اقتلاع الجذور وتنمية الضياع: د. سليمان إبراهيم العسكري

اقتلاع الجذور وتنمية الضياع: د. سليمان إبراهيم العسكري

لا يُحزن المرء أكثر من الحزن على أصوات ضاعت أدراج الرياح، وهي تحذر من الخطر. فمنذ عقود نبه خبراء وعلماء ومحللون كثيرون -من أبناء المنطقة وخارجها - إلى حدة الخلل السكاني الذي يجتاح التركيبة الديموجرافية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية. ورغم ذلك، بقيت المشكلة عالقة واستشرى ما ترتب عليها من تبعات. واليوم تأخذ حدة الخلل السكاني منحى جديدًا، هو أخطر مما سبق، حيث تتدخل المشاريع العملاقة في سوق العقار لتكريس تفاقم ذلك الخلل، وكأننا نكمل على البقية الباقية من الجذور، في سبيل إقامة مدن إن سكنت فليست مِنَّا وليست لنا، وإن خوت فهي لسكنى الأشباح!

  • اقترحت الشركات الأجنبية تشريعات ربط بيع العقارات بالإقامة، مما يمنحها براءة اختراع تغيير تركيبة سكان بلدان وطمس هويتها الوطنية والثقافية؛ وربما الدينية كذلك!
  • النقد يوجه لمخططي التركيبة الاقتصادية والسياسية التي أدت بالمجتمع إلى أن يصل إلى النظام المبني على استقطاب العمالة الوافدة بأعداد متزايدة تفوق قدرته على الاستيعاب.
  • أصبح من خصائص الدولة الريعية الحصول على إيرادات من أسواق خارجية بينما تتمحور النسبة الكبرى من النشاط الاقتصادي للسكان المحليين حول استهلاك وإعادة توزيع الريع، بدلاً من إنتاجه.
  • رافق تطور صناعة النفط في المنطقة تدفق كمية هائلة من رءوس الأموال الناتجة من ريع النفط وقد أدت بدورها إلى فك الاعتمادية الاقتصادية التاريخية بين متخذي القرار وباقي شرائح المواطنين.
  • لقد أدت الهجرة المنفلتة للعمالة الأجنبية - وخاصة الآسيوية منها - إلى بروز نوع حاد من «الاغتراب»، وهو اغتراب يعني عدم انسجام الفرد بمحيطه، بعد أن انعدمت مشاركة المواطنين الفاعلة في الإنتاج الاقتصادي.
  • أكبر دليل على التوجهات اللغوية السائدة في المنطقة هو اعتماد الجامعات الخاصة للغة الإنجليزية لغة رسمية في تدريس مقرراتها الرئيسية في جميع مراحل التعليم العام من المرحلة الابتدائية وصولاً إلى المدارس الخاصة.

الواقع أن الحديث عن التركيبة السكانية، واختلالها، تتصاعد وتيرته مع كل أزمة مالية عالمية، حيث ترتد هذه الأزمات مثل الكرة إلى ملعبنا، نرى حركتها ونسمع صداها ونتأثر بما تحركه حولنا. تركز الأزمة الاقتصادية ضربتها بشكل رئيسي على القطاع العقاري حيث تم توقيف جزء من تلك المشاريع. وقد وصلت قيمة المشاريع الملغاة أو المتوقفة في دول مجلس التعاون ككل إلى (682 بليون دولار)، حيث كان النصيب الأكبر 90 في المائة من المشاريع الملغاة أو المتوقفة في القطاع العقاري.

والغريب أنه في كل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية تشير الدلائل إلى أن أعداد الوافدين تواصل النمو، على الرغم من الأزمة المالية، وهذا أمر يتناسق مع ما حدث في مراحل الركود الاقتصادي السابقة، حيث تواصلت أعداد الوافدين في النمو، متغلبة بذلك على الركود الاقتصادي، مما يدل على أن مسألة التركيبة السكانية هي مسألة جذرية تتعدى في أبعادها النمو الاقتصادي الواقعي والمباشر.

