لماذا نطلب من الآخرين الكتابة في مُفكِّراتنا الشَّخصية (Autograph)؟

لماذا نطلب من الآخرين الكتابة في مُفكِّراتنا الشَّخصية (Autograph)؟

  • ممارسة الكتابة لم تتجه في بدايات استخدامها إلى تلبية الرغبات الذاتية الفردية وإنما لتلبية التطلعات المجتمعية العامة وتسهيل التواصل والتبادل
  • الكتابة في المفكرات الشخصية ليست ظاهرة نصية محضة بحيث يمكن دراسة محتواها بمعزل عن السياق الثقافي المولد لها

تظلُّ الكتابة في مقدمة الإنجازات الكبرى التي قدَّمَها الإنسان طَوال مسيرته التاريخية, وعلامةً بالغةَ الدَّلالة، جعل الآثاريون من ظهورها بدايةً لعصور التاريخ، ومؤشرًا على تبَلّور الوعي الحضاري، فارْتَبَطَتْ الكتابة بالحضارة، وغَدَتْ أداتها المائزة في تسجيل درجة هذا الوعي في كلِّ مراحل التاريخ من جهةٍ، والوسيلة الناجعة في التَّواصل الحضاري ورصد مظاهر التَّقدم بمختلف مستوياته واتجاهاته من جهةٍ أخرى.

من الواضح أن الدافع الذي حدا بالإنسان إلى اختراع الكتابة هو الاستجابة لحاجته الاجتماعية التي تخلَّقَتْ بفعلِ اتِّساع التَّجمعات السُّكانية، وتشابك علاقاتها. وبذلك، فإن ممارسة الكتابة اتجهت - في بدايات استخدامها - لتلبية التطلعات المجتمعية العامة التي يتغيا منها تنظيم علاقات المجتمع وتسهيل التواصل والتبادل بين أفراده، وضبط مختلف أنواع النشاط الإنساني: اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا. ويعَزِّز هذا القول ويؤكده ما تَنْطِقُ به الآثار المكتشفة، فمحتوى أقدم هذه الآثار يكاد يكون في أغلبه مجموعةً من العقود والتَّشريعات والشَّواهد التي فَرَضَتْهَا اللحظة التاريخية، والوعي بضرورة إحكام العلاقة بين الفرد والمجتمع على النحو الذي يحفظ لجميع الأطراف حقوقها، ويسهل التواصل في ما بينها. ومن الطبيعي أن يكون انتقال الكتابة للتَّعبير عن التأملات الذاتية والفكرية للإنسان متأخرا عن كتابة العقود والشواهد، خاصة إذا ما علمنا أن الإنسان لا ينتقل من مرحلة الضَّرورة إلى مرحلةِ الفَنّ إلا بعد تأمين حاجاتِه الأساسية المرتبطة ببقاءِ نوعه. وهكذا، فإن الإنسان حين تمكن من سَدّ حاجاته الضَّرورية في ممارسة الكتابة انتقل بها إلى مرحلة الفن، فأخذتْ الكتابة تتجه نحو ما هو خاصٌ وذاتي، وتستكشف العالم الداخلي للذات الإنسانية، وتسرد تأملاتها وهمومها اليومية، وتصوغ موقفها من الوجود والعالم المحيط بها، ومن ثم أصبح المحتوى الأخير للكتابة هو المدلول الأكثر التصاقاً بلفظ الكتابة، وتَخَصْصَتْ دلالة لفظة «الكاتب» - خاصةً في العصر الحديث - لتُشير إلى الذين يمارسون هذا النوع الأخير من الكتابة.

كتابة التوقيعات

ومن الظواهر الكتابية التي تشهد منذ عقود حضورا لافتا ما يمكن أن ندعوه هنا بكتابة التوقيعات التي تتجَسَّدُ في صور عديدة: منها توقيع النجوم والمشاهير، حيث يطلب الجمهور من مشاهير الفن والرياضة التوقيعَ في مفكرات شخصية أو على ملابس رياضية. ومنها توقيع المؤلفين لإصداراتهم الحديثة، حيث يقومون بالتوقيع على نسخٍ تقتنى من قبل جمهور القراء أو تُهدى للأصدقاء في حفلاتٍ تقيمها دور النشر وترعاها. وهناك نوع ثالث هو الذي يعنينا في هذا السياق، ويتعيّن هذا الأخير حين يتوجه شخص ما بدعوة زميله، أو أستاذه، أو رئيسه في العمل، للكتابة في مفكرته الشخصية من غير تحديد لمحتوى الكتابة أو شكلها. وتتولد الكتابة هنا في إطار علاقة خاصة تجمع بين طرفين، وميزة العلاقة في هذا النوع أنها تستند إلى المعرفة الوثيقة والتقدير المتبادلين، في حين أن العلاقة بين الأطراف في توقيعات المشاهير والمؤلفين تتأسس فقط على الإعجاب والتقدير من قبل طرفٍ واحد هو الجمهور بالطبع.

