اليوميات.. عراك أبدي بين المقدس والمدنس
المؤلف: شارل بودلير نادرون هم الشعراء الذين تمكنوا، في حياتهم وموتهم، من إثارة الغبار خلفهم كما فعل شارل بودلير في الشعر واللغة الفرنسيين بعد ما يزيد عن قرن وثلث القرن على وفاته لايزال شاعر (أزهار الشر) يقاوم الزمن والنسيان بحيوية مطردة ومازالت قصائده وأفكاره الجريئة موضع حفاوة وإعجاب ليس لدى الناطقين بالفرنسية فحسب، بل لدى جميع الذين وصلت إليهم أعماله ونصوصه المترجمة. وبودلير الذي لم يطبع من كتبه القليلة أثناء حياته سوى بضع مئات من النسخ باتت مؤلفاته الخبز اليومي لملايين البشر المنتشرين في أرجاء المعمورة، إذ استطاعت تلك (الأقلية الهائلة) وفق تعبير أوكتافيو باث، أن تتزايد ككرة الثلج سنة بعد سنة، وأن تهزم بتعاظمها المستمر أكثرية البلادة والخنوع وحراسة قبور الموتى. لم يكن كل ذلك من قبيل المصادفة بالطبع ولا من قبيل حسن الطالع. فالأدب الحقيقي لا يتغذى من هذا ولا ذاك بل من عناصره الداخلية وقدرته على مقاومة الموت ودحره. وإذا كان لبودلير أن يصمد بثبات طيلة قرن ونصف، وسيصمد على الأرجح قروناً طويلة أخرى، فما ذلك إلا لإماطته اللثام عن وجه الحقيقة الإنسانية المجردة ورفضه المطلق لكل أشكال الأقنعة والأصباغ والطلاء الكاذب. والحقيقة البودليرية لم تتمثل بإمساك العصا من الوسط ولا بالتوفيق الملفق بين المذاهب والخيارات الفكرية والأسلوبية، بل بالذهاب إلى التخوم النهائية للمواقف والقناعات وبالمواجهة المكشوفة والعارية مع الرياء والزيف الاجتماعيين. ومع ذلك فإن بودلير لم يكن يقف على حقيقة ثابتة لمدة طويلة من الزمن، بل سرعان ما يذهب إلى نقيضها الكامل متأرجحا بين الخيارات المتعارضة ومنقسما على ذاته باستمرار، كما لو أنه (مفرد بصيغة الجمع)، وفق تعبير أدونيس، أو رجال كثيرون في رجل واحد. ليس من يقين نهائي بالنسبة إلى الشاعر سوى اللايقين نفسه. فاليقين مرتبط باللحظة المعيشة لا بالأبدية، وهو بالتالي عرضة للتغير والاضمحلال بتغير اللحظة وهروبها وبتغير الشرط الإنساني المكون لهذا الإحساس أو ذاك، لهذه القناعة أو تلك. الحياة ساحة المجابهة من هنا نستطيع أن نفهم تلك الهرقليطية الطاغية لدى بودلير والتي لا تسبح في المياه ذاتها سوى مرة واحدة. ثمة تعاقب دائم بين الخيارات والمشاعر والأفكار. تعاقب يحول الحياة إلى ساحة مجابهة بين الفردوس والجحيم، بين الملاك والشيطان، بين الخير والشر ، وبين الجمال والقبح. لكن مكان هذه الساحة الأثير ليس في الخارج أو في الهواء الطلق بل هو في الداخل الإنساني الذي يتحول مع الزمن إلى نزل مشرع الأبواب على كل الأبالسة والشياطين والرؤى الجحيمية السوداء. ليس من شيء يصمد تحت المجهر البودليري حتى النهاية سوى قانون التناقض نفسه. فالمرأة تارة قديسة طاهرة وطورا ساقطة وبغي ومفطورة على الخداع والمكيدة والشر. والحياة تارة منفتحة ووردية وزاهية وطوراً ملفوحة برياح الرعب وهواء