تقنين وتنظيم وتوطين

يحاول البعض، منذ خمسة عقود، أن يطرح حلولا لتقنين أعداد الوافدين والسيطرة على عملية تنظيمها، بما في ذلك قانون الكفالة، إلى مؤسسة مركزية تابعة للدولة، حيث تكون لها رؤيتها المتكاملة وخطتها الواضحة بالنسبة إلى الهجرة وتبعاتها، وتفعيل نظام يضمن دفع القيمة الحقيقية لوجود الوافدين من قبل الكفلاء، هذا بالإضافة إلى زيادة نسبة الوافدين العرب، والنظر بشكل جدي في إمكان توطين جزء من العمالة الوافدة التي استوفت شروط مدة الإقامة وإتقان اللغة العربية، ولاسيما الوافدين العرب ذوي الكفاءات العالية التي تحتاج إليها الدولة.

من هنا تأتي أهمية الدراسة التي نشرها «مركز دراسات الوحدة العربية» تحت عنوان (اقتلاع الجذور ـ المشاريع العقارية وتفاقم الخلل السكاني في مجلس التعاون لدول الخليج العربية)، للباحث عمر هشام الشهابي. وتضع الدراسة ـ بشكل مباشر وصريح ـ يدها على لب مشكلة الخلل السكاني، ألا وهو تنين سوق العقار واستثماراته التي تلفظ نارها في كل حدب وصوب، حتى وصلت إلى فكرة ترويج بيع العقارات أو بيع حق الانتفاع بها مقابل منح الإقامة الدائمة، وهو أمر تجده الدراسة عجيبا وفريدا من نوعه في العالم، تأخذ به حكومات أربع من دول المنطقة حتى الآن.

لقد روجت الشركات والمكاتب الأجنبية لهذه البدعة وصاغت الرؤى والاستراتيجيات ومخططات المدن واقترحت تشريعات ربط بيع العقارات بالإقامة، ما يمنح تلك الشركات براءة اختراع تغيير تركيبة سكان بلدان، وطمس هويتها الوطنية والثقافية؛ وربما الدينية كذلك، لمصلحة هجرة تقتلع ما تبقى من جذور مجتمعات شرق الجزيرة العربية! تلك المجتمعات التي أنهك مجتمعاتها الخلل السكاني المزمن، وجعل أوطانها غريبة عن هويتها ولغتها، وأضحى دور المواطنين فيها هامشيًا ويتلاشى على مر الأيام. كما أخذت مدن المنطقة تخطو في الطريق الخطر الذي يراد لها، لتصبح مدنا «سائبة» متحولة، مدن الترانزيت التي ليس لها تاريخ ولا هوية، تتحول وفقًا لسكانها المتغيرين المغتربين.

وجدير بالذكر أنه لا توجد دولة ذات سيادة في العالم ربطت بيع العقارات فيها بمنح الإقامة لمشتريها وعائلاتهم. ولو عملت على سبيل المثال الدول الأوربية بمثل هذه السياسة، لتدفق عليها سكان بالملايين يطلبون الإقامة الدائمة فيها. ولكن ما نلاحظه أن دول العالم كافة تربط زيادة السكان فيها، إن هي رغبت في ذلك، باحتياجاتها الحقيقية الوطنية، وبقدرة مجتمعاتها على استيعاب المهاجرين ودمجهم في ثقافة المجتمع والتحدث بلغته مراعية في ذلك تأثير الاختيار في ثقافة المجتمع، ولغته ومصالح شعوبها، وقدرة مجتمعاتها على الاستيعاب، ولا تترك ذلك الاختيار لمسوّقي ومروّجي عقارات أو صاحب عمل لا يأخذ في العادة المصلحة الوطنية في الاعتبار عند قرار الاستقدام، وإنما يراعي - بشكل طبيعي - مصلحته وربحيته الخاصة الآنية.

