ملف: قراءة في كتاب الدكتور خلدون النقيب «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر»

ملف: قراءة في كتاب الدكتور خلدون النقيب «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر»

  • الجانب المأساوي في تجربة المشرق العربي أن طرح الأسئلة والبحث عن إجابات لها لا يتخذان شكل البحث الموضوعي
  • بسبب سيطرة العسكر على دول المشرق العربي لعبت القوى الخارجية دورًا أساسيًا سياسيًا واقتصاديًا
  • الهجرة من الريف أفقدته قوته العاملة وأدى ذلك إلى ترييف المدن

لقد كان د. خلدون النقيب في حواراتنا ولقاءاتنا يستمع أكثر مما يتكلم وعندما يتكلم مباشراً وعميقاً ومحدداً، تجد نفسك أمام إنسان مثقف نوعياً، وأكاديمياً كان يقدم لطلبته فكراً اجتماعياً مع المعرفة النظرية في مجال تخصصه، وكان يتصف بالعقلانية وبعلمية التفكير، لذلك يعتبر إنتاجه العلمي في كتبه ودراساته إضافة علمية وثقافية للمكتبة العربية، فلم يكن د. خلدون النقيب محلياً إنما هو عالم عربي يعالج القضايا ويشرح الأوضاع من منظور شامل، وكان فكره إستراتيجياً مركزاً على القضايا الأساسية في أوضاعنا. إنه يفهم مشكلات الحاضر من خلال جذورها في الماضي، ويستشرف بعناية ودقة مستقبل الأمة.

كان خلدون النقيب مثقفاً نوعياً بحق توافرت فيه صفات المثقف، فكتاباته ناقدة للواقع بموضوعية، وتعتبر مساهمة في التنوير العربي في مرحلة نحن أحوج فيها إلى ذلك في خضم هذا الكم الهائل من الزيف والتسطيح والتخلف، كما أن د. خلدون النقيب قدم لنا رؤى مستقبلية حول أوضاع مجتمعاتنا، ولذلك يمكننا القول بأنه كان مثقفاً نوعياً خسرناه. وسنقوم بجولة في أهم كتبه والذي يمثل عصارة فكره ويحمل عنوان «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر».

عندما قررت الكتابة عن خلدون النقيب وإنتاجه العلمي والفكري، وضعت كتبه أمامي، وتصفحتها سريعاً لأنني سبق أن قرأتها جميعاً مثل «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر»، و«المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية»، و«صراع القبلية والديمقراطية حالة الكويت» وغيرها، وتأملتها فاستقر رأيي على كتاب: «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر» لأنه كما أعتقد أهم ما كتبه.

إن العلاقة الأكاديمية التي تربطنا بالدكتور خلدون النقيب وكذلك الأكاديمية هي أنه متخصص في التاريخ الاجتماعي والفكر الاجتماعي وأنا في التاريخ العربي المعاصر أركز على التاريخ الاجتماعي والسياسي، ووجدت في كتابه «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر» تحليلاً دقيقاً لحالة العرب، وطبيعة الدولة التي تحكمهم في المشرق العربي، وقررت التوقف عند هذا الكتاب الذي يشكل خلاصة فكر الراحل د. خلدون النقيب، وسنتناول في هذه القراءة الموضوعات التي احتواها هذا الكتاب والقضايا والمحطات الأساسية التي توقف عندها.

الأصول الاجتماعية للتسلط

يركز النقيب في كتابه على الأصول الاجتماعية للدولة التسلطية في المشرق العربي، وأن الإشكالية ليست سياسية فحسب، على الرغم من تناوله المسألة السياسية في القسم الأول من الكتاب، ففي هذا الباب يحلل الأوضاع السياسية في الفترة الاستعمارية وما بعد الاستقلال، مركزاً على مأزق الحكم الوطني ثم خطورة حكم العسكر وتراجع وانهيار الحكم المدني. وقد أعطى الباحث اهتماماً في البداية لتعريف المصطلحات التي تناولها ومفاهيمها وهذا المنهج يدل على أكاديميته لأن إشكالية المصطلحات والمفاهيم أساسية، ومدخل للبحث العلمي ومن هذه المصطلحات: القوة الاجتماعية، والأوتقراطية، والدولة التسلطية وغيرها.

