واحة العربي

واحة العربي

البغل
صفات حرجة وطهارة لا حيلة فيها

لا بد من توفير حسن النوايا أثناء قراءة هذا الموضوع, فالبغل ـ ومثله كل ما يدور في الكون من حالات وعناصر ـ من مخلوقات الله, وهو ما نرتكن إليه كي نضع البغل في موقعه الإيجابي الذي يستحقه بدلاً من نفيه خارج الاهتمام, ويكفي البغل فخراً أنه فاق الخيول ـ (ذات الشهامة المتألقة), والإبل ـ (ذات الصبر الراسخ), والحمير ـ (ذات الامتثال والخنوع) في اختراق الفلوات والجبال والأنهار ليحمل الكتب والزاد إلى هؤلاء المنقطعين ـ للإيمان والعلم ـ بعيدا عن ضجيج الناس, وقد قام البغل ـ مبكراً ـ بجهد فائق في حل ما رآه علماء الوراثة المعاصرون أنه معضلة: من الذي يؤثر في نوع الجنين, الذكر أم الأنثى?? وظهرت أبحاث عديدة متوالية تراقصت جائزة (نوبل) العالمية في ميدانها حول الخلايا الحية وتركيباتها وصولاً إلى نتيجة قام البغل بتحقيقها منذ ملايين السنين, إذ يقول الدميري في كتابه الشهير (حياة الحيوان): فإذا كان الذكر حماراً كان البغل المولود شديد الشبه بالفرس, وإذا كان الذكر فرساً كان شديد الشبه بالحمار, ليصبح مناسباً أن نشير هنا إلى أنه (ابن أمه), والمعلومة بدائية ـ يجهلها كثيرون من أبناء العصر الحديث ـ فالبغل (عقيم لا يولد له), ولانتفاء الذكورة والأنوثة منه حاقت به قوانين العقاب في السب وصفاً لأعدائنا والمناوئين لنا, وخصوصاً عندنا نحن الشرقيين ـ عرباً وغير عرب ـ الذين نفخر بالخصوبة بجانبيها الذكوري والأنوثي, حتى أن طالباً للعلم من بلاد البنغال احتج على بحث زميل له زعم أن لفظ (البنغال) جاء نتيجة لما اشتهر فيها من القدرة الفذة للبغال على صعود جبالها (قسم من الهملايا الهندية) حاملة ما يحتاج إليه المقيمون أعاليها من زاد واحتياجات, وهو افتعال لغوي وقع في صوتيات اللغة دون معناها.

وعموم الناس ـ في أقطارنا ـ لا يقتنون البغال, إنما هي شريحة واحدة ـ دون الفلاحين والبدو ـ تلك التي تعرف لهذا النوع من الحيوانات قدرها: أصحاب عربات الشحن (الكارو) وتجار الحبوب والأقمشة قبل أن تنتشر محلات بيعها في كثير من المواقع, وقبل أن تتفشى استخدامات السيارات بأنواعها, لاحظ أن البغل ـ الآن ـ دخل في دائرة الاندثار, بل بدأت الحمير والخيول والجمال تحس بما جرى للبغل تمهيداً للمصير المتوقع لها خلال السنوات القادمة بجراراتها الآلية فاقدة الإحساس والمشاعر.

لكن البغل لايزال مشاركاً للحمار وصفاً للغباء في فصول المدارس وساحات التعليم وإهانات الكبار للصغار في المطاعم والورش ومواقع التشغيل والبناء والمحاجر والمواني والحقول, لكن البغل ـ دون الحمار ـ ينفرد بالتسلل غير المعلن بين سطور تحليل بعض التصرفات السياسية, وحيثيات أحكام انفصال الأزواج, والقدرة على التحمل دون مناقشة, وعجز الفرد عن اكتساب خبرات جديدة (الجمود), وبؤس العواطف, وفقدان اللماحية (الذكاء السريع), والخوض فيما يجب عدم الخوض فيه, وارتفاع الهمة والقدرة النشطة دون أن تمتزج بالتذوق, وأي جمل أو حصان أو حمار سوف يجد من صاحبه ـ أثناء السفر ـ صوتاً شعرياً غنائياً نشوان يصنع إيقاعا يربطهما معاً: إلا البغل الذي تستوي عنده كل الأمور, يخترق جداول الماء ويقفز فوق القنوات (الجمل لا يمكنه ذلك), وأكوام الرمال والحصا والتراب (الحمار لا يمكنه ذلك), ولا ينشغل بعذاب حارق للزوجة والأنجال (الحصان ـ ونحن ـ لا يمكننا ذلك), ولا يكافح طويلاً كي يعود إلى بيت صاحبه: الدار أو الوطن (كثير من السياسيين لا يهتمون بذلك).

وقد نتج عن عدم انتباه البغل لحقوقه أن امتلأت الكتب بالنوادر, والشوارع بالنكات, وجلسات السهر الرخيص ـ والغالي أيضا ـ بالتعليقات التي تجر البغل من أذنيه, والتي تسبغ على البغل ما يظلمه ويجور على تكوينه الذي اختصره عمرو بن العاص في واقعة جاءت في كتاب (الكامل للمبرد), حينما نظر أحدهم إلى ابن العاص وهو على بغلة قد شمط وجهها هرقاً (أي ذات وجه عجوز ذي غضون قديمة), فقال له: أتركب هذه وأنت على أكرم باحرة??!!

والباحرة ـ بالحاء لا الخاء ـ جاءت من البحر صفة للفرس واسعة الجري مزجاً مع الناقة فائقة التحمل), فقال عمرو بن العاص: إنه لا ملل عندي لدابتي ما حملت رجلي, ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي, ولا لصديق ما حفظ سري: إن الملل من كواذب الأخلاق, وهو ما استند إليه واحد من القضاة المصريين ـ في الستينيات ـ حينما رفض دعوى طلاق بين زوجين لم تتح لهما فرصة إنجاب لكنهما أقرا بحسن العشرة, وذلك هو المدخل الجميل الذي يمكن لي أن أتمنى أن يصعده البغل من بين الوديان وعربات الجر وخشونة الجبال, ليصبح رمزاً عصرياً لكثير من تصرفاتنا ذات النبل والطهارة, لقد حظي بذلك الحمار: شعار الحزب الجمهوري أو الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية, عذرا فقد عجزت عن التحديد الدقيق ـ والضروري ـ بين الحزبين أثناء استغراقي في كتابة هذا الموضوع.

 

محمد مستجاب