مفهوم المثقف في الفضاء العربي الإسلامي

مفهوم المثقف في الفضاء العربي الإسلامي

لا نعثر في التراث العربي على مفهوم المثقف كما تجلى في الزمان الحديث؛ بل إن هذا المفهوم لم يستخدم بمعناه المتداول الآن إلا منذ بدأ التواصل بين العرب والغرب في العصر الحديث. كما أن وصف «المثقفين» لم يستخدم ليدل على جماعة محددة تتخذ من الكتابة والتعليم وتوجيه الرأي العام عملا لها إلا في فترة متأخرة، خصوصا أن مفهوم المثقف حديث العهد في الحضارة الأوربية، وقد خضع لتعديلات وتطويرات في الثقافة الغربية، إلى أن استقر على معناه الذي يدل عليه في هذا العصر: أي كما استخدمه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في كتابه «دفاع عن المثقفين»، أو الإيطالي أنطونيو غرامشي في كتابه «دفاتر السجن».

وقد أعاد عدد من الباحثين العرب النظر في هذا المفهوم في ضوء الموروث، وحاولوا إيجاد مواز له في الثقافة العربية الإسلامية،، انطلاقا من الأدوار التي اتخذها فقهاء وكتاب وشعراء وفلاسفة في السياسة والمجتمع، حيث جرى مزج التحليل التاريخي لظاهرة المثقف بالتحليل السوسيولوجي ورد إشكالات الحاضر على الماضي. هذا ما يفعله كل من محمد عابد الجابري وعلي أومليل اللذين يعودان إلى ما يمكن تسميته الوظائف الموازية لمفهوم المثقف في التراث لتأويل الحاضر ومشكلاته. وبناء على هذا التصور يذهب علي أومليل في كتابه «السلطة الثقافية والسلطة السياسية» إلى أن مفهوم المثقف لم يرد ذكره في الحضارة العربية الإسلامية بمعناه الحديث. وهو ينظر من ثمّ في الوظائف الموازية لوظيفة المثقف في التاريخ العربي الإسلامي، أي في وظائف الفقيه وصاحب العلم الديني، وكاتب الديوان وعالم الكلام والفيلسوف، واجدا السلف الفعلي للفقهاء في قراء القرآن الذين شكلوا في فترة مبكرة من ظهور الإسلام سلطة تعاظم تأثيرها في تحكيم وقعة صفين بين علي ومعاوية والتي رفع فيها أنصار معاوية المصاحف على أسنة الرماح داعين إلى التحكيم، ثم كانت المعركة الفاصلة بين القراء والدولة الأموية في معركة دير الجماجم عام 82 هـ عندما انتظم القراء في كتيبة في جيش العراق بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث الذي دخل البصرة، فبايعه كل قرائها وكهولها، كما يورد الطبري في تاريخه. لقد شكل القراء «سلطة علمية كامنة»، كانوا هم الناطقين باسمها، ولسوف يمثل هذه السلطة فيما بعد علماء الفقه والشريعة على مدار التاريخ العربي الإسلامي. فالفقيه هو وارث قراء القرآن والرقيب على السلطة السياسية، التي يرى أن عليها أن تطابق الشريعة وإلا بطلت شرعيتها، واضطر الفقيه إلى نزع هذه الشرعية الدينية عنها. وأدى ادعاء الفقهاء بأنهم يمتلكون سلطة الشهادة والرقابة على النظام السياسي في المجتمع الإسلامي إلى حدوث صراعات كبرى بين الفقهاء والحكام. وإذا كانت دعوة الفقيه، أو صاحب العلم الديني، إلى التمييز بين السلطتين العلمية والسياسية تهدف إلى تهيئة الفقيه نفسه لدور الرقابة على السلطة وإيجاد مكانة خاصة له يسلم بها الحاكم، فإن الحكام حاولوا على الدوام استتباع الفقهاء بالترغيب أو الترهيب تبعا لما تقتضيه الحاجة. ويضرب أومليل لتبيان حدة الصراع بين الفقيه والسلطة السياسية محنة ابن حنبل إبان خلافة المأمون والمعتصم والواثق. فقد واجه ابن حنبل السلطة في واحدة من أكبر القضايا الفكرية ــ السياسية في الإسلام، وهي قضية خلق القرآن، وحاولت السلطة السياسية العباسية، التي تبنت فكر المعتزلة، أن تجبر الإمام ابن حنبل على القول بخلق القرآن فسجنته وعذبته. ويرى أومليل أن الدولة العباسية رغبت من خلال هذه القضية أن تصفي حسابها مع ورثة الشرعية الدينية من علماء المسلمين، أي مع الفقهاء وأهل الحديث. بهذا المعنى لم تكن معركة ابن حنبل علمية وحسب، بل كانت معركة سياسية أراد منها الرجل إعلان استقلال الفقيه عن السلطان بحرصه على عدم مخالطته. وهذا ما لم تكن الدولة قابلة به، لأن ذلك يؤدي إلى ازدواجية السلطة، والإقرار بأن الفقيه شريك للسلطان.