ولعل طرح مسألة الأصول الاجتماعية للدولة التسلطية في المشرق العربي في القسم الأول من الكتاب والتي تناولت ثورة العرب على العثمانيين ثم على الاستعمار الأوربي بعد ذلك وكفاحهم من أجل الاستقلال هي ثورات ضد الإقطاع والظلم والتخلف، واختراق العالم العربي بوجود أنظمة تخدم القوى المهيمنة. ويستخلص الباحث من ذلك أنه بعد كفاح طويل امتد إلى ثلاثة أرباع القرن أن أغلب أهدافهم لم تتحقق ! ونتفق مع المؤلف في أن المشروع القومي العربي منذ الحرب العالمية الأولى حتى هزيمة 1967م قد فشل، في الوقت الذي نجحت فيه بأقل من ذلك الوقت مشاريع أخرى، منها «المشروع الصهيوني» في إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين. ويثير الباحث إشكالية تتعلق بهذه المسألة حيث يقول تحت عنوان «حصاد الهشيم» إن الإجابات التي يعود بها السائلون تتشابه في كل مرة، ومنها أننا لم نتقدم لأننا غير مستقلين، غير متحدين، متخلفون، ويحكمنا مستبدون، ولكن الجانب المأساوي في تجربة المشرق العربي هو : أن طرح الأسئلة والبحث عن إجابات لها لا يتخذ شكل البحث الموضوعي الذي تتراكم نتائجه وإجاباته عبر تجارب الأجيال المتعاقبة، وإنما يطرح كل جيل هذه الأسئلة في فراغ تاريخي بمعزل عن تجارب الأجيال المتعاقبة». ويحاول الباحث الإجابة عن سؤال الأزمة التي عاشها ويعيشها العرب بأن المشكلة تكمن في مسألة الإصلاح السياسي وبناء الذات لمواجهة التخلف والاختراق، وقد عاش المؤلف أشهراً من ثورة الشباب العربي لتحقيق ذلك الحلم في الإصلاح والتغيير السياسي لكن لم يمهله القدر أن يعيش حتى يرى نتائج هذه الثورة، وهذه المرة مختلفة عن تاريخ الثورات العربية في صراعها خلال القرن العشرين.

أثر الاختراق وسيطرة العسكر

وبعد البحث في الاختراق الخارجي للمشرق العربي في النصف الأول من القرن العشرين، واستمرار ذلك في عهد سيطرة العسكر واستمرار النظم التقليدية يعرج الباحث على القوى الاجتماعية وبناء القوة، ويتحدث هنا بمنهج بنائي، مقارن، والقوى الاجتماعية هي «كبار ملاك الأراضي وكبار التجار، وكبار المديرين البيروقراطيين، والعسكر، والقوى القبلية والطائفية، والعمال والفلاحون والمثقفون والجماعات الدينية.. إلخ» وهي جماعات سياسية مصلحية فاعلة ولما كان محور علاقات القوة هو الحكم والسلطة في المجتمع فإن الصراعات والانقسامات بين القوى الاجتماعية تتجه نحو المحور نفسه.

ثم ينقلنا الباحث في كتابه إلى عصر الكفاح من أجل الاستقلال في الفصل الثاني وأدرك بوعي ثاقب دراسة الموضوع في إطار زمنه وظروفه التاريخية من دون إسقاط فكر معاصر، حيث كان ذلك الكفاح يركز على التخلص من الأجنبي وإقامة حكم وطني من دون فهم لمغزى ومفهوم الحكم الوطني والاستقلال بأبعادهما السياسية التي تركز على الحرية والديمقراطية، والاجتماعية التي تركز على الطبقات المحرومة والمهمشة في تلك المرحلة. فقد وجدنا من الناحية السياسية تزييفاً للديمقراطية وكبتاً للحريات، ووجدنا من الناحية الاجتماعية صعوداً لقيادات عسكرية وطبقية مالكة ومتنفذة اقتصادياً وسياسياً، وبقيت شعوب هذه الدول العربية تعاني التخلف، واستمرأ البعض واقع الحال لأنه كان يستفيد منه سلطة ومالاً ووجاهة حتى أصبحت لدينا قوى لديها القدرة الفائقة على صناعة التخلف واستمراره، لذلك عشنا مأزق الحكم (الوطني) وأصبح لزاماً على الشعوب العربية أن تنتقل من مرحلة التحرر من الاستعمار إلى مرحلة التحرر مما يسمى بالحكم الوطني.