وتشير الدراسة إلى أن التحذير لا يعني أكثر من الدعوة لحسن التقدير. فالتعاطي مع مسألة الوافدين وتوفير حقوقهم الإنسانية والاقتصادية هو جزء لا يتجزأ من هذه المعادلة، ومن الأهمية تجنّب المواطنين الوقوع في خطر لوم الوافدين على الوضعية التي وصلت إليها التركيبة السكانية في المنطقة، التي قد تدفع البعض إلى حالة من التعصب المتطرف الموجّه في الأساس إلى الوافدين كأساس المشكلة، فجذور الوضع لا تكمن في من قرر النزوح عن وطنه وأهله بحثًا عن لقمة العيش، فمن الطبيعي أن يبحث الإنسان عمّا يوفر له ولعائلته حياة أفضل، ولكن النقد يوجه لمخططي التركيبة الاقتصادية والسياسية التي أدت بالمجتمع إلى أن يصل إلى النظام الاقتصادي الحالي، المبني على استقطاب العمالة الوافدة بأعداد متزايدة تفوق قدرته على الاستيعاب.

تاريخ من الخلل

ترصد دراسة (اقتلاع الجذور) تاريخ الخلل السكاني في دول المنطقة منذ بروزه كظاهرة واكبت الطفرة النفطية الأولى في عام 1974، وارتفعت الأصوات المحذرة، وارتفعت الشعارات الرسمية في خطط «التنمية» مؤكدة ضرورة إصلاح الخلل السكاني.

والحقيقة أن أعداد العمالة الأجنبية نمت في القطاع النفطي بشكل متسارع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتصدير النفط بشكل تجاري من أغلب دول المنطقة، فمن أعداد لا تتعدى الألفين عام 1940، وصل عدد العمال الوافدين في القطاع النفطي بالمنطقة إلى حوالي 16.000 في عام 1950، انحدرت أكثريتهم من شبه القارة الهندية والدول الغربية. الغالبية من العمال في القطاع النفطي كانوا لايزالون من المواطنين، بالرغم من أن أعدادهم كانت تتقلص. في البحرين، كان عدد المواطنين بين عمال القطاع النفطي 63 في المائة في عام 1945، بينما كانت النسبة 68 في المائة في السعودية، في قطر تقلصت نسبة المواطنين بين العمال إلى 54 في المائة بحلول عام 1948، أما في الكويت فزاد عدد الوافدين من خمسة في المائة في عام 1945، إلى 28 في المائة في عام 1948، وإلى 68 في المائة عام 1949.

هكذا تشكل التدفق السكاني في هذه الفترة بناء على متطلبات الشركات النفطية الأجنبية والانتداب البريطاني، الذين كانوا في هذه الفترة هم المهيمنين الرئيسيين في تأسيس الصناعة النفطية والإيرادات التي انبثقت منها.

وفي الفترة الممتدة من 1950 إلى بداية العقد السابع من القرن الماضي. توجهت الإيرادات المباشرة من النفط إلى الشركات المنتجة ومع تزايد الإيرادات النفطية المخصصة للدولة، بدأت الفرص الاقتصادية في المنطقة تزداد، وكان القطاع الحكومي هو المهيمن، إذ ركز أغلب نشاطاته على إيجاد بذور البنية التحتية للدولة من طرق وتعليم وصحة والجهاز المركزي والإداري للدولة. نشأت في المقابل فرص مغرية في القطاع الخاص لاستثمار رءوس الأموال التي تراكمت.

تبعات الدولة الريعية

مهد ما سبق إلى نشوء الدولة الريعية التي تحصل بشكل دوري على كميات ضخمة من الريع الخارجي، واستحق ذلك الريع النفطي الاهتمام، لأنه كان غير مبني على معدل الإنتاجية العام في الدولة المصدرة، بل اعتمد على الاحتكار المترتب من الإنتاجية العالية في حقول النفط في المنطقة، وقدرة الأطراف المنتجة له في التحكم في أسعار وسوق النفط.

وأصبح من خصائص الدولة الريعية الحصول عى إيرادات من أسواق خارج الدولة تمثل مصدر الدخل الرئيسي في الاقتصاد المحلي، وتتلقى الحكومة المحلية إيرادات الريع المباشرة، بينما تتمحور النسبة الكبرى من النشاط الاقتصادي للسكان المحليين حول استهلاك وإعادة توزيع الريع، بدلاً من إنتاجه.

