معوق!؟.. هو التحدي إذن!! زينب الكردي

معوق!؟.. هو التحدي إذن!!

الطفل المعوق، إنسان ككل البشر، لكن بإمكانات أقل. كيف يواجه الأبوان صدمة ولادة طفل معوق، وكيف يتعاملان معه إلى مرحلة الاعتماد الجزئي على الذات في قضاء بعض حاجاته؟.

لا شيء في الدنيا يمكن أن يكدر صفو أي امرأة تنتظر حادثا سعيدا أكثر من رؤيتها لطفل معوق. مجرد الرؤية تفقدها الشعور بالأمن وتوقظ هواجسها، وتبدأ في التساؤل القلق: هل يمكن أن يكون طفلي القادم بهذه الصورة؟ هل يكون معوقا أو متخلفا عقليا؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟. فإذا ما كانت مجرد الرؤية تؤرقها إلى هذا الحد، فما بالك إذا فوجئت - بعد ولادته - بأنه معوق بالفعل؟ مؤكد ستكون صدمة ومؤكد أيضا أن الأم، بل وأفراد الأسرة جميعا لن يستوعبوا الأمر بسهولة، إلا أن الأم بالذات ستلازمها عقدة الشعور بالذنب ولن تكف أبدا عن التساؤل بينها وبين نفسها: أتراني السبب؟ هل أورثته هذا المرض؟ هل تهاونت أثناء الحمل وتناولت شيئا محظورا دون استشارة الطبيب؟. فإذا ما انتهت بأسئلتها تلك إلى إجابة منطقية تفيد بأنها ليست السبب، هزت رأسها وقالت بإصرار: ولو، يكفي أنه انزلق من رحمي، لقد كنت أنا الأداة.

وعلى الأم إذا - لا قدر الله - وجدت نفسها في هذا الموقف أن تدرك أن إعاقة ولدها قد أصبحت حقيقة واقعة ينبغي أن تواجهها بسلوكيات إيجابية، أو لنقل بحزن إيجابي، لأن الاستسلام للدموع والألم لن يرده إلى الشكل الذي كانت تأمله وتتمناه. وإذا كانت الإعاقة تمثل كارثة، فمن واجبها كأم أن تخفف من وقع الكارثة ليخرج ابنها منها بأقل الخسائر، فلتقل لنفسها كلما شعرت بالألم: "إن حزني سينعكس على وجهي وسيفضح معاناتي، ولن يصدقني أبدا عندما أوحي إليه بأن إعاقته لا تعني الحكم عليه بالإعدام وهو حي".

فريق واحد في مواجهة العجز

الطفل المعوق - كغيره من الأطفال - يحتاج لأن يشبع داخله حاجته إلى الشعور بالأمن والانتماء، وإحساسه الدائم بأنه محبوب ومرغوب رغم إعاقته. إشباع هذه الحاجات سيساعده كثيرا على التوافق مع ظروفه وتخطي معظم الصعوبات التي يمكن أن تصادفه، خاصة إذا ما حرص أبواه على الإيحاء إليه، وبشكل عملي أنهما يؤمنان بقدراته ومدى استطاعته تحقيق ذاته رغم عجزه، فهو قد لا يكون بطلا في كرة اليد أو الكاراتيه مثلا، ولكنه يستطيع أن يكون حكما فيهما، وربما لا يستطيع أن يكون طبيبا أو مهندسا، لكن بالإمكان أن يكون مبدعا في مجال آخر كالرسم أو الموسيقى أو الكتابة.

حذار من السخرية أو الشفقة

أم الطفل المعاق قد تمر بلحظة تشعر فيها بالإحباط والثورة على الظروف، وبأنها تحملت أكبر من طاقتها، ولم يعد لديها المزيد من القدرة على التحمل أو الصبر.

