من المكتبة العربية: الذات والحضور.. بحث في مبادئ الوجود التاريخي

من المكتبة العربية: الذات والحضور.. بحث في مبادئ الوجود التاريخي

لا جدال في أن كتاب المفكر العربي ناصيف نصار «الذات والحضور، بحث في مبادئ الوجود التاريخي، 2008» كتاب فلسفي بامتياز ومقالة فلسفية متفردة، تؤرخ لميلاد الفلسفة العربية المعاصرة، سواء من حيث الموضوع أو اللغة أو الاستدلال أو الرؤية.

يتألف الكتاب من سبعة أبواب وثمانية وعشرين فصلا، مع مقدمة وخاتمة. ويناقش المواضيع الآتية: الحاضر، والانوجاد، والحضور العقلاني، والحضور والقيمة، والقيم الأساسية، والحاضر وما قبله، والحاضر وما بعده.

صيغ نص الكتاب في شكل فقرات مرقمة على الطريقة نفسها التي كتب بها «منطق السلطة»، إلا أن الأسلوب المستعمل في كتاب «الذات والحضور» مختلف نسبيا من حيث نزوعه إلى ذلك الشكل الذي يوصف في الغالب بـ«السهل الممتنع» مع استكثار للأمثلة، ولكن مع ذلك بقي الطابع النظري المجرد هو الغالب كما هو الحال في مختلف كتابات هذا المفكر.

ويتميز هذا الكتاب على غير العادة بعدم الإحالة نصيا إلى الفلاسفة، وفي حالات معدودة ضَمن تلك الإحالات في متنه، كما لم يستند إلى دراسات نظرية أو تاريخية أو غيرهما، وإنما اكتفى بالإشارة إلى الأقوال العامة للفلاسفة أو آرائهم المشهورة، مع تركيز غير مسبوق على التحليل اللغوي من جهة اشتقاق الكلمات والتمييز والفصل بين المعاني المختلفة. كما تميز هذا الكتاب بحجمه الضخم مقارنة بمختلف كتبه التي نشرها، إذ إن عدد صفحاته بلغ (636) صفحة من الحجم المتوسط.

ويعتبر الكتاب تكملة لما طرحه في كتابين سابقين، وهما: «منطق السلطة»، و«باب الحرية». ويحاول الإجابة عن سؤال مركزي وهو: «ماذا يعني أن الإنسان يصنع نفسه؟». ص 6. وللإجابة عن هذا السؤال حلل في الباب الأول موضوع الحاضر، لماذا؟ لأنه: «الحقيقة الأولى في الوجود التاريخي». ص 9. وبعد تحليل لغوي للحاضر من جهة الزمان والديمومة، ومن خلال مناقشة آراء بعض الفلاسفة، على رأسهم أرسطو وكانط وبرغسون، طرح السؤال الآتي: كيف يكون الزمن حاضرا؟ وللإجابة عن هذا السؤال أجرى عملية تقسيم بين الزمن الطبيعي والذات، أو بحسب عبارته الزمن الكوني والزمن الكياني. (ص 41). وخلص إلى اعتبار الزمن الحاضر: «بوصفه زمنا للذات يتحدد في التفاعل الموضوعي بين الذات وغيرها من الذوات ومن واقعات الطبيعة، فيكون لحظة أو برهة أو فترة أو مرحلة».(ص 50). وتحديد الحاضر يستلزم بالطبع تحليل الماضي والمستقبل. وبعد تحليل لهذين البعدين وصلتهما بالحاضر يخلص ناصيف نصار إلى إقرار ثلاث نتائج، وهي:

1 - الحاضر يتقدم على الماضي والمستقبل في الرتبة الوجودية، ولا يتقدم عليهما في الرتبة القيمية.

2 - طبيعة المغامرة في الوجود التاريخي تمنع الحاضر من الانغلاق على نفسه والاكتفاء بنفسه.

3 - معنى الحاضر موجود فيه وفي حكم المستقبل عليه.(ص 83).