ورافق تطور صناعة النفط في المنطقة التي رسمت ظاهرة التركيبة السكانية في الخليج، تدفق كمية هائلة من رءوس الأموال الناتجة من ريع النفط وقد أدت بدورها إلى فك الاعتمادية الاقتصادية التاريخية بين متخذي القرار وباقي شرائح المواطنين.

كما تمكن متخذو القرار من استعمال هذه الإيرادات لتشكيل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. في حين تدنت قدرة وجاذبية المواطنين على تلبية احتياجات رءوس الأموال المحلية من حيث كمية ونوعية الأيدي العاملة، مفسحة المجال لاستقطاب العمالة الأجنبية.

وقد وصل سعر برميل البترول فوق حاجز 140 دولارًا في سنة 2008، وأدى ارتفاع الأسعار إلى تراكم هائل في عوائد النفط قدّرت بما يفوق 2 تريليون دولار في العقد الأول من الألفية الثالثة، وإلى خلق وفرة في الأصول الخارجية للمنطقة قدرت بما يزيد على 1.5 تريليون دولار بنهاية عام 2009، أو ما يشكّل 165 في المائة من الناتج المحلي، وهي الأعلى نسبة عالميًا.

وتزامنت هذه الطفرة في العوائد النفطية مع توجه مستثمري المنطقة إلى زيادة الاستثمار محليًا. فبعد حادثة تدمير مبنيي التجارة العالمية في الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما تبعتها من أحداث أدت إلى بروز مخاوف وتوترات عند العرب والمسلمين في الدول الغربية، طرأ توجه بين المستثمرين الخليجيين إلى إعادة أموالهم إلى داخل المنطقة بدلاً من استثمارها في الدول الغربية، كما كانت العادة في السابق. بهذا، تشكلت كميات هائلة من رءوس الأموال التي كانت تبحث عن مخرج لها في المنطقة. وهكذا وقبل اثني عشر عامًا بلغ عدد الوافدين إلى دول الخليج أكثر من عشرة ملايين، شكلوا 35 في المائة من سكان المنطقة، أما الآن، فإنه في غالبية دول الخليج يشكل الوافدون نسبة تتراوح بين 40 إلى 70 في المائة من عدد سكان تلك الدول.

لقد بلغ إجمالي التكاليف المترتبة على وجود العمالة الوافدة في دول مجلس التعاون (إحصاءات 2002م) ما لا يقل عن 35 مليار دولار أمريكي، هذا قبل عشر سنوات، فكم هي الآن؟

لقد أدت هذه الهجرة المنفلتة للعمالة الأجنبية - وخاصة الآسيوية منها - إلى بروز نوع حاد من «الاغتراب»، وهو اغتراب يعني عدم انسجام الفرد بمحيطه، بعد أن انعدمت مشاركة المواطنين الفاعلة في الإنتاج الاقتصادي، وتركز دورهم الأساسي في الاستهلاك والانتفاع من الريع المقدم من الدول، وأصبح جهد العمل والتحكم فيه من نصيب الأغلبية الوافدة، والتي أصبحت قواها الاقتصادية وأثرها الثقافي في ازدياد متسارع. وهنا نجد المواطنين يتقلص دورهم الثقافي وتتوارى لغتهم الأم وتغيب ثقافتهم التاريخية، فتصبح دول المجلس تعاني من مجتمعات منعزلة عن بعضها البعض، لدرجة أن الوافد أصبح يعيش حياته لسنوات وسنوات دون شعور بالاغتراب، فلغته وطعامه وعاداته وأزياؤه جاء بها من بلده ألأصلي ولم يعد بحاجة لاستبدالها أو تعلم لغة البلد التي وفد إليها أو التعود على ثقافاتها والانفتاح على فنونها وعاداتها وتقاليدها، بما فيه مطبخها، بل أصبح هو الذي يؤثر في المجتمع الجديد الوافد إليه، يفرض عليه عاداته وسلوكه، في كل شيء، حتى في أسلوب قيادة السيارات!

