيش بوضوح حسب الطريقة القديمة؛ فجميع الأشكال تتداخل ببعضها بعضا: الذكورة بالأنوثة، الرأسمالية بالاشتراكية، الأصولية بالحداثة، العلم بالخيال العلمي، والسياسة بالتسلية كما في مسلسلات التلفزيون ودعاياته. وهكذا تبدت لنا خيالات الماضي، فلا المستقبل سُبر غوره، ولا الماضي انكشف على حقيقته.

إن براعة النقيب في ذكر الأمثلة تجعلنا نختار فقرة تقرب فكرة «التلصيقة» التي ابتكرها، وهي مستلة من تقرير كتبه تيم ماكرك في جريدة الإندبندنت اللندنية قبل نحو عشرين عاما، أرسلت من كابول عاصمة أفغانستان، ودونها النقيب في آخر صفحات كتابه «آراء في فقه التخلف: العرب والغرب في عصر العولمة»: «الفيل الهندي صرعه صاروخ سقط الشهر الماضي. طيور الدارج التي كانت في الأقفاص أكلها محاربو الميليشيات القبلية الجياع. سلالات من القردة تتجول في الحدائق التي دمرها القصف. ومع ذلك يظهر كل صباح الرجل المسئول من قبل الحكومة عن إطعام الأسدين الباقيين. هذه حالة حديقة حيوان كابول بعد سنة واحدة من تحول أفغانستان إلى جمهورية إسلامية».

لنقرأ «خلدون النقيب» مجددا، ونحيي مشروعه التنويري دائمًا.

خلدون النقيب

كتب منشورة:

1- «دراسات أولية في التدرج الطبقي الاجتماعي في بعض الأقطار العربية» (1980).

2- «تساؤلات حول بعض الملامح الخاصة بالمجتمع العربي وتاريخه» (1981).

3- «المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية، (من منظور مختلف)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، (1987).

4- المجتمع الجماهيري والقطاع العام - رؤية مستقبلية، دار طلاس للدراسات والنشر (1988).

5- «ثورة التسعينيات: العالم العربي وحسابات نهاية القرن»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، (1991).

6- «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، (1991).

7- «الأزمة الدستورية في العالم العربي:

العلمانية والأصولية وقضية الحرية» (1994).

8- «صراع القبيلة والديمقراطية: حالة الكويت»، دار الساقي للطباعة والنشر، بيروت، (1996).

9- «في البدء كان الصراع: جدل الدين والأثنية، الأمّة والطبقة عند العرب»، دار الساقي للطباعة والنشر، بيروت، (1997).

10- «آراء في فقه التخلف: العرب والغرب في عصر العولمة»، دار الساقي للطباعة والنشر، بيروت، (2002)

أبحاث منشورة:

1- «الخليج بعد الأزمة: رؤية مستقبلية» (1991).

2- «التركيب السكاني وسياسة القوى العاملة» (1991).

3- «نموذج الدول النفطية: تجارب الدول الخليجية وليبيا في تحقيق الرفاهية الاجتماعية وأهم التحولات المعاصرة وأثرها على هذا التوجه» (2005).

 

 

العربي