اللغة حياة: بين الفِتنة والهَضم

اللغة حياة: بين الفِتنة والهَضم

تقدّم طالب إلى امتحان النحو، وكان في اللجنة الفاحصة أحد أقربائه، فطُلب إليه أن يأتي بمَثَلٍ على مصدر الهيئة، فارتبك؛ فقال له قريبه: كم مرّة أخبرتَني أنّ مصدر الهيئة يكون على وزن فِعْلة؟ فسكت. فتابع قريبه: وأنّ من الأمثلة عليه حالة وصفها القرآن بأنّها أشدّ من القتل، وتوعّد الكذّابين بأن يذوقوها، وأوّلُ حرف منها هو: فِ. فصاح المرشح مبتهجاً: فِجْلة.

وبعد أن ضحك أعضاء اللجنة، وصرفوا الطالب داعين له بالصحّة وحسن الهضم، تصفّح القريب معجماً بجواره، ثمّ فاجأ اللجنة بقوله: لقد أحسنَ هذا الطالب الجواب وأخطأ النيّة؛ فالبقلة المعروفة يقال لها الفُجلة، بضمّ الفاء وليس بكسرها، أمّا الفِجلة بالكسر، فهي بمقتضى القياس، مصدر هيئة من فِعل فَجَلَ يَفْجُلُ، ومعناه: استرخى وغَلُظَ! فردّ عليه أحد الأعضاء: لو كان لقريبك قدرتك على الاستقصاء لما تجشّأ علينا بمثل ذلك الجواب.

والواقع أنّ كلام الممتحِن القريب يستثير قضيّتين: صحة نسبة الفِتنة والفِجلة إلى مصدر الهيئة، وحركة الفاء في اسم الفجل.

1 - فأمّا الفتنة فليست مصدر هيئة، خلافاً لزعم ذلك القريب، مثلها مثل الخِبرة والمِحْنة والبِدعة وأشباهها؛ كما أنّ فعل فَجَل يفجُل مذكور باختصار شديد في بعض المعاجم، متروك في بعضها الآخر، ولاسيّما معجمي العين والصحاح، ولم تأت المعاجم بشاهد عليه، ولم نجده في الاستعمال، بل اكتفى معجم الصحاح بشاهد على كلمة قريبة منه هي: الفَنْجَلى، وتعني مِشية كمشية الشيخ، لكنّ الشاهد بيتٌ لشاعر مجهول، وإن كان من شعراء الأصمعيّات، واسمه صخر أو صُخير أو صُحير بن عمير؛ ويزعم بعضهم أنّ البيت للأصمعيّ نفسه، وهذا لا يجعل البيت وحده محلّ شكّ، بل يجعل كلَّ ما روي في الأصمعيّات كذلك. وعن معجم الصحاح أخذتْ ذلك الشاهدَ معاجم أخرى. والطريف أنّهم يذكرون صفة من الجذر نفسه هي أفْجَلُ، ومعناها: متباعِد الساقين. والفرق كبير بين الاسترخاء والغلظ، وبين تباعُد الساقين. وهي صفة لم يؤيّدوا وجودها بأيّ شاهد، ونحن لم نظفر لها بشاهد في كلّ ما بين أيدينا من مصادر، ولاسيّما في الحديث النبوي الشريف. ونرجّح أنّ هذه الصفة، في حال وجودها، هي قلب للفظة تُرادِفها هي أفْلَج. والنتيجة أن فعل فَجَلَ المزعوم متوهّم، على الأرجح، فلا يؤخذ منه مصدر هيئة، وليس الفُجْل مشتقّاً منه كما زعم ابن دريد.

2 - وأمّا ضمّة الفاء في فُجْل، فالشاهد الوحيد عليها الذي ذكرته المعاجم، منسوب في معجم العين إلى شاعر مجهول يسمى مجهِّز السفينة. والكلمة لم ترد في النصوص القديمة، في ما نعلم، ولاسيّما في القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف، وأقدم النصوص التي تتضمّنها، والتي ظفرنا بها، عدا ما نُسب إلى ذلك الشاعر المجهول، تعود إلى العصر العبّاسيّ. والظاهر أنّ العرب الأوائل لم يعرفوا هذه البقلة القادمة، على الأرجح، من شرقيّ آسيا: الصين واليابان وجوارهما. ويغلب على ظنّنا أنّ اسمها معرّب، وإن كنّا لا نعرف الأصل الذي يمكن أن يكون العرب قد اقتبسوا منه. وقد أكّد ابن دُرَيْد أنّ اللفظ ليس بعربيّ صحيح، مع زعمه اشتقاقه من فَجَلَ. واللافت أنّ كثيراً جدّاً من العرب اليوم، وربّما أكثرهم، يقول فِجْل وفِجْلة بكسر الفاء. ويشير صاحب تاج العروس، منذ أكثر من قرنين، إلى شيوع الكسر، وينسبه إلى العامّة. لكن من الصعب أن يجتمع أكثر العرب اليوم، وربّما منذ ما يفوق المئتي عام بكثير، على صيغة لا أصل لها، بل يرجح أن تكون تلك الصيغة من الاستعمالات التي لم تسجّلها المعاجم.