قوانين عقارية

مع بدء الألفية الجديدة، ظهرت حزمة من القوانين في دول مجلس التعاون تعبّر عن سياسة عقارية وسكانية فريدة من نوعها عالميًا. فقد أعلنت البحرين عن السماح للأجانب بتملك العقار في مناطق معينة في البلاد عام 2001، تبعتها دبي سريعًا على المنوال نفسه في عام 2002، ثم أتى الدور على قطر وعُمان في عامي 2004 و2006، على التوالي. في كل هذه الدول، تم ربط شراء العقار بالحصول على إقامات طويلة المدى من قبل المشترين الأجانب. السعودية والكويت ترجحتا بين الاندفاع والتردد، ولكن مع الإعلان عن كون مدينة الملك عبدالله الاقتصادية كأول منطقة في السعودية يسمح فيها للأجانب بالتملك الحر، بقيت الكويت هي الدولة الوحيدة التي لم تدخل غمار المشاريع العقارية الموجهة أساسًا إلى غير أبناء المنطقة.

ولم تكتف دول الخليج العربية بإعطاء الحق بتملك العقار للأجانب فقط، بل أصبح جزء أساسي من هذه الصفقة الحصول على إقامات طويلة المدى للفرد وعائلته، بصرف النظر عن ظروف عملهم وحاجة الدولة إليهم.

فإذا كانت المشاريع العقارية ذات التملك الحر قد أصبحت جزءًا رئيسيًا من توجهات دول المنطقة، فكان لابد من توفير كل ما أمكن من تسهيلات ومتطلبات لإنجاح هذا المشروع. ومن أهم هذه المتطلبات كان ربط العقار بالإقامة، التي تسمح للمشتري بالحصول على تأشيرة إقامة طويلة المدى مرتبطة بتملكه للعقار.

وبهذا، أصبحت الإمكانات على الاستقرار في المنطقة على المدى البعيد هي الحافز الأساسي لبيع وشراء هذه المشاريع العقارية.

وتميز تلك المدن السكنية المبيعة بهول حجمها حتى اقتربت من صنف الخيال العلمي، وأكثرها كانت مشاريع جديدة كليًا، حيث ركزت على خلق مجتمعات متكاملة من لا شيء. فها هو مشروع «النخلة» في دبي يشيد جزيرة من عدم بمعنى الكلمة، فقبل بدء المشروع لم تكن حتى الأرض موجودة، وكانت بحرًا لم يدفن بعد. أما أحجام هذه المدن والمبالغ المنصبّة فيها فتقترب من الخرافية، في عُمان، كمثال سيكلف مشروع «المدينة الزرقاء» حوالي (20 مليار) دولار، أي ما يوازي نصف الناتج المحلي السنوي للدولة، وسيكون بوسع هذا المشروع استيعاب حوالي 250.000 شخص. وعادة ما تأخذ هذه المشاريع شكل المجتمعات المغلقة المتكاملة، التي توفر لقاطنيها كل متطلبات الحياة من مدارس وأسواق ومطاعم بداخلها.

كما يعتبر مشروع «جزر أمواج» شمال البحرين نموذجًا لهذه الظاهرة. بُني المشروع على مساحة 4كم2 من البحر المدفون شمالي جزيرة المحرق بواسطة شركة «أوسيس» (Ossis)، وهو عبارة عن مجموعة من الجزر الاصطناعية التي تشكل في ما بينها مجتمعًا مغلقًا مخصصًا لقاطنيه ومرتاديه. بجانب ذلك يشتمل المخطط على مدرسة ومجمعات استهلاكية وفنادق، وغيرها من مرافق وخدمات تجعل منها مجتمعًا متكاملاً ومغلقًا منعزلاً عن البيئة المحيطة.