لا تخجلي من هذا الشعور يا صديقتي، فهو أمر عادي وإحساس طبيعي، ولا يعني أبدا أنك كائن أناني. يعني فقط أنك إنسان طاقتك في النهاية - مهما عظمت - محدودة. ساعدي نفسك عن ألا ينتابك هذا الشعور ثانية بأن تعيشي حياتك قدر ما تسمح لك الظروف. اخرجي لزيارة الصديقات أو لمجرد المشي، حتى تستعيدي حيويتك وتوازنك النفسي كي لا يشعر هو بالذنب لأنه يسبب لك كل هذا الكم من التعاسة. ابحثي حولك عمن يعانون مثلك، وقدمي لهم العون والخبرة فربما أيقنت من رؤيتك للمعاقين الآخرين أن حالة ابنك أفضل بكثير، مما سيغمرك بالسكينة ويزيدك إيمانا بالله. وأيا كانت الظروف لا تسمحي لأحد بأن يبدى تجاهه ولو قدرا بسيطا من الشفقة أو أن يسخر من حالته ولو بحسن نية حتى لا يشعر بالنقص وينطوي على نفسه، أمرا إذا كان هو يتعمد استدرار الشفقة، ليحصل على امتيازات ومكاسب ليست من حقه فلا تستسلمي له وقاومي محاولاته بشدة هادئة، ذكية، واتبعي معه أسلوبا تربويا متوازنا، فلا تدليل ولا قسوة، وهذا الكلام ليس معناه أن نتصرف معه كما لو كان سليما تماما أو على أساس أن حالته مؤقتة. لأن إدراك الطفل والمحيطين به لواقعه، وإدراك طبيبه لطبيعة هذه الحالة يساعد كثيرا في تقدمه، فلا تهربي من مناقشة الطبيب في حالة ابنك خوفا من أن تسمعي منه ما لا يسرك. إذ إن معرفة الحالة بالتحديد تساعدك على تخطي هذه الأزمة وعلى وضع برنامج عملي لها.

وهنا لا يفوتني - بمناسبة الكلام عن الأطباء - أن أحذرك من الجري وراء النصائح والاقتراحات التي ستنهال عليك من الأصدقاء والمعارف وأدعياء المعرفة بكل شيء التزمي فقط بإرشادات الطبيب المعالج، وحتى إذا سمعت عن علاج أفضل أو دواء أنجع فأخبري الطبيب به واتركي له حرية اتخاذ القرار.

لا تدليل... لا قسوة

أسرة الطفل العاجز تمر عليها لحظات تشعر خلالها وكأنها تتنفس تحت الماء، تعاني وتأمل، تتألم وتسخط، وهو شعور طبيعي، فقط لا تجعلوه يلاحظ ذلك، وأيا كانت درجة الألم والإشفاق ضعوا حالته في مكانها الصحيح فلا تدليل بحجة أنه عاجز، ولا قسوة بدافع اليأس والمرارة، مع الإيحاء الدائم وبذكاء شديد أنه يمكن أن يكون أفضل من كثيرين، وأن الحياة لم تفرغ من محتواها بعد، وعلى الأب بالذات أن يراعى أن زوجته بحكم تعاملها اليومي الدائم مع طفلها المعاق وبحكم رعايتها له، ولباقي إخوته الآخرين تقدم ما هو أكثر من طاقتها، عليه إذن أن يقدر ذلك ويحترمه، فلا يتوقف عند الصغائر، ويفتعل المشاجرات لمجرد. التنفيس عن غضبه والانطلاق بعيدا لأمكنة قد ينسى فيها كل ما يمكن أن يذكره بمأساته، لابد من الشعور بالألم المشترك، ليس بين الأبوين وحسب، بل وبين أخوته الذين ينبغي إرشادهم وتدريبهم على التعامل معه. لابد أن يفهموا حدود شقيقهم العاجز، لكي يواجهوا الموقف بحكمة واقتدار. ساعديهم على الاقتراب منه والإصغاء لكلماته بدون ضيق، وأن يلعبوا معه بشرط ألا يختاروا نوعية من الألعاب تعمق لديه الشعور بالعجز، وأن يساعدوه على أن تكون كل متعلقاته الخاصة قريبة منه حتى لايضجرهم بطلباته. راقبي علاقاتهم وهي تنمو للأفضل من بعيد ولا تتدخلي إلا عند الضرورة وبرفق وبشرط ألا تنحازي إليه بدعوى أنه الجانب الأضعف، فثمة أطفال معاقون يستمرئون اللعب على هذا الوتر ويستغلون عجزهم في تحقيق مآربهم وفرض إرادتهم بدون حق.

لا تسمحي له بأن يمارس ذلك عليكم حتى لا يتحول مع الوقت إلى كائن أناني ينفر من الاقتراب منه القريب والبعيد مما سيؤذيه على المدى البعيد عندما يكبر ويلتفت حوله فلا يجد بجانبه أخا أو صديقا. هو بالذات يحتاج على مدى سنوات عمره كلها إلى محبة الإخوة فلا توغري صدورهم ضده بانحيازك إليه.

