مساحة ود

مساحة ود

قهوة مالحة!

لا أحبها إلا وحدها! مكتفية بذاتها ولذعتها. أحبها من دون هيل، أو جوزة الطيب، أو الشوكولاتة، أو البندق. ولا أطيقها بسكر أو حليب. أحبها خالصة إلا منها. فكيف أستسيغها مالحة كماء البحر؟! هذا أنا، ولكن الدنيا عجيبة غريبة، وأعجب من طعم القهوة بالملح، فهناك من شربها مالحة أربعين عاماً. وهناك من شربتها بقية عمرها لذكرى حبيب غاب.

في أول لقاء بينهما في مطعم صغير، تلعثم وذاب خجلاً، عندما جاءت عينه في بحر عينها، ومن فرط ارتباكه نادى النادل طالباً ملحاً لفنجان قهوته. وحين استغربت أمره: هل حقاً تشرب القهوة بالملح؟! فقال بعد أن «بلع ريقه»: إن طفولته كانت جوار البحر، وإن القهوة المالحة تذكره بطفولته، وتستحضر والديه اللذين فارقا الدنيا. فامتلأت عيناها بالدموع، وأحبت وفاءه.

وليس كل حب يفسده الزواج!، فقد تزوج الحبيبان، وعاشا عاشقين أربعة عقود، وصار لهما أبناء تزوجوا وطاروا إلى بيوتهم، وطول هذه الفترة ظلت «العروس» تضيف لحبيبها شيئاً من الملح في فنجانه، وظل يشرب قهوته متلذذا في كل مرة.

بعدما توفي وجدت منه رسالة صغيرة: سامحيني حبيبتي، لقد كذبت عليك مرة واحدة فقط في حياتي. ففي أول لقاء بيننا كنت مرتبكاً وحين أردت طلب سكر لقهوتي أخطأت، وقلت للنادل أريد ملحاً لقهوتي بدل السكر. وخجلت من العدول عن كلامي. وأردت إخبارك الحقيقة بعد هذه الحادثة، لكني خفت أن تظني أنني بحار في الكذب! فقررت ألا أكذب عليك أبدا مرة أخرى.

وأعترف بأنني لا أحب القهوة المالحة، فطعمها غريب لا يستساغ، ولا يطاق، ولكني شربت القهوة المالحة، لأن وجودك معي يطغى على أي شيء آخر في الكون، ولو أن لي حياة أخرى لعشتها معك، حتى لو اضطررت أن أشرب السكر مالحاً.

ومن أجل ذكرى العاشق الغائب، صارت العجوز لا تشرب قهوتها إلا مالحة، وكلما سألها ولد أو حفيد مستغرباً كيف تستسيغين هذا؟! كانت تطير دمعتها وتقول: إن للقهوة المالحة مذاقاً أحلى من العسل. لها مذاق الحب، وذكرى العمر. فهل ظل هناك من يشرب شاياً بالكسبرة مثلاً، أو حليباً بالليمون، أو زنجبيلاً بالمشمش، أو قهوة بالملح من أجل حبيب لعثمه الخجل مرة واحدة? فعظيم هو الحب، يجعل للأشياء مذاقاً آخر.
----------------------------------
* كاتب من الأردن.

 

 

رمزي الغزوي*