فساد الحياة السياسية

يرى الكاتب أن هيمنة تحالف كبار ملاك الأراضي وكبار التجار على الحياة السياسية والبرلمانية، في مرحلة الاستعمار وما بعد الاستقلال قد أفسدت الحياة السياسية وأجهضت المحتوى الديمقراطي في دول المشرق العربي مصر والعراق وسورية وفي ظل حكومات محلية مرتبطة بالقوى الطبقية الاجتماعية في تلك الدول. ووضع كهذا لا يسمح سياسياً بالحرية أو الديمقراطية بمعناها الحقيقي، أما المعارضة السياسية في تلك المراحل فقد كانت تعاني كذلك أزمات عدة تتعلق بفكرها وبرامجها وممارساتها وصراعها مع الأجنبي ومع السلطات المحلية وفيما بين فصائلها وأحزابها. لكن مع ذلك يثمن النقيب دور المثقفين الحقيقيين الذين انبثقوا من الطبقة الوسطى التي بدأت تتكون وتتسع والذين دخلوا الأحزاب القائمة في تلك الدول أو أسسوا أحزاباً جديدة وذلك بطرح أيديولوجيات ورؤى راديكالية تجاه السلطة القائمة وارتباطاتها الخارجية. وينتقل الكاتب وبشكل واسع ومعمق إلى بحث إشكالية طرأت على الحياة السياسية في فترة ما بعد الاستقلال، ليس في العالم العربي فحسب ولكن في العالم الثالث بصورة عامة، ألا وهي تدخل العسكر في السياسة، والقيام بانقلابات عسكرية والسيطرة على السلطة في دول أساسية في المشرق العربي مثل العراق وسورية ومصر، فقد أدى فشل الحكومات المحلية كما فشل الأحزاب السياسية في تحقيق الاستقلال الحقيقي إلى أن وجد العسكر فراغاً وفرصة ليهيمنوا على السلطة، والمشكلة أن حكم العسكر لم يكن مؤقتاً بل أصبح بديلاً لحكم القوى السياسية، وعمد إلى قهرها وتهميش دورها، وبدأت مرحلة جديدة هي كيف تتخلص هذه الشعوب من سيطرة العسكر الذي في ظل سيطرته يستمر التخلف وتقوى إسرائيل وتترسخ؟ وهكذا أصبحت شعوب المشرق العربي على أبواب مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد سيطرة العسكر.

لقد جاء الحكم المدني للدول العربية بعد خروج الاستعمار ولكنه انهار ليكون حكم العسكر هو البديل، ليعود الكفاح والعمل الوطني إلى نقطة البداية، من أجل إقامة الدولة المدنية والحكم المدني ولكن هذه المرحلة ليست سهلة في ظل المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتلاحقة.

لقد سادت المرحلة القومية ردحاً من الزمن امتد من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى هزيمة العرب عام 1967 وكان ذلك على مستوى السلطات في معظم هذه الدول، وعلى مستوى التاريخ وقواه السياسية الأساسية في تلك المرحلة ولكن تلك الأيديولوجية وقواها لم تنجح في تحقيق أهدافها، وأهداف شعوبها، مما فتح الباب لتقدم قوى التيار الديني السياسي لتسيطر على المشهد، وإلى أن يعود التيار القومي واليساري والليبرالي والعلماني إلى النضال من أجل الدولة المدنية الديمقراطية، والذي لا نعرف كم من الزمن سيأخذ، وكم التضحيات التي يستوجب تقديمها للوصول إلى ذلك الهدف.

لقد أتاحت فترة سيطرة العسكر على دول المشرق العربي أن تلعب القوى الخارجية دوراً أساسياً على المستوى السياسي والاقتصادي في هذه الدول، لأن الهدف الأساسي للعسكر أصبح التشبث بالسلطة، وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، ليتحول إلى طبقة جديدة تمارس هيمنتها بما تملك من قوة عسكرية من دون تحقيق أهداف وطموحات الناس للتنمية الاقتصادية والسياسية الحقيقية وفرض ديكتاتوريات استبدادية بدعوى الحفاظ على الأمن والاستقرار، نعم لقد حققت بعض الانقلابات العسكرية بعض الإنجازات مثل ثورة 1952 في مصر، ولكن الهدف من إقامة الديمقراطية والدولة المدنية لم يتحقق، وظلت النظرة للعسكر لدى البعض أن انتماءهم إلى الطبقة الوسطى وأنهم يمثلونها، ويرى آخرون أن العسكر نخبة اجتماعية تعمل لمصلحتها وتوظف لذلك الغرض من مختلف الطبقات.