وشجعيه على كسب ود الآخرين وتكوين علاقات جيدة معهم ولتبدئي بأبناء الأقارب والجيران. فإذا تعذر ذلك كرري المحاولة مع أطفال يعانون من نفس مرضه، وثقي أنه بينهم سيجد ذاته وسيسهل علية التعبير عن نفسه بدون خجل أو خوف، وسيجد العزاء ويفهم أنه ليست وحده من يعاني تحت سماء هذا العالم وأنه ربما كان أفضل الجميع إن لم يكن مثلهم.

والعجز أنواع

نوع يمكن إصلاحه بعملية جراحية أو بإبقاء الطرف المصاب دون حركة أو في وضع معين، ونوع آخر يستلزم من المريض ممارسة نوع أو أكثر من النشاط الذي يساعد على تقوية العضلات ومرونتها. وقد يحتاج إلى العلاج بالكهرباء أو التدليك. وقد يتقدم كثيرا إلا إنه عادة ما يصل إلى مرحلة لا تقدم بعدها، فإذا ما صارحك الطبيب بهذه الحقيقة وفكرت في استشارة طبيب فلتفعلي، ولن يلومك أحد، لكن إذا أجمع أكثر من أخصائي على المقولة نفسها فيجب أن تتوقفي عن البحث والجري وراء المستحيل. اعرفي أنك في مثل هذا الموقف ستصابين باليأس ويداهمك الحزن فأنت في النهاية أم تعيشين بنبض قلبك، لا يأس، فقط لا تتركيه يشعر بما تعانينه حتى لا تعوقيه نفسيا ويعجز تماما عن التأقلم مع ظروفه، وكما تعرفين يا صديقتي أن العجز النفسي عندما يصبح عميقا يصير أمرا لا علاج له حتى ولو شفي المريض.

قد تقولين الآن: ما أسهل أن نبعثر النصائح، وأن من تكون يده في النار ليست كمن يده في الماء البارد. لا يا صديقتي، أنا شخصيا عشت هذه التجربة مع أحد أبناء شقيقاتي، عايشتها بكل حواسي لحظة بلحظة. أدمتني نظرات الأبوين القلقة، وعرفت معنى أن يشعر المريض بالغربة ويخاف الناس وتعليقاتهم ونظراتهم ويهرب منها إلى الغرفة المظلمة ليستسلم بالساعات لأحلام اليقظة حيث يبني عالما على مقاسه يموج بالعلاقات والانطلاق والكمال الذي حرم منه. رأيت بنفسي كيف كان يتصرف بطريقة تثير الغيظ والقهر عندما تطفح داخله مشاعر المرارة واليأس، إني تعلمت أن هذا كله لا يعني أن نترك الطفل المعوق وشأنه، بل ندعه يعمل بمفرده قدر إمكاناته، فإذا ما كانت يداه سليمتين، وساقاه فقط هما المعوقتان فيمكننا أن ندعه يأكل ويشرب ويرتدي ملابسه وحده دون أي مساعدة إلا عند الضرورة القصوى وأن نعمل في الوقت نفسه على تقوية أطرافه المصابة وتليين عضلاتها تحت استشارة الأخصائي. تعلمت أن الطفل المعاق يحتاج إلى استشارة عقله وخياله. أن نمده بالكتب والروايات ونشركه في مناقشات بناءة ونصرفه من خلال العمل وعدم تركه فريسة للفراغ في التفكير في نفسه وأن نجعله يشعر بأنه عضو فعال ومفيد للآخرين يؤدي بعض الخدمات الصغيرة لنا كترتيب ألبومات الصور أو تجفيف أدوات المائدة وترتيب الخزائن أو حتى مساعدة الأم في تقشير الخضراوات، المهم أن تفكروا دائما فيما يمكنه عمله وليس فيما لا يمكنه. ساعدوه على الابتكار ودعوا تحت تصرفه مجموعة من الفرش والألوان والورق ونموا موهبته الموسيقية وتدوين مذكراته فهي قد تساعده على التنفيس عن انفعالاته أولا بأول. يمكنكم أيضا أن تنموا لديه هواية جمع طوابع البريد أو العملات النادرة، وثقى أن أمامه عشرات الفرص ليبدع ويبتكر، المهم أن يجد التوجيه الذكي وبحيث لا تزيده هذه الهوايات عزلة عن الآخرين، لأن العزلة أمر مرفوض حتى ولو كان يعاني منهم، لذا يجب تدريبه وتعويده على الاختلاط، وعلى أن يكون ذلك تحت إشرافك غير المحسوس.