ومع أن ظاهرة الكتابة في «المفكرات الشخصية» (Autograph) تبدو كغيرها من الظواهر الأخرى من حيث إمكان إخضاعها للدراسة والتمحيص لفهم طبيعتها الخاصة، ومعرفة خلفيات تشكّلها، فثمة إشكال يعوق دراسة هذه الظاهرة؛ ما يجعلها غائبةً عن مجال النظر والدراسة، وموضوعا غير جدير بالاهتمام لدى الدارسين على الرغم مما لها من حضور وتداول في الحياة الاجتماعية وبخاصة لدى فئة الشباب. ويتمثل هذا الإشكال في عدم توافر نصوص هذه الكتابات في أيدي الدارسين؛ فمعظم الذين يمارسون هذا النوع من الكتابة لايزالون ينظرون إليها بوصفها متعلقاتٍ شخصية أو أنَّها جزءٌ من تاريخ الذَّات الخاص في علاقتِها بالآخر. ولذلك، فإن توافر هذه الكتابات في أيدي الدارسين يظل أمرا مرهونا بتغيير زاويةِ النَّظر إلى هذه الكتابات من قبل الذين يمارسونها، لكن غياب تلك الكتابات أو نصوصها لا يعني التوقف عن تناول الظاهرة وقراءة دلالات حضورها في السياق الثقافي؛ وذلك لأن الكتابة في «المفكرات الشخصية» ليست ظاهرة نصية محضة بحيث يمكن دراسة محتواها بمعزلٍ عن السياق الثقافي المولّد لها وعن دلالاتها الاجتماعية والثقافية. فالظاهرة في بعدها الوجودي ـ وقبل أن تتحول إلى نصوص كتابية ـ ممارسة ثقافية واجتماعية لا تختلف عن غيرها من الممارسات الاجتماعية التي تنشأ عادةً استجابة لحاجات نفسية واجتماعية يدفع بها السياق التاريخي والحضاري الذي تتولّد عنه. ومن هنا، فإن مقاربتها كممارسة ثقافية قد تسمح بتخطي عقبة غياب النصوص.

طريقة العرض

لعل أول ما يلفت النظر تجاه هذه الظاهرة، هو طريقة العَرْض التي تسْبق فعل الكتابة، إذ يأتي طلب الكتابة مشفوعا بالعِلّية، فَتَرِدُ عبارة «للذكرى» تاليةً لطلب الكتابة في أغلب الحالات. ومن الواضح أن ترديد هذه العبارة عند كلِّ طلبٍ يوحي بوعي العارض بتوجس الكاتب من فعْل الكتابة ومَحَاذير مُمَارستها، فهل تأتي عبارة «للذكرى» للقضاء على حالة الارتباك التي تتلبس الكاتب، وتبديد سوء الفهم الذي قد يَعْقب طلبَ الكتابة، ومن ثم يسارع العارض إلى الإفصاح عن غرض الطلب؟ وبما أنَّ طلب الكتابة يقوم على أساسٍ من العلاقة الشخصية التي تربط بين الطرفين، فمن المؤكد أنَّ هذه العلاقة ستشكِّل مرجعيةً لمحتوى، الكتابة، وحتما ستؤثِّر في هذا المحتوى وستجعله يسير في طريقٍ يَتَضَام معها. وإذا كان الطلبُ يتشَكَّلُ وَفق هذه المحددات، فهل يمكن أن نعدَّ تعليلَه بعبارة «للذكرى» محاولةً غايتُها تحرير الكاتب من الإحساس بالتَّوَرّط (أو التواطؤ) في كتابة أوصافٍ وعباراتٍ غير صحيحة بتأثير من تلك العلاقة الخاصة، أم أنَّ العبارةَ تأتي لتكون بمنزلة إغراء للكاتب ليكْتُب ما هو جميلٌ؛ ليبقى كذكرى يحتفظ بها العارض، حتى وإن كان ذلك على حساب مجانبة الحقيقة؟

فإذا تأملنا عبارة «للذكرى» سنجد أنها لا تخلو في الواقع من دلالة، فهي توحي ـ من جهة ـ بأن ما سيكتب في المفكرات سيغدو بمنزلة الأيقونة التي تومي دائما إلى صاحبها (كاتبها) بوصفها جزءا منه ودالة عليه، إنها تحل مكانه وتحيل عليه في غيابه. كما تشير، من جهة أخرى، إلى أن الكتابة ستتحول عند إنجازها إلى حافزٍ للتواصل مع كاتبها ولتذكّره وليس لمجرد الذكرى فقط، فالقيمة التي تنطوي عليها الكتابة ليست فيما تحويه من مشاعر الود أو المديح للذات، ولكن فيما ستقوم به من استدعاء للذكريات واسترجاع لتفاصيلها.