في القسم الثاني من الكتاب يبدأ الكاتب في تقييم التنظيمات الاجتماعية للدولة التسلطية، فيتحدث بإيجابية عن الناصرية، وقال عنها «كانت الظاهرة بحق محاولة فعالة لمقاومة الهيمنة الإمبريالية من خلال مقاومة الأحلاف العسكرية تارة، والدعوة إلى الحياد الإيجابي تارة أخرى، وأخيراً من خلال البحث عن طريق مستقل نسبياً على الأقل للتنمية. ونشأ عن الناصرية البحث عن هوية قومية دينامية تدعو إلى تأجيل الصراع الاجتماعي مقابل السعي إلى تحقيق الأهداف المشتركة، وكانت الهوية القومية أحد مقومات المشروع الناصري، والناصرية كانت مشروعاً للمقاومة، لكنها سقطت في هزيمة 1967م».

ولكن د. خلدون ينتقد الناصرية بقوله، «لقد كانت إحدى أهم نتائج الاحتكار لمصادر القوة والسلطة في المجتمع» وعلى الرغم من أن أهم نتائج هزيمة 1967م، هي انكشاف الوضع العربي للعرب وميلاد حركة المقاومة الفلسطينية، وهيمنة التيار اليميني المحافظ وعلى رأسه التيار الديني، وأصبح سهلاً بعد الهزيمة تقوية إسرائيل، واستمرار تخلف العرب، وضعف المقاومة والمعارضة واستمرار الصراع الداخلي والحروب الأهلية في عدد من الدول العربية. ويمكن القول، كما يؤكد د.خلدون النقيب في كتابه هذا، إن المجال أصبح مفتوحاً على مصراعيه لنموذج الدولة التسلطية، ولإسرائيل في استيطانها وترسيخ وجودها.

كما حدث على المستوى الاقتصادي تغلغل القطاع الخاص داخل القطاع العام واستغلاله رغم التوسع في القطاع العام وظهور رأسمالية الدولة، والطبقات المستفيدة من النظام السياسي وفي ظل تطور تلك الأوضاع تتردى أحوال الزراعة والصناعة والخدمات مع زيادة في عدد السكان، وهدر الأموال على النزاعات والصراعات بدلاً من صرفها على مجالات التنمية، وكانت لدى هذه الدولة مقومات التطوير ولكنها كانت تفتقد الإرادة السياسية والإدارة السليمة وهذا الذي أدى إلى أوضاعها المضطربة وغير المستقرة واللاديمقراطية فيما بعد.

ويركز القسم الثالث من الكتاب على التسلطية والمجتمع الجماهيري، ويبدأ الفصل السابع بتعريف المجتمع الجماهيري على أنه جموع من الناخبين ذوي الحقوق المدنية ضمن اللعبة السياسية للمجتمع الرأسمالي الغربي، نتج عنها ظهور ثقافة جماهيرية أدت إلى تحضر واسع النطاق، رغم أن تعاظم دور الدولة البيروقراطية قد أتاح الفرصة لظهور الدولة التسلطية بأشكالها المختلفة كنموذج للتنظيم السياسي الملائم للمجتمع الجماهيري، وقد صاحب ذلك التطور هجرة من الريف إلى المدينة في مشرقنا العربي، وهذا أدى إلى ترييف المدينة من جهة وإلى فقدان الريف قوته العاملة، كما أدى ذلك التطور إلى ظهور الطبقة الوسطى وأهمية دورها لأنها هي التي تأثرت بالتعليم الحديث وانتشاره أكثر من غيرها، أما الفصل السابع من هذا القسم فيقف عند حضارة الطبقة الوسطى ومستقبل التنمية في المشرق العربي، ويلخص المؤلف هذه المسألة بالآتي: «إن حضارة المجتمع الجماهيري هي بحق حضارة الطبقات الوسطى التي تربت وترعرعت في ظل القومية الليبرالية التي حكمت المشرق العربي ما بعد الحرب العالمية الأولى، وخلال فترة الكفاح من أجل الاستقلال، ولكن عندما نصف حضارة المجتمع الجماهيري بأنها حضارة الطبقات الوسطى فإننا لا نقصد بذلك أنها تختص بالطبقات الوسطى، إذ هي تتعدى ذلك لتشمل المجتمع كله بكل فئاته الطبقية».

ثم تأتي إشكالية الدولة والديمقراطية، حيث لا تستقيم الديمقراطية مع وجود الدولة التسلطية، فكيف تتخلى النخبة الحاكمة عن تسلطها لقوى سياسية واجتماعية جماهيرية بعد احتكار طويل لمصادر القوة والثروة؟! ونتيجة لذلك بدأ الصراع المركب بين النخب والقوة السياسية من جهة والسلطات والقوى الخارجية الاستعمارية التي تدعمها من جهة أخرى، ونتيجة الصراع مزيد من تسلط الدولة، وبعض المكاسب الجماهيرية التي تحققت نتيجة ضغط نخب سياسية وثقافية.