و لأن هدف المفكر هو تأسيس فلسفة في الحضور، فإنه عمد إلى تحليل مفهوم الانوجاد، أي تلك الحركة التي تنقل الإنسان من حالة الوجود المجرد إلى حالة الحضور مع ذاته ومع الآخرين. وهذه الحركة تتميز بكونها ذاتية، يدل عليها لفظها وهو: الانوجاد. وقد حلل علاقة الانوجاد بالماهية والهوية وصناعة الذات.

وهنا يطرح السؤال: ما معنى صناعة الذات؟ يقول: «إن مفهوم صناعة الذات لا يقاس على غيره، لأن الصانع والمصنوع فيه واحد. الكائن الذاتي يصنع ذاته بذاته، وبالعمل على ذاته، وان كان هذا العمل لا يقتصر على ذاته فقط».(ص 131).

وتتميز هذه الصناعة بكونها أصيلة لأنها محكومة بالإرادة، وذلك وفقا لتحليلات الفلاسفة، ومنهم: ديكارت، وشوبنهاور، ونيتشه، كما ميز بين صناعة الذات ومراتب هذه الصناعة، وخاصة من جهة النمو والتنامي والتنمية، ليخلص إلى القول بهندسة الذات القائمة على ثلاثة اعتبارات، وهي الاعتبارات الاقتصادية والجمالية والأخلاقية.(158).

ولهذه الذات بما هي صناعة وهندسة، أشكال حضورها المختلفة، ومنها الحضور العقلاني حيث حلل العقل والمفاهيم المشتقة منه، والعقل وعملياته، ومكانة العقل، والحضور من جهة القيمة، حيث ناقش موضوع القيمة، والتعامل العقلاني مع القيمة، وموقف المثالية من القيمة، والقيم والتفاعل الاجتماعي، والقيم الأساسية، أي الخير، والكرامة، والعمل، والصحة، والحقيقة، والجــــمال، والمحبة، والعدل. فماذا يقصد بالعدل الأستاذ ناصيف نصار؟

العدل فضيلة ترتبط بعلاقة الإنسان بالإنسان، أو الوجود بالمعية، ويلبي حاجة أصلية وهي التعاون الاجتماعي. ويبدو بحسب ناصيف نصار، أن العدل أكثر ارتباطا بمفهوم الحق في اللغات الأوربية منه في اللغة العربية، لذا تجنب تأويل لفظ العدل في اللغة العربية، ليقرر أن العدل يعني جوهريا: «وضع حقوقي» (ص 374).

يواجه العدل صعوبتين متلازمتين، الأولى نظرية وتتمثل في صعوبة تقديم معرفة عقلية واضحة لحقيقة العدل، والثانية كيانية وتتمثل في صعوبة التوفيق بين إرادة العدل والرغبات والعواطف. يقول: «التجربة التاريخية تدل على تقدم لا بأس به في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية بخصوص بناء المؤسسات الاجتماعية على قواعد مستمدة من معرفة عقلية متطورة لحقيقة العدل ومستلزماته، معرفة يظهر نجاحها في تقليل الظلم المصاحب للفوارق الاجتماعية وفي تداول السلطة السياسية على أسس دستورية منفتحة على المزيد من العدل. إلا أن قوة المصالح والمطامع الأنانية الفئوية لاتزال تشكل سدا منيعا أمام تسييد النظر العقلي في العدل في قطاعات متعددة من الحياة الاجتماعية وفي مستوى العلاقات بين الدول». (ص 378-379).

و يستلزم تحليل الحضور والذات، النظر في مضادات الحضور. وقد قسم المفكر ناصيف نصار هذه المضادات إلى نوعين أساسيين، أطلق على النوع الأول اسم: الحاضر وما قبله، بمعنى الماضي، وناقش فيه مواضيع أساسية، وهي: الغياب، والذاكرة، والوفاء. وفي هذا السياق يرى ضرورة حصر الغياب في مجال الإدراك، ولا يجوز الدفع به إلى الغياب المطلق، أو اللاوجود، متفاديا استعمال مقولة العدم.