الفتوح وتحديث الثقافة العربية

لكن ومع اختلاط العرب بالحضارات الأخرى في زمن الفتوح دخل إلى الدولة الإسلامية مفهوم كتّاب الدواوين الذين قاموا بتحديث الثقافة العربية فطعموها بعناصر فارسية ويونانية، وروّجوا أدبا سياسيا فارسي المرجع، لتقديم نموذج في السياسة ينافس سياسة الفقهاء. كان الكتاب مقربين من الخلفاء والولاة مطلعين على أسرار الحكم والدولة، فهم بمنزلة خدم للسلطة، تابعين للحاكم، يشيرون عليه بما يضمن استمرار حكمه. وكان هدف فئة الكتاب إرساء أسس حكم ملكي استبدادي على الطريقة الساسانية، وقد عمل عبد الله بن المقفع على نقل كتب سياسية فارسية ليروج لهذا النوع من الحكم، ويحارب فئة الفقهاء التي كانت تقول بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما ينسف أساس دعوة ابن المقفع إلى الطاعة المطلقة للسلطان. ولم تكن «قضية ابن المقفع هي استقلال السياسي عن الديني، بل جعل الدين والسياسة تابعين للحاكم المفرد»، و«هو يقلص من المجال الديني واختصاص سلطة الدين، لا لمصلحة ما هو مدني (....) بل لإحكام قبضة الحاكم المطلق» كما يؤكد أومليل. لكن دفاع «الكاتب» عن سلطة الحاكم المطلقة لم يجعله شريكا في السلطة، فهو يقدم خدمات للخليفة أو السلطان ويصبح رأيه، بعد إشارته به، ملكا للخليفة أو السلطان يصنع به ما يشاء. وإذا كان أصحاب العلم الديني قد مثلوا السلطة العلمية أو الثقافية في مراحل عديدة من التاريخ الإسلامي فإن «الكتاب» كانوا أبعد عن امتلاك هذه السلطة. ويرى أومليل أن هناك أطرافا ثلاثة شكلت مثلث السلطة في المجتمع الإسلامي وهي: العالم والحاكم والعامة. فالعالم بالعلوم الدنيوية يطمح إلى الاستظلال بظل الحاكم، لأن بضاعة الأول لا تروج إلا عند الحاكم، في الوقت الذي يجد العالم بعلوم الدين سندا آخر له في العامة.