خلل في اللغة

وفي خضم ذلك النمو العقاري أصبحت اللغة الرئيسية للأعمال والتعليم والإدارة هي الإنجليزية في أغلب دول المجلس، وأصبحت نسبة العرب في إحدى هذه الدول لا تتعدى 28 في المائة بمن فيهم مواطنو هذه الدولة، وحيث وصل عدد الوافدين من دولة الهند وحدها إلى 42.5 في المائة، أصبحت اللغة العربية تأتي في المرتبة الثالثة أو الرابعة من بين اللغات المستخدمة كالإنجليزية والهندية والأردو. فأغلب الجامعات والمواد المدرجة فيها أصبحت تدرس الآن باللغة الإنجليزية، واللغة السائدة لإدارة الأعمال هي اللغة الإنجليزية.

وربما أكبر دليل على التوجهات اللغوية السائدة في المنطقة هو اعتماد الجامعات الخاصة للغة الإنجليزية لغة رسمية في تدريس مقرراتها الرئيسية في جميع مراحل التعليم العام من المرحلة الابتدائية وصولاً إلى المدارس الخاصة التي تحظى بتشجيع رسمي من الدول. وبدأت تبعات هذا التوجه تتشكل على أرض الواقع، فكانت نسبة من حققوا معايير الأداء المطلوبة في اللغة العربية 5 في المائة من طلاب الصفوف الأولى إلى الرابع ابتدائي عام 2008 في إحدى الدول، وهي النسبة الأدنى بين كل المواد.

المشروعات العملاقة كانت جذابة لمتخذي القرار والمستثمرين أيضًا. كما يذكر تقرير عقاري في المنطقة، ففي مجلة واحدة عالمية عن السياحة، كان هناك 16 دعاية إعلانية لمشاريع عقارية في الخليج كلها تركز على رسالة «الفخامة»، وكما يذكر التقرير، فإن الكلمات الخمس الأكثر استعمالاً في هذه الإعلانات هي «الفخامة»، الحلم، الجنة، العيش، إعادة الابتكار.

باتجاه المجتمعات المغلقة

هكذا اتسعت ظاهرة «المجتمع المغلق» أو ما يمكن تسميته بـ«المدينة داخل المدينة». وتأخذ هذه الظاهرة شكل مجتمعات متكاملة تحوي بداخلها أغلب مستلزمات ساكنيها من مدارس ومحلات تجارية وبنية تحتية، حتى إن بعض هذه المشاريع تعتبر نفسها مدنًا جديدة كليًا. الغالبية من هذه المشاريع تأخذ نمط المجتمعات المغلقة، حيث يتوجب على الأفراد من غير ساكنيها أن يحصلوا على التصريح للدخول إليها. وهذه ظاهرة يعود بزوغها في الخليج إلى أيام وصول شركات النفط إلى المنطقة، حيث انطلقت مع تأسيس شركة بابكو في البحرين أول مجتمع مغلق لها في منطقة عوالي جنوبي الجزيرة في ثلاثينيات القرن الماضي. ولعل أشهر من طبّق هذه الظاهرة الإقصائية والحصرية هي شركة أرامكو في السعودية في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، حيث طبقت مبدأ الفصل بين المجمعات السكنية للموظفين الأمريكيين في الشركة وباقي العمال.

لم تعد المدينة الخليجية تعكس رغبات أهلها، ولم تعد تعبر عن نمط حياة ساكنيها، فهم عادة مهمشون لا يقومون بأي دور فعال في تحديد ملامح المدينة، لا العمرانية ولا الاجتماعية ولا الثقافية، وهكذا تم اقتلاع الجذور التي كانت تربط السكان بمدنهم التاريخية.

سنغافورة توفر مثالاً مهمًا لدولة لعبت فيها التجاذبات السكانية دورًا رئيسيًا في تشكيل هويتها وماهيتها السياسية. فقبل قدوم المستعمر البريطاني، كان سكان الجزيرة الأصليون هم من المالاي، الذين لم يكونوا يتعدون الألف في عددهم، وكانت سنغافورة بين شدّ وجذب حكم السلاطين المتصارعين في المنطقة.

