ملف: النقيب.. باحث رصين ومثقف ملتزم

ملف: النقيب.. باحث رصين ومثقف ملتزم

لعلي في غير حاجة إلى التشديد على المكانة العلمية الخاصة التي كانت للراحل د.خلدون حسن النقيب في الفكر العربي المعاصر، خاصة في ميدان علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي على نحو أخص. نجح الراحل أن يجمع في تكوينه وفي تأليفه، على نحو تركيبي فذ، بين ابن خلدون وإميل دوركايم وماكس فيبر وحنّة أرندت والسوسيولوجيا الأنغلوساكسونية المعاصرة، وخاصة في صيغتها الأنثروبولوجية - الثقافية الأمريكية ذات الأصول الألمانية. وبمقدار ما وفّرت له هذه المعرفة الواسعة بنظريات علم الاجتماع ومناهجه الخلفية المعرفية الغنية والعدة المنهجية الرصينة، أتاحت له فرصًا وفيرة لقراءة هادئة وعميقة للبنى الاجتماعية والبنى السياسية العربية، وللعوامل والأسباب التي كمنت في نسيج الاجتماع السياسي العربي من جهة، وخاصة في بلدان الخليج العربي، وفي توليد ظاهرة الدولة التسلطية من جهة ثانية.

يمثل المرحوم استمرارًا للمدرسة الاجتماعية العربية الرصينة، التي كان من روادها ورموزها عليّ الوردي وسيد عويس، وإغناء لها برصيد هائل من المفاهيم والإشكاليات. ولقد حرص، من هذا الموقع، على أن يصرف عنايته العلمية بالواقع الاجتماعي العربي في كل ما كتب، ونادراً ما اهتم بالتعريف بمدارس علم الاجتماع على طريقة التأليف المدرسي، وهو ما جعل منه باحثا اجتماعيا شديد الارتباط بقضايا الواقع وبالاجتماع العربي المعاصر. ولم يكن هذا الاختيار الفكري والمنهجي مما يستغرب له عند د.خلدون حسن النقيب، فهو، إلى ذلك، مثقف ملتزم بقضايا الأمة، وحدوي وعروبي كأشد ما يكون عليه الوحدوي والعروبي، ديمقراطي بامتياز، ومدافع عن الحداثة السياسية والدولة العصرية القائمة على مبادئ الحق والقانون، وهذه جميعها أسباب تفسر لماذا سخّر العلم والمعرفة لقضايا المجتمع والشعب والأمة، ولماذا شغله هاجس تحليل بنى المجتمع التقليدية، البنى التي تمزق نسيج الأمة فتحولهاإلى عصبيات أهلية، والتي تحول دون قيام المجتمع السياسي الحديث: مجتمع المواطنة والاندماج الاجتماعي الوطني.

جمعتني بالراحل صداقة عميقة ومديدة منذ عقود كنت خلالها حريصًا على أن أعرف رأيه في تفاصيل العمل العلمي لمركز دراسات الوحدة العربية، وحريصا على مشاركته في هذا العمل إما من خلال ما كتبه ونشره له في المركز في نطاق مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، في ثمانينيات القرن الماضي، أو من خلال عشرات الندوات الفكرية والحلقات النقاشية التي عقدها المركز وشارك - هو - فيها باحثًا أو معقبًا أو مناقشًا، أو من خلال عضويته في مجلس أمناء المركز وفي لجنة اختيار المدير العام التي كانت اللجنة التنفيذية قد شكلتها لهذا الغرض منذ ثلاثة أعوام، أو من خلال عضويته في اللجان العلمية التي وضعت البرامج العلمية للمركز... إلخ، وكان في هذه المناسبات والمواقع جميعها مثالاً للباحث الرصين والمثقف الملتزم الذي أثار إعجاب واحترام جميع من تعرفوا إليه من مثقفي المغرب والمشرق، وعرفوا عمق تفكيره ورفعة أخلاقه وسجية الشجاعة الأدبية لديه في اقتحام المناطق الممنوعة على الفكر.

إن وفاة د. خلدون وهو في عز شبابه وعطائه الفكري، لخسارة فادحة للفكر العربي والبحث العلمي وللعمل القومي ولي شخصيًا كما لأصدقائه الكثر في كل مكان، عليه رحمة الله، وجازاه الله على ما قدم لأمته وفكرها وثقافتها من نفيس العطاء.
---------------------------------
* مفكر من العراق

 

 

خيرالدين حسيب*