يرتبط الغياب بالذات من جهة الواقع الخارجي كغياب الأشياء، كما تعاني الذات من الغياب في ذاتها: لأنها هي في الأصل مسرح الحضور والغياب. وبعد تحليل لأشكال غياب الذات، ومنها: الغياب بحكم الواقع، والغياب بسبب الإهمال والنسيان، يخلص إلى أن الغياب عن الذات ينتج «من كون حضور الذات إلى ذاتها ليس حضورا كاملا ومطلقا، لأن الذات لا تتمتع بشفافية كاملة ومطلقة في وعيها المنعكس على ذاتها، ولأنها محكوم عليها بأن تكتشف ذاتها بحضورها إلى العالم حولها وبانخراطها فيه بكيفية تمنع على وعيها بذاتها الانغلاق التام على نفسه». (ص 455). لينهى تحليله لهذه المسألة بجملة من الملاحظات، وهي:

1 - الحضور متوقف على الوعي.

2 - الصراحة لا تلغي مناطق الظل والغياب في العلاقات البينية.

3 - يمثل الخداع الوجه الصريح للغياب.

4 - هنالك توسط ما بين الصراحة الصارمة والخداع السافر.

5 - كل شيء خاضع للتحول وذلك بحكم الزمن.

وقد أطلق على النوع الثاني من المضادات اسم: الحاضر وما بعده، أي المستقبل، حيث حلل مواضيع الطموح، والتخيل، والأمل. وميز في تحليله للأمل ما بين التمني والرجاء، رابطا بين الأمل والعمل. لماذا؟ لأن: «العمل شرط ضروري لقيام الأمل».(ص 608). ولأن الأمل خارج العمل مع الاهتمام بالمستقبل لا ينتج سوى التمني والانتظار. وحلل هذا المعنى وغيره في فلسفة هيغل وماركس وخاصة عند بلوخ، في كتابه: الأمل مبدأ، منتقدا ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونفيل في كتابه: «الرسالة في اليأس والغبطة». وأنهى تحليله بالحديث عن مبدأ المسئولية كما صاغه يوناس، قائلا: «المسئولية عن المستقبل تتجذر في الطموح، والطموح الجدير بالاحترام والعناية هو الطموح المسئول».(632). وختم هذا السفر الفلسفي بكلمة ختامية تشير إلى أن المفكر العربي ناصيف نصار يأمل في النظر في الميتافيزيقا أو ما يتصل بـ«المطلق اللامتناهي»، بحسب عبارته.

بعد هذا العرض الموجز لكتاب يحتاج إلى أكثر من دراسة وبحث، فإن هنالك جملة من الأسئلة تطرح نفسها، ومنها على وجه التحديد:

1 - لماذا غاب عنصر التاريخ عن كتاب يتحدث عن الذات والزمن والحضور، وخاصة أن العنوان الفرعي للكتاب هو: بحث في مبادئ الوجود التاريخي؟ فأي معنى للوجود التاريخي من دون تاريخ فعلي وتجربة تاريخية حية؟ ألا يستحق عنصر التاريخ بما هو تجربة حية للذات أن يكون موضوع نظر المفكر الذي يحاجج بالتجربة التاريخية؟ ألا تستحق أن تكون «التجربة التاريخية العربية» موضوع نظر المفكر؟

2 - لقد خلص الأستاذ ناصيف نصار إلى القول بأن «الذات صناعة، وتصنع ذاتها بذاتها». وضمنها صفات أساسية ليست أقلها الإرادة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ألا تثير كلمة الصناعة لبسا إن كان من الجهة الوجودية