استقلال المثقف في التراث

يعثر أومليل على مواز لمفهوم المثقف في معناه الحديث في حالة أبي حيان التوحيدي، التي تسمح بطرح مسألة استقلال «المثقف» العربي في التراث. فقد كان الكاتب القديم مرتبطا بالسلطان، ولم يكن في مقدوره التمتع بالاستقلال عن السلطان إلا حين يتوجه إلى «العامة» الذين لم تكن بضاعة المتخصص بالعلوم غير الدينية رائجة لديهم. وقد طرح أبو حيان التوحيدي هذه المعضلة على معاصره الفيلسوف مسكويه في إدراك فاجع لمشكلة «المثقف» في عصره، الذي كان مضطرا إلى التكسب في سوق الأعيان والسلطان. وتبلور مسألة أبي حيان التوحيدي الاختلال الحاصل بين وعي المثقف بقيمته الذاتية، ومكانته الفعلية في السلطة والمجتمع. وأظن أن شكوى أبي حيان ويأسه من واقع العامل بالثقافة في عصره تجد مقابلات كثيرة لها في واقع المثقف العربي المعاصر الذي لم يتمتع يوما بالاستقلال عن السلطة وظل يعاني الاستتباع أو الاستبعاد والإقصاء والتهميش. وقد انطبق هذا الوضع في التاريخ العربي الإسلامي على المشتغلين بغير العلوم الدينية، من متكلمين وفلاسفة وعلماء بيان، ممن كانوا يتعالون على العامة ويتوجهون بعلمهم إلى خاصة الخاصة ويطالبون بإبعاد العامة عن الخوض في مسائل الفلسفة والسياسة، فآثروا العزلة بعلمهم الفلسفي عن الناس. ويمكن التماس هذه الأيديولوجيا، حسب أومليل، في «رسالة الطير» لابن سينا و«تدبير المتوحد» لابن باجة ومدينة الفارابي الفاضلة. أما ابن رشد، الذي كان فيلسوفا وفقيها في الآن نفسه، فقد اكتسب مكانته العالية في المجتمع الأندلسي من كونه فقيها لا فيلسوفا، خصوصا أنه هاجم المشتغلين بعلم الكلام الذين عدهم محرضين للعامة لكي يخوضوا في العلم والسياسة. وقد كانت معركة ابن رشد ضد أصحاب علم الكلام معركة سياسية ضد ابن تومرت سلطان الموحدين في المغرب، ولكن هجومه على المتكلمين كان أيضا محاولة لإيجاد مكان للفلسفة في المجتمع الإسلامي. يركز محمد عابد الجابري في كتابه «المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد» على الوظائف الموازية التي تشمل الفقيه والفيلسوف وعالم الكلام في إشارة إلى حدوث قطيعة معرفية بين مفهوم المثقف في الحضارة العربية الإسلامية ومفهومه في العصر الحديث. لكنه يرى في المقابل أن فئة المثقفين في أوربا، العصر الوسيط، قد تشكلت، وكما يقول جاك لوكوف في كتابه «المثقفون في العصر الوسيط» وآلان دي ليبيرا في كتابه «التفكير في العصر الوسيط»، من الاحتكاك بما تسرب إلى أوربا من ترجمات لكتب الفلسفة العربية خصوصا كتب ابن رشد التي أشاعت في أوربا ما يسميه مؤرخو الفكر الفلسفي بـ«الرشدية اللاتينية». انطلاقا من هذه القراءة الاسترجاعية يشير الجابري إلى أن ظاهرة المثقف في العالم العربي المعاصر ولدت من الاحتكاك بالثقافة الأوربية الحديثة، كما ولدت الظاهرة نفسها في الغرب من احتكاك أوربا الوسيطية بالثقافة العربية الإسلامية. وهو يعيد المناسبات الأولى لنشوء ما يوازي ظاهرة المثقفين في الإسلام إلى الفتنة بين علي ومعاوية، متفقا في ذلك مع علي أومليل، حيث تحولت هذه الفئة إلى العلم واعتزلت الفتنة والاقتتال وتوقفت عن مناصرة هذا الطرف أو ذاك الطرف لمصلحة إعادة النظر فيما بنت عليه الفئات المتصارعة خطابها التبريري للصراع.