الخسران، والشعر تارة منقذ ومخلص وطورا هلامي وعبثي وهش، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدين والأمومة والعائلة والمجتمع. وكما لم يثبت الشاعر عند حقيقة أخلاقية أو روحية فهو لم يثبت في الوقت نفسه عند أي حقيقة أدبية أو شعرية. وفي خضم النزاعات المريرة بين المدارس والاتجاهات الأدبية الكبرى في القرن التاسع عشر بقي بودلير مستعصيا على التصنيف رافضا للانضواء تحت أي راية من الرايات، كان يأخذ من كل مدرسة ما بدا له أنه خلاق وإيجابي ويرفض ما عدا ذلك دون مواربة أو محاباة. لقد أعجب ببراعة التأليف الكلاسيكي ودقته ونظامه لكنه رفض الامتثال لبرودة الكلاسيكية وتعليميتها الباردة وحيادها العاطفي. كما أعجب بالعاطفة المشبوبة والذات المنهمكة بنفسها والصدق المفعم بالتلقائية والتفجر لدى الرومانسيين، ولكنه كره مبالغاتهم العاطفية وبكائياتهم المتفجعة، وإعلاءهم الطبيعة الموحشة على هدير الحياة المدينية الزاخر بالتنوع والدينامية. وفي حين كره التزام الشاعر بأي ايديولوجيا أو قضية نضالية أو دعائية مباشرة وانحاز إلى البرناسيين ومدرسة (الفن للفن) التي جعلته كثير الإعجاب برائدها تيوفيل غوتييه إلا أنه أخذ على غوتييه ومدرسته المبالغة في تهذيب الشكل وصقله والوقوع في البرودة الرخامية واللمعان اللفظي الخادع. ربما لا يضيف الكتاب النثري الذي نقله الشاعر والناقد التونسي آدم فتحي عن الفرنسية الكثير مما نعرفه عن أفكار بودلير ولغته وأسلوبه، ولكن كتاب (اليوميات) يحمل نكهة ومذاقا مختلفين عن أعمال الشاعر الأخرى. فهذا الكتاب عبارة عن مسودات أفكار وآراء دونها بودلير في السنوات الأخيرة من حياته وكان يريد لها أن تكون نواة لكتابين أوضح الشاعر عن رغبته في إنجازهما دون أن يمكنه الموت من ذلك وهما: (صواريخ) (وقلبي عارياً). غير أن النصوص التي يتضمنها الكتاب ترتدي أهمية خاصة لأسباب عدة، من هذه الأسباب أنها تمكننا من الوقوف على نواة الأسلوب البودليري وعلى لبنته التعبيرية الأم، فاللغة هنا تظهر على حقيقتها دون رتوش ولا أصباغ، وكذلك المعتقدات والمفاهيم والأفكار. ولما لم تتح للشاعر فرصة التشذيب والحذف والاستدراك فإننا نستطيع أن نقرأ قلبه عارياً من كل إضافة إذا ما أردنا أن نستعين بأحد عناوين الكتاب نفسه. يتحول الكتاب بهذا المعنى لا إلى عمل أدبي مجرد وحسب، بل إلى وثيقة تاريخية وشخصية تمكننا من النفاذ إلى حياة الشاعر كما إلى أفكاره وآرائه المدونة بصدق وجرأة بالغين. كما أن كتاب (اليوميات) يضع شاعر (أزهار الشر) على محك النثر الخالص ويتيح للقراء أن يقارنوا بين نثر الشاعر وشعره من جهة وأن يدركوا المسافة المقطوعة بين الكتابة التلقائية المرتجلة وبين الكتابة المنقحة والمصقولة والمهذبة من جهة أخرى. وإذا كان ت. س. إليوت يعتبر أن النثر هو المحك الحقيقي لشاعرية الشاعر، وإذا كان بودلير نفسه يعلن في إحدى فقرات يومياته مخاطباً الشاعر، أي شاعر، بقوله: (كن دائما شاعراً، حتى في النثر) فإن الكتاب يمكننا من تقصي القيمة الجمالية لنصوص بودلير النثرية بالإضافة إلى ما تقدمه من أفكار وما تمثله من شاعرية. من الروح إلى المال إن أي قارئ متفحص ليوميات بودلير لابد أن يجد تفاوتا كبيرا بين النصوص التي كتب بعضها بترو وعناية بالغين، فيما كتب بعضها الآخر بتلقائية تصل إلى حد الهشاشة. ومع ذلك فعلينا ألا ننسى أن هذه اليوميات ليست سوى مسودات أفكار وخواطر مدونة تتراوح بين الحكم والآراء النقدية والسياسية والتعليق على أحوال القرن وشجونه وبين الحديث عن أوضاع الشاعر الحياتية والمالية بالتفاصيل والأرقام الدقيقة. لكن هذه التلقائية هي التي تعطي الكتاب قيمته الحقة من جهة أخرى، وتحوله إلى وثيقة شخصية واجتماعية شديدة الأهمية، ذلك أن الشاعر الذي لم يخف باستمرار إيمانه الراسخ بالصنعة والتأليف والمهارة التعبيرية ـ كما يتضح من خلال (أزهار الشر) وقصائد النثر الأخرى ـ يقدم نفسه في (اليوميات) واضحاً وعفوياً وبلا أقنعة أو رتوش. وهو ما يظهر من خلال تكراره لبعض الأفكار والآراء التي ترد بحرفيتها في غير مكان من الكتاب. تعتمد (اليوميات) بغالبيتها على النصوص القصيرة التي لا تتجاوز الصفحة الواحدة. لكن هذه النصوص نفسها لا تختلف إلا فيما ندر حول موضوع واحد بل تتوزع على موضوعات عدة لا يربطها أحيانا أي رابط. فقد ينتقل بودلير خلال النص نفسه من الحديث عن أمر روحاني إلى موضوع المال والديون وصولاً إلى موضوع الرغبة أو السياسة أو الانتحار. ليس ثمة ما يوحد النصوص سوى شخصية صاحبها الغريبة والغنية وأسلوبه المليء بالدهشة والمفارقات. كأن الكتاب قائم على وحدة الجملة أو الفكرة الخاطفة لا أكثر، فكل جملة تصنع عالمها وتنهي دورها ثم تترك نفسها في عهدة الجملة التالية، أما الوحدة التأليفية فليست قائمة إلا في داخل الشاعر المفتوح على جميع الأسئلة والتعارضات، إلا أن استثناءات عديدة تخرج عن هذا السياق وتكتسب قيمة معرفية وجمالية لا تتوافر في نصوص أخرى. من بين هذه الجزر المميزة النص المتعلق بالجمال وتعريف الجميل. ففي هذا النص تقصّ نفسي ووجداني لافت بقدر ما يتصل بأبعاد فلـسفية وفـكرية عمـيقة. يقول بودلير: (إن الوجه الفاتن والجميل ـ أعني وجه المرأة ـ يجعلنا نحلم بالنشوة والحزن في الوقت ذاته، ولكن دون تمييز. إنه يحتمل فكرة الحنين والإنهاك وحتى الاكتفاء، وفي الوقت نفسه الفكرة المضادة، أعني حيوية متأججة ورغبة في الحياة، مع مرارة منحسرة وكأنها قادمة من الحرمان أو اليأس. الغموض والندم أيضا هما من مميزات الجميل). ولا يخفى ما في هذه النظرة إلى الجمال من وقوف على الحقيقة المرة التي تجعل الجمال مفتوحا على الحزن والانكسار والهروب المستمر بقدر ما هو مفتوح على اللذة والبهجة. المرأة .. الحب .. الجمال ليس ثمة من موضوع جوهري لا يتطرق إليه بودلير في يومياته ولو بجملة عابرة أو خاطرة سريعة. المرأة، الحب، الجمال، العمل، الموت، الصداقة، السياسة، الكتابة، الانتحار، الضجر، الزمن، الثروة، الفقر وغيرها الكثير مما يباغت الشاعر بين لحظة وأخرى، ولكن هذه الموضوعات تظل دائما في دائرة الالتباس والغموض ولا تدخل في يقين نهائي.