هذا ومن الصعوبة بمكان الظفر بشواهد على استعمال كلمة فجل أو فجلة في غير المعاجم وكتب الأطعمة. وقد وجدنا ثلاثة أبيات شعريّة تتضمّنها، إمّا للدعابة أو للهجاء، ووجدنا مَثَلاً مزعوماً، ونصَّيْن نثريّين. فأمّا الأبيات فأحدها في كتاب الأغاني لأبي الفرج الإصفهانيّ (ج: 23) ضمن بيتين للشاعر العباسيّ عبد الله بن محمّد البوّاب الذي عاش في القرنين الهجريّين الثاني والثالث، وهو غير ابن البواب الخطّاط، ويقول:

هَضَمَ اليَوْمَ حُبُّكُمْ كُلَّ حُبٍّ
في فُؤادي، فَصارَ حُبُّكِ فُجْلُ
أَنْتِ رَيْحانَةٌ وَراحٌ ولـكِنْ
كُلُّ أُنْثى سِـواكِ خَلٌّ وَبَقْلُ

والبيت الثاني في المصدر نفسه (ج: 20) من قصيدة للشاعر العباسيّ أبي عُيَيْنة المُهَلَّبيّ، المعاصر لابن البوّاب، يهجو بها أخاً له، يقول:

وتُصْبِحُ تَقْلِسُ عَنْ تُخْمَةٍ
كَأَنَّ جُشاءَكَ عَنْ فُجْلَهْ

أي تُصبِح وطعامُك يَرجع إلى حلقك أو فمك بسبب التخمة.

وأمّا البيت الثالث فهو من رجز منسوب في كتاب العين لمجهِّز السفينة، ويقول:

أَشْبَهُ شَيءٍ بِجُشاءِ الفُجْلِ
ثِقْلاً على ثِقْلٍ، وأَيَّ ثِقْلِ

وواضح أنّه من أبيات العلماء المتكلّفة، وليس لشاعر مطبوع، ولا نستبعد أن يكون مخترعاً لتأييد الشرح اللغويّ.

وفي النثر أورد الميدانيّ في مجمعه مثلاً نسبه إلى المولَّدين، أي العبّاسيين، وهو: «ليتَ الفُجْلَ يَهضِمُ نَفْسَه»، ولم يشرح معناه، ونحن لا نجد له معنى، فضلاً عن أنّنا لم نظفر به في مرجع آخر. كما أورد صاحب العِقد نصّاً يتحدّث عن السيوف وفيه: «فدعا هارون بالصَّمْصامة، وهو سيف عَمْرو بن مَعْدِيكرب، فقُطعت السيوفُ بين يديه سيفاً سيفاً، كما يُقَطّ الفُجْلُ، من غير أن تنثني له شفرة». وفي تاريخ بغداد أنّ إبراهيم بن إسحاق الحربيّ (198- 285 هـ) قال :«فإن عندي فُجْلة قد أَكلتُ البارحةَ خَضْرها، أقومُ أتغذّى بجزْرتها».

ومن ناحية أخرى، فقد تكلّم ابن عبد ربّه، مثلاً، مراراً على الفجل في باب الطعام والشراب (العِقد، ج 6) فوصفه بالغليظ في نفسه اللطيف لغيره، وبالحارّ الذي يُحتاج إليه أيّام البرد، وبقلّة غذائه، وبأنّه ربّما زاد في الصفراء أو السوداء، وبأنّه يجلو المعدة ويفتح السدد ويقطع ويلطّف الكَيْموس الغليظ (من خِمُسْ اليونانيّة، أي عُصارة الطعام في الأمعاء)، وينصح بعدم أكله في أبريل (نيسان).

إن هذا الجدل يعيدنا إلى موضوعي السماع والقياس:

أ - فالعرب يختلفون في لفظ الكلمات المعرّبة، مثل كلمة فجل، لأنّ سماعهم أو قراءتهم لأصلها مختلف، غالباً.

ب - والقياس ليس عملاً آليّاً، ومصدر الهيئة بالذات ليس قياسيّاً، وإخراجه من أبواب الصرف ممّا يُقلّ من أثقالها المصطنعة. فقد بيّنا في مقالة سابقة أنّ الكلمات التي تدلّ على الهيئة في ما وزنه فِعْلة تُعدّ بالعشرات، على حين أنّ سائر الكلمات التي على الوزن نفسه ولا تدلّ على الهيئة تُعدّ بالمئات، وربّما بالآلاف، الأمر الذي يجعل الدلالة على الهيئة استثنائيّاً.
------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

 

مصطفى علي الجوزو*