المثقفون الأوائل

إن الجابري يرد ظهور «المثقفين الأوائل» في التراث العربي الإسلامي إلى عامل الخلاف مبعدا عن مناسبة الظهور هذه أي شبهة تتصل بالاحتكاك بثقافات الأمم الأخرى التي بدأ العرب يختلطون بها إبان انطلاق الطلائع الأولى للفتح الإسلامي. وفي الحقيقة أن هذا الرأي بحاجة إلى تثبت وتدقيق تاريخي أكثر مما فعله الجابري، لأنه يقرر في الصفحات الأولى من كتابه أن مفهوم «المثقف» في الغرب نشأ نتيجة للاحتكاك بالفكر والفلسفة العربيين الإسلاميين وخصوصا ترجمات ابن رشد إلى اللاتينية، ويورد لإثبات وجهة النظر هذه الكثير من الأدلة والشواهد التاريخية التي نقلها عن جاك لوكوف وآلان دي ليبيرا. لكنه عندما يأتي إلى الحفر على مفهوم المثقف في الحضارة العربية الإسلامية ينفي أي تأثير للاحتكاك بثقافات الأمم الأخرى، معيدا الخلاف كله إلى الموقف من قضية الإمامة استنادا إلى العقل واحتجاجا بالقرآن والحديث. وهذا استنتاج بحاجة إلى الكثير من الأدلة والشواهد التاريخية لإثبات صحته، وهو أمر أغفله الجابري لمصلحة الانشغال بالبحث في «محنة ابن حنبل» و«نكبة ابن رشد» اللتين يعدهما سياسيتين بالدرجة الأولى, استخدمت فيهما قضايا الفكر والحجاج الكلامي والفلسفي لتمرير رسائل سياسية تتصل بالحكم وصراعاته. وفي الحقيقة أن هاتين القضيتين اللتين يعرض لهما الجابري تبلوران تماما الدور الذي كان لـ«المثقف» في زمني ابن حنبل وابن رشد وصعود دور المثقف السياسي والاجتماعي في الدولة العربية الإسلامية. لكن الجابري يتفق مع علي أومليل بأن الوظيفة التي كانت غالبة على المثقف في ذلك الزمان هي وظيفة الفقيه. لقد كانت سلطة ابن حنبل نابعة من سلطته الشرعية، من تحدثه باسم الدين، ومن ثمّ من مساندة العامة له. أما سلطة ابن رشد فقد نشأت من كونه فقيها استخدم الفقه لتبرير دور الفلسفة والقول بحقيقة واحدة يمكن الوصول إليها بسلوك طريق الدين أو طريق الفلسفة. وبسبب هذا الدور الذي لعبه كل من ابن حنبل وابن رشد كان الامتحان الذي امتحنا به، زمن الدولة العباسية أو زمن الدولة الموحدية في الأندلس، مأساويا. كان السبب سياسيا في حالة ابن حنبل ولم تكن قضية القول بخلق القرآن سوى غطاء للحرب الخفية التي شنها المأمون والمعتصم والواثق لكسر شوكة المتعاطفين مع الأمويين ومن ضمنهم ابن حنبل نفسه الذي كان على رأس ما يسمى «مدرسة أهل الحديث». أما سبب نكبة ابن رشد (التي لم تدم سوى سنتين أو ثلاث سنوات على عكس محنة ابن حنبل التي استمرت طوال سنوات حكم المأمون والمعتصم والواثق, وبعضا من فترة حكم المتوكل الذي عفا عن ابن حنبل ثم أمره بلزوم بيته لا يخطب في المساجد ولا يؤم المجالس) فقد كان سياسيا أيضا، خصوصا أن يعقوب المنصور الموحدي لم يكن معاديا للفلسفة, بل إنه تأثر هو ووالده الخليفة أبو يعقوب بابن حزم الظاهري الفقيه والمتكلم والفيلسوف الأندلسي الشهير. لكنه أمر بنفي ابن رشد ومطاردة علماء آخرين، كما أمر بإحراق كتب الفلسفة لسبب سياسي, يستنتج الجابري أنه قد يعود إلى ما كتبه ابن رشد في «جوامع سياسة أفلاطون» وما أورده من أمثلة على أنماط الدول في العالم الإسلامي، أو أنه يعود إلى طبيعة علاقة ابن رشد بأخي الخليفة يعقوب المنصور، الذي يدعى أبا يحيى، وذلك بعد أن فكر الأخير بالتحرك ضد أخيه والانقلاب عليه وسيّر جيشا للاستيلاء على الخلافة الموحدية.