بعد قدوم البريطانيين في 1819، تحولت المستعمرة إلى نقطة تجارية واقتصادية مهمة تحت الحكم الاسمي للسلطان حسين شاه القابع تحت سيطرة الإنجليز. احتاج النمو المطرد في الجزيرة إلى أيد عاملة، فازداد عدد الوافدين إلى الجزيرة بشكل متسارع. واستقطب الإنجليز أغلب المهاجرين من الصين، بالإضافة إلى أعداد أقل من المالاي والوافدين من شبه القارة الهندية الواقعة تحت الاستعمار البريطاني أيضًا. في غضون عقود معدودة أصبح الوافدون الصينيون هم الأغلبية في الدولة وتحولت القيادة في أيديهم لاحقا!

على مر الزمن سينمو مجتمع متحول «بلا هوية» متعدد الإثنيات، تحتفظ فيه كل مجموعة بهويتها وانتمائها الأصلي، ويكون همّ المجتمع الأول هو النمو الاقتصادي وجمع رءوس الأموال تحت مظلة اللغة الإنجليزية الجامعة. مجتمع يسمح بتأزم العلاقة بين متخذي القرار والمواطنين نظرًا إلى أسباب اقتصادية أو سياسية. بل وتأزم العلاقة بين الدولة والوافدين، بحيث تصل إلى درجة مطالبة الوافدين بحقوقهم العمالية والسياسية والعقارية، ونظرًا إلى دورهم الاقتصادي المحوري تتم تلبية بعض هذه المطالب، وصولاً إلى عملية التوطين. فضلا عن تأزم العلاقة بين متخذي القرار المحليين من جهة والدول المصدرة للوافدين والدول الغربية ذات النفوذ من جهة أخرى، مما يؤدي إلى قلب موازين القوى وتحولها إلى الوافدين بشكل أكبر. ومما يجعل الأمر معقدًا هو أن مقدار كمية وتخطيط إنتاج البترول والغاز مرتبط بحاجات ماكنة وأسواق الاقتصاد الرأسمالي العولمي فلا خيار لدول مجلس التعاون إلا تلبية طلب الأسواق، وإلا فإنها ستكون معرّضة للضغوط الدولية، بل وللأخطار الأمنية.

ويتساءل الباحث في مركز الخليج لسياسات التنمية عن النيّة الحقيقية لهذه المشاريع؛ هل هي لتسكين أناس أم أنها مشاريع ليس لها جدوى ولا تبعات بعد بنائها، أي ما يمكن تسميتها بالفيل الأبيض، حيث يعتقد أن الهدف الرئيسي من هذه الخطط والمشاريع لم يكن لتوطين أناس فيه، بل هو لتحريك رءوس الأموال وجني الربح المادي عن طريق بناء وتشييد هذه المشاريع وتقاسم الأراضي التي بنيت عليها، من دون الاكتراث إلى من سيسكنها وأثر هذه السُّكنى والتوطين على مصير أهل البلاد الأصليين، وعلى حقوقهم وسيادتهم على دولهم بعد أن يصبحوا أقلية عددية، واقتصادية، وسياسية، وبالطبع ثقافية؟

كل العوامل تذكر بأن نسبة النفوذ في أيدي المواطنين بدأت تتقلص بوتيرة متسارعة، وتآكل مستمر، حتى يبدو أن ميزان القوى بدأ ينقلب، فدول المنطقة أصبحت معتمدة بشكل متزايد على الوافدين الذين يمثلون الأيدي العاملة الفاعلة في البلد والمستثمرين والمستهلكين، وهكذا تآكل باستمرار نفوذ أهل البلاد الأصليين سواء من الناحية الإنتاجية (وهي الأهم)، أو حتى الثقافية والشرائية.

علينا أن ندرك أن ما نقوم به حاليا هو (نمو) وليس (تنمية)، بل المشكلة أكبر منذ ذلك، لأن الوضع الحالي هو أقرب ما يكون إلى (تنمية الضياع)! إن (اقتلاع الجذور) ليست دراسة تحليلية وحسب، وليست دراسة لحجم الاستثمارات العقارية وتحويلات الوافدين، وإنما هي صرخة تأتي لتنبيه وتحذير شعوب المنطقة وحكوماتها، بل لتنبيه العرب أجمعين.

 

سليمان إبراهيم العسكري