قد تتساءلين: ماذا لو بدرت من أحد هؤلاء الأطفال سواء كانوا من الأقارب أو الجيران كلمة أو عبارة جارحة؟ كيف أتصرف؟ وأقول لك إن هذا وارد بالطبع، فإذا ما حدث يمكن أن تشاركيه وجدانيا، لكن ليس إلى حد تحويل الأمر إلى مأساة. احكي له أو ضعي تحت متناول يده قصصا لهؤلاء العباقرة الذين كانوا يعانون مثله واستطاعوا أن يتجاوزوا محنتهم بالعلم والصبر وفرضوا احترامهم ومجدهم ليس على أفراد مجتمعاتهم وحسب بل وبين أفراد الأسرة الإنسانية في العالم كله.

هل يذهب إلى المدرسة؟

ولم لا؟ إذا وجدت مدرسة قريبة من البيت، ولا يشكل ذهابه إليها أي عبء، وكانت بها فصول خاصة لمن هم في مثل حالته فسيكون ذلك أفضل بالنسبة إليه، أما إذا كانت الظروف لا تساعد، وكانت عاهته ظاهرة وتعرضه لتعليقات ونظرات الغرباء، فالأفضل طبعا أن تأتي بالمدرسين إليه في البيت، وأن تعرضيه عن انعدام حركته بتنظيم رحلات أسبوعية يقوم بها مع إخوته وأبناء الأقارب أو الجيران الذين يقتربون منه في العمر. دعيه يشاركهم ألعابهم وأفكارهم دون تدخل بدعوى حمايته. وبثي داخله دائما الشعور بالندية ودعيه يدرك أنه قد لا يستطيع أن يلعب دور البطولة في مسرحية ما لكنه يستطيع أن ينظم ميزانيتها أو يصمم لها الديكور أو الملابس، وثقي أنه من خلال هذا الأسلوب التربوي الإيجابي سيدرك من تلقاء نفسه أن ثمة مناطق في العقل وفي النفس يمكن كشفها دون الحاجة إلى تحريك قدميه أو ذراعيه، وأنه يستطيع بإرادته أن يتجاوز ظروفه وينطلق في حياته.

البعض يعتقد أن الطفل المصاب بالشلل المخي يصنف ضمن فئة ضعاف العقول، وبالتالي لا فائدة ترجى منه ولا جدوى من تعليمه أي شيء، وكان الأهل - قديما - يبعدونهم عن الأنظار، كما لو كانوا فضيحة لا ينبغي أن يدري بوجودها أي إنسان خارج محيط الأسرة، بل إن البعض مازالوا - حتى الآن - مع الأسف يلقون بهم في مؤسسات خاصة وينفضون أيديهم وذاكرتهم منهم إلى الأبد، مع أن العلم استطاع الآن أن يصل إلى طبيعة هذا المرض، وابتكرت وسائل. عديدة لتعليم وتدريب هؤلاء الأطفال المعاقين كيفية المشي، والتحدث، والحركة، وبدأت الغالبية تقتنع بأنه مرض من أمراض الجهاز العصبي.

والشلل المخي لا يورث، بل إنه في 30% من الحالات يكون نتيجة نمو خاطئ في مخ الطفل وهو جنين، أو خطأ أثناء مولده كنتيجة لإحدى العمليات الآلية المعقدة أو بسبب مرض يصاب به بعد مولده بأسابيع، وقد يكون تلف المخ شاملا أو جزئيا، وبالذات تلك التي تقوم بعمليات التفكير، أما ال 70% الآخرون فإن الجزء المفكر في المخ يكون سليما. وهو عندما يتحدث بصوت غليظ أو يؤدي حركات لا معنى لها أو يسيل لعابه فإن ذلك دليل على عجزه عن تحكمه في عضلاته وحدها، لكن لا ينبغي الحكم عليه بنقص الذكاء أو انعدامه إلا إذا قرر الأطباء ذلك صراحة.

 

زينب الكردي







المعاق يحتاج إلى رعاية الأسرة