في الفصل التاسع يركز المؤلف على التسلطية والحداثة في المجتمع العربي، وهو رصد وتحليل للصراع بين التخلف والتقدم في مجتمعاتنا، ويأمل أن تكون النتيجة ديمقراطية للثقافة العربية. وعلى الرغم من المنحى الفكري الماركسي لمسألة الحداثة والثقافة الجماهيرية، إلا أن المؤلف ينتقده بالقول «لقد وصلت الماركسية ممثلة بالأحزاب الاشتراكية والشيوعية إلى مركز كبير من النفوذ في ساحة العمل السياسي والثقافي، ومع ذلك بقيت الطبقة العاملة والجماهير الشعبية تصوت للأحزاب الرأسمالية، واضطرت حتى بعد وصولها للحكم إلى الالتزام بقواعد اللعبة السياسية، ولم تهدد الأنظمة الاستبدادية لأن الماركسية قد أهملت دور المكونات الثقافية في ديناميات الهيمنة والتسلط»، من هنا كان لابد من أيديولوجيات بديلة، وأدخلنا بعد ذلك المؤلف في موضوع الحداثة وما بعد الحداثة أي إلى مرحلة «التفكيكية في الفكر» ويركز على البعد الاجتماعي في مرحلة الحداثة وما بعدها مقارنًا بين نمط الإنتاج الثقافي لدى الغرب العرب وشتان بين الاثنين إذ انتقل الغرب من الحداثة، إلى ما بعدها في الوقت الذي نسير فيه ببطء شديد نحو الحداثة، والمشكلة الأساسية تكمن في وجود الدولة التسلطية في مشرقنا العربي.

ويختتم الفصل العاشر من الكتاب برؤية عن مستقبل الدولة التسلطية في المشرق العربي بالقول إن التسلطية هي التعبير المعاصر للاستبداد التقليدي، وهي وليدة القرن العشرين وملخصها تعاظم دور الدولة بقدرتها البيروقراطية الحديثة على التشريع والسيطرة على الاقتصاد، والقوة العسكرية، في وقت فشلت فيه التجربة الليبرالية القومية وغيرها، لأن الدولة التسلطية ليست مرحلة تطورية، وأن التحول إلى الديمقراطية يجري في العالم الثالث وفي مشرقنا العربي على وجه الخصوص، ولا بدائل أخرى عن النهج الديمقراطي في مواجهة الدولة التسلطية.

خلاصات

في الختام لابد من استنتاجات وملاحظات على كتاب المرحوم د. خلدون النقيب «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر»:

أولا: حدد المؤلف عنوان كتابه بـ «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر»، وليس في الوطن العربي، على الرغم من التماثل في نهج السلطات والدول في المشرق والمغرب العربيين، وقد تكون الأسباب أنه اختار نموذجاً للدراسة على المشرق العربي من الناحية الأكاديمية أكثر تحديداً، أو أن المفاهيم التي تحدث عنها في الكتاب مثل التسلط، والثقافة الجماهيرية والحداثة.. إلخ، أكثر بلورة ووضوحاً في المشرق العربي عنها في المغرب العربي، وربما لوفرة المعلومات عن موضوع الدراسة.

ثانياً: ركز في كتابه (ص53) على الخصوصية التاريخية للتبعية في المشرق العربي وأن أحد أهم أسباب تعثر مسيرة الكفاح العربي لتحقيق الأهداف القومية العليا يرجع إلى الاختراق الإمبريالي... ونعتقد بعيداً عن نظرية المؤامرة أن ذلك أحد الأسباب ولكن الأسباب الأساسية داخلية تاريخية وفكرية.

ثالثاً: أن كتاباً بهذا الحجم وهذه الأهمية كان لابد أن يخصص باباً لنقد حركة القومية العربية، وهو ما لم يتناوله الكتاب عدا إشارات في بعض فصوله. وإن نقد هذه الحركة مطلوب لمعرفة أسباب فشلها، وعدم تحقيق أهدافها.

رابعاً: إن كتاب «الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر» يعد جرعة فكرية مهمة في التاريخ الاجتماعي السياسي، ندعو المثقفين العرب إلى قراءته خاصة في هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها ونشهد فيها تحولات تاريخية مهمة في واقعنا العربي وخاصة في دولنا التسلطية.
-----------------------------------
* أكاديمي من الكويت

 

 

عبدالمالك خلف التميمي*