ضد السلطة

في هذا السياق تبدو الحجج الفكرية التي اتخذت سببا لامتحان ابن حنبل وابن رشد مجرد غطاء للتمويه على الأسباب السياسية الفعلية التي دفعت الحكام المسلمين لاضطهاد فقيه وفيلسوف والتنكيل بهما. ويعود هذا الاضطهاد لإدراك الحاكم وتيقنه من السلطة التي يتمتع بها العالم والفقيه، وقدرة الأخير على التأثير في العامة والخاصة في الوقت نفسه تمهيدا لإحداث تغيير في الحكم أو الثورة على الحاكم. كان المثقف في الحضارة العربية الإسلامية ذا دور مركزي، كما كانت له سلطته استنادا إلى اشتغاله بالفقه أو علم الكلام أو حتى بالفلسفة التي كانت علم الخاصة. ومن هنا حاول الحكام استتباع هؤلاء «المثقفين» أو مطاردتهم وسجنهم ونفيهم وصولا إلى قتلهم في حالات كثيرة.

لكن ما هي علاقة المثقفين في التراث العربي بالمثقفين في العالم العربي الراهن؟ ما الذي تضيفه عملية الحفر على تاريخ المثقف في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية إلى صورة المثقف في العصر الراهن؟

إن التحليل الذي يقوم به الجابري لا يفسر نشوء مفهوم المثقف في العالم العربي المعاصر، ولا يلقي أي ضوء على الظروف التاريخية التي شكلت الحاضنة الفعلية لنشوء هذا المفهوم. إنها مجرد رياضة عقلية للقول إن الغرب يرد دينه إلينا لا أكثر ولا أقل، وإن نشوء مفهوم المثقف في الحضارتين العربية والأوربية ينهض من الاحتكاك بآخر مهيمن حضاريا وتستدعيه الظروف والحاجات الضاغطة تاريخيا. ولقد رأينا أن علي أومليل يرد نشوء مفهوم المثقف في العالم العربي المعاصر إلى جذوره الأوربية الحديثة في القرن التاسع عشر. ولا يختلف الجابري في تحليله عوامل هذا النشوء وظروفه عن أومليل إذ يقول بانعكاسات شروط ظهور هذا المفهوم في فرنسا خلال القرن التاسع عشر على مفهوم المثقف في العالم العربي في القرن العشرين. انطلاقا من هذا الوعي بحدوث قطيعة معرفية بين مفهوم المثقف في التراث وهذا المفهوم في الثقافة العربية المعاصرة يعود الجابري، مثله مثل علي أومليل، للتأصيل لهذا المفهوم في التراث. ونحن نعرف أن هذا الهاجس الملازم للمفكرين العرب، بإرجاع الحاضر إلى الماضي وإيجاد جذور للراهن في التاريخ، يهيمن على الدراسات التاريخية والفكرية والأدبية والفلسفية. وهو وإن كان يمثل توجها إيجابيا في وجه من وجوهه إلا أنه يقود في أحيان كثيرة إلى أغاليط فكرية وتاريخية وتوهمات على الصعيد المعرفي، وإسقاطات لا تصمد للبحث العلمي. ولعل هاجس التأصيل في الفكر والثقافة العربيين في الوقت الراهن أن يكون واحدا من الأسباب المعيقة لتطور البحث الفكري والقراءة النقدية، لأن الباحث ينشغل بالماضي عن الحاضر ويجعل من الماضي حكما على شروط الحاضر ومشكلاته المعاصرة، مغفلا قراءة الشروط الحية الراهنة لهذه المشكلات. صحيح أن شروط الماضي لا يمكن إغفالها، لأنها فاعلة في الحاضر ومؤثرة فيه دون أي ريب. لكن الاكتفاء بالبحث في شروط الماضي تدفع الباحث إلى نسيان شروط الحاضر المتصلة بالعيش الراهن. وليس الحفر على مفهوم المثقف في الحضارة العربية ببعيد عن هاجس التأصيل الذي يأخذ بتلابيب البحث الفكري العربي المعاصر.

  • إشارة: ركزت هذه القراءة على تأويلات علي أومليل ومحمد عابد الجابري في كتابيهما عن المثقف في فضائه العربي الإسلامي. ويمكن للقارئ المستزيد أن يراجع:

1. علي أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996.

2. محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1995.

 

فخري صالح