فتنة الكلمات

ومن جانبٍ آخر، فإذا كان المرء لا يطلب الكتابة غالبا إلا من الأشخاص الذين يقدّرهم ويحبهم، فهل هو محتاج فعلا إلى وسيلة تذكره بهم؟ ثم كيف لنا أن نفترض ذلك ونحن نعلم أن الإنسان في الغالب لا ينسى الأشياء الجميلة والشخصيات والأحداث المؤثرة في حياته.

وفي الدائرة نفسها، ما المواقف التي تَدْفع بالمرء إلى طلب الكتابة من زميله أو أستاذه أو رئيسه؟ أهي فتنةُ الكلمات وسِحْرُ العبارات، أم محاولة الإمساك باللَّحظات الزمنية الَهَارِبَة، وتقييدها لأجل تكوين رصيدٍ كبيرٍ من اللحظات الجميلة والمواقف الحياتية، يهرب إليها المرء حين يُهَرْول به قطارُ العمر أو عندما تضيق بوجهه الحياة؟ وبالنَّظر إلى إشكاليّة الأنا والآخر، وجوهرها الذي تُلَخِّصُهُ المقولةُ الشهيرة «لا يمكن إدراك الذات إلا من خلال الوعي بالآخر»، فهل يمكن عدّ طلب الكتابة نتيجة لرغبة المرء في اتِّخَاذ مجموعةٍ من المرايا يرى فيها ذاتَه كما يعكسها الآخرون؟ وحسب تلميحات عبد العزيز حمودة في كتابه «المرايا المحدّبة»، فإن عمل المرايا يتوقّف على أساس نوعها، وهو بالجملة يقود إلى نتيجتين اثنتين: فإمَّا أن تكون المرايا مستويةً، وهي في هذه الحالةِ تعكسُ جوانب مختلفةٍ للذات، فتُحْدِثُ نوعا من التوازن والاستقرار النفسي للذات. وإمَّا أن تكون المرايا محدَّبةً أو مقعّرةً، وهي في هاتين الحالتين، قد تعكس جانبا أو آخر، وتسعى إمَّا إلى تضخيمه أو إلى تصغيره، وتكون النتيجة هنا اختلال توازن الذات وفقدانها القدرةَ على الإدراك الحقيقي لنفسها ولموقعها ودورها. وبناء على ذلك، فهل يمكن القول إن الجهل بحقيقةِ الذات والرغبة في التَّعرف عليها وإضاءة جوانبها المختلفة عواملٌ تقِف وراء طلب الكتابة، أم أنَّ بواعث أخرى تحتاج إلى مزيدٍ من الكشف؟

وعلى الرغم من وجاهة كل هذه التأويلات التي صغناها في صورة تساؤلات لمقاربة العلة الباعثة على طلب الكتابة، فإننا إذا تأملنا الطلب من منظور إجرائي، سنجد أنه يتغيا - في أبعاده العميقة - تحقيق أمرين متلازمين، الأول: تأسيس فعالية جيدة للتواصل تمدّ من ديمومة تواصلنا مع ما نرغب في بقائه كجزءٍ متصل بالذات وتاريخها. والثاني: الانتقال بعملية التواصل من الطريقة المباشرة إلى الطريقة غير المباشرة؛ ليبقى التواصل ممكنا ومستمرا بغير انقطاع. ويمكن البرهنةَ على صحة هذا التأويل من خلال الطريقة التي تتم بها عملية التواصل، فالعودة إلى المفكرات والقصاصات والصور والأشياء التي كتبها أو تركها لنا الأصدقاء لا تتم فجأةً أو مصادفةً - في الغالب - بل تأتي تلبيةً لرغبةٍ داخليةٍ مُلِّحة، وإحساسٍ داخلي، يدفعُنا لتَفْعِيل عملية التواصل، فعندما يُداهمُنا الخوف من الانقطاع، ويَبْهَت الحضورُ في الذاكرة، فإنَّنا نفْزَع إلى مفكراتنا الخاصة لتنشيطِ التواصل، لنشعر بتجدد ما يجمعنا بالآخر من روابط، وبأن علاقاتنا بماضينا وحاضرنا تزداد توثقا وتجذرا، وقد لا نُجاوز الصواب حين نقول إنَّها لحظات الوعي الحقيقية؛ لأنَّنا نستطيع أن نعترف - في أجوائِها الخاصة - بالكثير من أخطائنا، ونعقد العزم على تصحيحها، وبوحيٍ منها نسعى إلى تغيير بعض مسارات حياتنا، فهي واحدة من أهم لحظات المواجهة الحقيقية والصادقة مع النفس وعلاقتها بالآخر.
--------------------------
* أكاديمي من اليمن.

 

----------------------------------------

وشك الماء أن يتخثّر في رئة النهرِ:
- هذا التراب يمزق وجهي
وهذا النخيل يمدُّ إليَّ يدَهْ.
يوشك النهر أن يتقيأَّ أجوبة الماءِ
- من قال إن النهار له ضفتانِ
وإن الرمال لها أوردَهْ

 

محمد الثبيتي

 

 

ربيع ردمان*