أو المعرفية؟ كيف يمكن أن تحدد الذات بما هي صناعة من دون الالتفات إلى ذلك النزاع في الفلسفة المعاصرة والذي يعرف بـ«عودة الذات»، إذ من المعروف ذلك الجدل الذي أحدثته البنيوية وقبلها التحليل النفسي، كما هو معلوم في هذا المجال ما أثارته كتابات ميشيل فوكو وما ذهب إليه من أن الذات حصيلة لعمليات التذويت والتوضيع، ومع ذلك لم يجعل الذات صناعة، وعندما عدل من موقفه تحدث عن تشكل وتكون الذات؟ وفي هذا السياق من المهم الإشارة إلى كتاب بول يكور الأساسي: «الذات عينها كآخر»، أو كتاب الفيلسوف الكندي شارل تايلور: «مصادر الأنا»: تشكل الهوية الحديثة»، ألا يمكن اعتبار القول بأن الذات صناعة تتضمن نزوعا إراديا، وفي الوقت نفسه ميلا إلى القدرة على التلاعب بالذات؟ ألا تخفي هذه العبارة هاجسا أيديولوجيا؟ ثم ألا يشكل القول بأن «الذات صناعة» نوعا من الاختزال لموضوع شديد التعقيد ويعتبر بلا أدنى شك حجر الزاوية في كل تأمل وتفكير فلسفي أصيل؟ وأخيرا ألا تشكل «الذات العربية» مثالا للجوهر الثابت المقاوم للتغيير ومسلوبة الإرادة في الغالب من الأحيان؟

3 - كيف يمكن ربط الذات بالصناعة، والقول في الوقت نفسه بجوهرها؟ إن هذا الربط بين الذات بوصفها هوية جوهرية وصناعية، يبدو لي أنه ربط يحمل مفارقة إن لم يكن تناقضا، ولا أحسب أن الجدلية الصورية والصارمة التي يعتمدها الأستاذ ناصيف نصار تكفي لحل هذه المفارقة وغيرها من المفارقات.

4 - لا شك أن كتاب: «الذات والحضور» غني بتحليلاته المنهجية ومعماره اللغوي الأرسطي القائم على وضع الحدود بين المعاني والدلالات، وخاصة ما تعلق بالباب الرابع: «الحضور والقيمة». والحق أن الوضوح المنهجي في تحليل مختلف القيم لا يمكن أن تخطئه العين، ولكن ما يبدو لي هو أن الفائدة الأساسية المنهجية مما قدمه الأستاذ ناصيف نصار من معان وأفكار تظل منحصرة في عملية التوضيح والربط الجدلي بين القيم.

5 - على الرغم مما يشي به متن الكتاب من معرفة بتاريخ الفلسفة وبنصوص الفلاسفة، ومتابعة للجديد في هذا الحقل المتنوع، إلا أن هنالك جوانب أساسية يغفلها المفكر، ومن هذه الجوانب تحليله للعدل بعيدا عن أشكاله الجديدة، ونعني بذلك صلة العدل بالاعتراف، أو ما يسمى بالعدل الرمزي والثقافي، حيث تطرح مشكلات العدل مع الأقليات الاجتماعية المختلفة. وإنني لأتساءل كيف يمكن لمفكر الحرية والذات والحضور أن يغفل عن هذا الموضوع الذي يعتبر بجميع المقاييس موضوعا أساسيا مختلف المناقشات المتصلة بالفلسفة السياسية والاجتماعية والأخلاقية؟.
----------------------------
* كاتب من لبنان
** أكاديمي من الجزائر - جامعة الكويت

-----------------------------------
أَجمِل إِذا طالبتَ في طَلَبٍ
فَالجِدُّ يُغني عَنكَ لا الجَدُّ
وإذا صَبَرتَ لجهد نازلةٍ
فكأنّه ما مَسَّكَ الجَهدُ
وَطَريدِ لَيلٍ قادهُ سَغَبٌ
وَهناً إِلَيَّ وَساقَهُ بَردُ
أَوسَعتُ جُهدَ بَشاشَةٍ وَقِرًى
وَعَلى الكَريمِ لِضَيفِهِ الجُهدُ
فَتَصَرَّمَ المَشتي وَمَنزِلُهُ
رَحبٌ لَدَيَّ وَعَيشُهُ رَغدُ
ثُمَّ انثنى وَرِداؤهُ نِعَمٌ
أَسدَيتُها وَرِدائِيَ الحَمدُ

دوقلة المنبجي

 

ناصيف نصار*