ملف: خلدون.. نبضُ حياةٍ وعلم

ملف: خلدون.. نبضُ حياةٍ وعلم

مع خلدون، تنسى أن الموت لا ينسى أحداً. معه ترى الحياة تنبض في كلّ شيء: في الفكرة لاتزال تتململ، في ما يقول منها، في نصه، مهما كانت صرامته، في لذة الأكل في عينيه، في ضحكة الطفل يخفي بها سرّاً، في المثل الشعبي ولهجته، في نكتته التي يعرف كيف يريح بها الكلام ويروّض الجدال. من جالَسه، لأول مرّة، وجده قريباً إليه، فآنس إليه واطمأنّ، لا كلفة معه، وحده من تعوّد التشخيص والقيل والقال يخيب أملُه فيه: هو دائم التعالي إلى الكليات والمقولات، ييسّرها عليك قولُ الكثير من جدّها في هزله. له، إذا أراد، سوادُ سخريّةٍ يجيد تسديدَها.

يخيب معه، أيضا، أملُ العارضين عليه مواقع يستحقها ولا يرى فعله أو مزاجه مرتاحاً فيها. كان مطلوبًا من كل حدب وصوب ولكنّه كان كثير التمنّع، مع الكثير من التأدب فيه: قد يستجيب للداعي، حرصًا على علاقة ودٍ، ولا يستجيب للإجراء، لهذا لا تعرف أنه آتٍ لندوة إلاّ إذا أتى! وليس هذا من قبيل المزاج وإن كان فيه مزاج- بقدر ما هو كرهٌ لإكراه المقاولات الفكريّة.

لخلدون جاذبية الجمع بين العلم والتواضع: هذا المفكّر العالم المجرّب يفاجئك، أحياناً، بحجة لا يُنتظر تواضُعها، من نوع قوله إنه «لا يفيد في الموضوع». هكذا، مثلاً، ردّ على إصراري أن يكون رئيساً للجمعية العربية لعلم الاجتماع. رُشّح، غيابيّاً، وانتُخب، بفرحةٍ وبالإجماع، طلب الاستقالة «لعدم قدرته على المهمّة»، فتعمدنا، جميعاً، عدم إجابته، وأظنّه غاب وهو لا يعلم أنه لايزال، إلى اليوم، رئيسًا للجمعيّة. هو، اليوم، وأكثر من أي يوم مضى، رئيس جمعيتنا (ولتذهب الإجراءات إلى الجحيم!).

نعم، كنا نسينا معه أن الموت لا ينسى أحداً، والآن نعلم أنه من أولئك الذين لا يموتون إلاّ فجأةً. هو الذي كان يحبّ اللغة، لا شك في أنه كان يعلم إلى أي حد هو غبيٌّ فعلُ «مات» الذي فاعله مفعول به. آخر مرة، رأيته فيها، في بيروت، وددت التمشي معه إلى فندق أقام فيه فقال إنه «يعرق كثيراً هذه الأيام». انتقلنا في سيارتي فكان يمازحني في ما وراء تعلّقي ببيروت، ويصف من فرح المشاريع العائلية ومن آفاق ما ينوي كتابته، وصفَ المُقدِم على الحياة في ربيعها.

بقي خلدون مثقفا بدائليّاً، يرى البديل في تاريخٍ عربي لم يسلّم بأنه غبيٌّ إلى الحد الذي وصل إليه عند الكثيرين. لم يستسلم لجلد الذات في مشاهد التراجيديا العربيّة. هو ناقد صارم للأوضاع العربيّة، ولكنّ نقدها، عنده، من منظور صيرورة تغييرها. وليكون له ذلك، جمع بين قدرتين: المعرفة الواسعة والحديثة، وعدم التورّط في الظرفي على حساب البنائي. في كل ما كتب تساندٌ بين القدرتين: في علاقة الدولة بالمجتمع، وفي تسلطها وأزمتها في المشرق العربي والخليج، وفي العلاقة بالمغرب، وفي الدين والإثنيات والطبقات، وفي التنشئة الاجتماعية، إلخ. وليس السرّ في الموضوعات فكثيرون تناولوها- وإنما في الرؤية والمنهج وفي جهد البناء. ولو كان خلدون في «مجموعة علميّة» غير عربية، حريصة على متابعة البحوث وعلى مناقشتها لكان، من دون شك، ممّن تعقد حول فكره الندواتُ ولا تَغفل عن ذكره القواميس المعتمدة.

قليلون، في علم الاجتماع العربي، من كانت لديهم، مثله، قدرة على بناء نماذج نظرية تحليليّة، يقودها فكر تأليفي مقارن، ويساندها تفحّص علمي دقيق، موثّق، ومعرفة واسعة بالتاريخ الاجتماعي العربي الحديث والمعاصر. وإذا كان لي أن أحدّد أعلى مساهمات خلدون النقيب المعرفيّة فإني لا أتـردد في القول بأنها في قدرته على بناء هذه النماذج، وهو بناء مفقود، إجمالاً، في البحوث الاجتماعية العربيّة. يكفي، للتوضيح وللمثال، الرجوعُ إلى «بناء المجتمع العربي: بعض الفروض البحثية»، وهو نص تداولته الطبعات كما ضمّه كتابُ «في البدء كان الصراع». من جمله الأولى: «هناك الكثير من الدراسات عن مؤسسات المجتمع العربي وتعدّد الانتماءات والولاءات فيه، ولكننا لا نعرف بالضبط كيف تترابط هذه المؤسسات، وكيف يتّصل بعضها ببعض لتكوّن المجتمع الكلي الحي المنتظم، فنحن نعرفها كأجزاء، ولكننا لم نتوصّل إلى الكشف عن الصيغة الفعليّة التي تجمعها في الواقع». كان مشروعه، إذن، بناء نموذج نظري تحليلي يساعد على فهم وتفسير الواقع العربي ومحطات تاريخه.

بحثياً، كان خلدون بنائياً، وأما فكريّاً فكان تنويريّاً عربيّاً، لا تتحمل تقدّميته الراسخة أدلجةً أكثر من ذلك. وإذا اكتفينا من الأيديولوجيات باثنتين سادتا، فمن المؤكد أن قوميته لا علاقة لها بنصوصها القديمة: قوميته بناها نقده وعقلانيته وحداثته. من المؤكد، أيضا، أنه قرأ ماركس واعتمده، مرجعًا أساسيًا (إلى جانب ماكس فيبر)، ولكنّ اهتمامه أو همّه العربي روّضه، في نصوصه: «في البدء كان الصراع» عنوانٌ ماركسي بامتياز، ولكنه مفتوح على طرق وتقاطعات أخرى كثيرة.

«في البدء كان الصراع» يا خلدون! أنت الذي وضعت «فقه التخلّف» و «تأملت في نهاية الألفية الثانية» فاستفزّتك حلولٌ لا تأتي، اعلمْ أن صراع البدء بدأت في حلّه ثوراتٌ عربيّة افتتحت ألفيةَ العالم الثالثة، وحوّلت «مستحيلاتنا» إلى ممكن. اعلمْ أنّ الممكن العربي هو اكتشافنا، بعد رحيلك.
---------------------------------------
* مفكر من تونس

 

 

الطاهر لبيب*