فبودلير يمجد الكسل في مناسبات عديدة ويعتبره متعة الحياة الكبرى لكنه يعود في مناسبات أخرى ليمجد العمل الدءوب وغير المنقطع لمدة ستة أيام متتالية في الأسبوع، وكذلك الأمر بالنسبة للطبيعة الإنسانية التي تبدو خيرة بعض الأحيان فيما تبدو مفطورة على الشر في أحيان أخرى. غير أن اللافت عند بودلير هو ذلك الموقف الحذر والمتشكك على الدوام إزاء المرأة والحب. فالمرأة عنده مراوغة ومغوية ومنقادة دائما إلى صراخ جسدها الشهواني. إنها الجانب الشرير في الكائن الإنساني والرغبة الملحة في الانتحار أو معانقة الموت. أما الحب فهو عند بودلير (اللذة الوحيدة والقصوى بإتيان الشر، حيث الرجل والمرأة يعرفان منذ الولادة أن الشر مكمن كل لذة). إن أي علاقة حب، وفق بودلير، لا يمكن أن تقوم إلا بين متفان وأقل تفانيا، بين قوي وأقل قوة، وهي ستكون تبعاً لذلك علاقة بين جلاد وضحية لا أكثر، ولا يكون الوفاق بين الحبيبين إلا نتيجة لسوء تفاهم معين يقوم غالبا على التواطؤ والخداع بهدف الحصول ولو مؤقتا على الملذات. هكذا يعري بودلير الحياة الإنسانية من أقنعتها ووجوهها الزائفة ويعود بها دائما إلى النواة التي يتربع فوقها الجحيم. وربما كان سوء التفاهم العميق الذي حدث بين الشاعر وعصره نتيجة لآرائه الجريئة والقاسية التي تضع الناس مرغمين أمام حقيقتهم، وتقـدم لهـم وجوهـهم فـي مرايا لا تعرف الرحمة، لكن بودلير لا يرى في سوء التفاهم هذا معضلة أو نقيصة، فلولا سوء التفاهم في رأيه لما قامت للعالم قائمة (وسوء التفاهم العام هو الذي يجعل الجميع متفقين، إذ لو حدثت كارثة وتفاهمنا لما استطعنا أبدا أن نتفق. ورجل الفكر الذي لن يتفق مع أحد يجب أن يروض نفسه على استساغة محادثة الأغبياء ومطالعة الكتب الرديئة وسيخرج منها بمتع مريرة تعوضه عن تعبه بسخاء). صراع المبدع حتى الأدب العظيم بحسب بودلير لا يمكن أن ينجم عن مخاتلة العصر والانحناء لقوانيه البالية، بل هو ثمرة مغالبة قاسية بين المبدع ومحيطه. فالقسوة هي المرافق الطبيعي لما يولد، بدءا من حبة القمح والثمرة ووصولا إلى الإنسان، كل مبدع كبير من هذه الزاوية لابد أن يكون ضد التيار وخارج السائد. وكل إبداع حقيقي مشوب بسوء التفاهم لا بالمصالحة والخضوع. ووفق بودلير فـإن (الأمم لا تنـجب العظـماء إلا مرغمة. وغالباً ما تعمل قدر جهدها كي لا يكون لها عظماء. هكذا يحتاج الرجل العظيم ـ كي يكون ـ إلى قوة هجومية أكبر من قوة التصدي الناشئة عن تضافر جهود ملايين الأفراد). ولعل هذه القوة التي امتلكها بودلير بامتياز هي التي مكنته من أن يقوض المفاهيم السائدة في عصره وأن يجعل من صدقه وجرأته البالغين قبلة لأنظار البشر جيلاً بعد جيل.
ترجمة: أدم فتحي