جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

في تعدية الفعل بالباء
من الأساليب الشائعة الآن على ألسنة الكتاب والأدباء وأقلامهم قولهم: قبلتُ بالرأي بدلا من: قبلتُ الرأي، وقولهم: لا يسعني القبول بهذا الرأي، بدلا من قولهم: لا يسعني قبول هذا الرأي.

وهو أسلوب يعترض عليه بعض علماء اللغة، ويحكمون بخطئه، ويرون أن التعدية بالباء غير مسموعة وأن استخدامها للتعدية ليس بقياس.

وقد ناقشت لجنة الأصول في مجمع اللغة العربية هذا التعبير منذ سنوات خلت، في مناسبة قول بعض الكتاب "بعثت الدولة برجالها السياسيين" و"بعث الرجل إلى صديقه هدية"، وكان الملاحظ أن التعبير الأول وردت فيه "بعث" متعدية بالباء، وأن التعبير الآخر وردت فيه متعدية بنفسها. وكان الرأي أن الصواب أن يقال: "بعثت الدولة رجالها السياسيين" بتعدية "بعث" هنا بنفسها، وأن يقال: "بعث الرجل بهدية" بالتعدية في هذا الموضع بالباء، واحتجوا لذلك بما جاء في "المصباح" من قوله: كل شيء ينبعث بنفسه فإن الفعل يتعدى بنفسه، فيقال: بعثه، وكل شيء لا ينبعث بنفسه كالكتاب والهدية فإن الفعل يتعدى إليه بالباء، فيقال: بعثت ب. وأوجز الفارابي فقال: بعث إليه، وبعث ب: وجهه. وانتهت اللجنة إلى أن قول "الفارابي" المحتج به يتبين منه جواز "بعثت الدولة برجالها" أي وجهتهم، وعلى هذا فكلا التعبيرين صحيح.

وقد أقر مجلس المجمع ذلك في جلسته الثامنة من دورته الرابعة والعشرين.

وقد عرض بعض علماء اللغة لموضوع "التعدية" فقال إن الأفعال المتعدية الدالة على حركة ودفع معا، تتعدى بحرف الجر: الباء، وضرب لذلك الأمثلة العشرة الآتية: أدى - دفع - رمى - حذف - ألقى - أحال - طوح - أذاع - أهوى - أدلى. وكلها مما يتعدى بنفسه وبالباء على السواء.

وعندما نبحث فيما أثبتته المعجمات - بالنسبة لهذا الموضوع - نجد في "الصحاح" "رضيت الشيء" ويقال "رضي به صاحبا" وربط قالوا: "رضي عليه" في معنى "رضي به " و"رضي عنه".

وفي فعل "سمع" تقول اللغة: سمع الصوت، وسمع به، وفعله رياء وسمعة: أي ليراه الناس ويسمعوا به. وفي فعل "حل" تقول اللغة: حللت بالبلد، إذا نزلت به، ويتعدى بنفسه، فيقال: حللت البلد. وفي فعل "ذاع" تقول اللغة: أذاعه، وأذاع به. وفي القرآن الكريم: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به.

وفي فعل "يقين" تقول اللغة: أيقن الشيء، وأيقن به. وفي فعل "علم" تقول اللغة: علم الشيء، وعلم به. وفي فعل "قال" تقول اللغة: قال قولا: تكلم: وقال بقول: رآه رأيا.

وفي فعل "أخذ" تقول اللغة: أخذ الشيء: حازه وحصله، وأخذ به، أمسكه، وفي القرآن الكريم، وأخذ برأس أخيه.

وفي فعل "صدق" تقول اللغة: صدق القول، وصدق به، وفي القرآن الكريم: قد صدقت الرؤيا. وفيه أيضا: وصدقت بكلمات ربها.

ونعود إلى الفعل "قبل" لنرى كيف فسره أهل اللغة، يقولون: قبلت القول، صدقته، ويقال: قبلت الخبر، صدقته. وقد رأينا أن الفعل "صدق" يتعدى بنفسه وبالباء وبهما جاء القرآن الكريم، فمن الطبيعي إذن أن يعامل الفعل "قبل" معاملة رديفة وهو "صدق".

ولو مضينا في البحث والاستقراء لمزيد من الأفعال لضاق بنا المجال، وحسبنا أن نذكر هذه الأمثلة التي جرى بها الاستعمال.

عرف الشيء، وعرف به، ومنه، العارف بالله. وسلم الحكم: رضيه، وكذلك سلم به.

ونزل المنزل: كنزل به.

وسكن الدار: كسكن بها، وسكن فيها.

أرسلت فلانا أو الصحيفة، وأرسلت به أو بها. وأمثال هذه الأفعال كثير.

هكذا يتضح بجلاء أن من بين سمات جمال العربية، وتيسيرها على الألسنة والأقلام أن الفعل فيها يتعدى بنفسه وبالباء. وأنه في ضوء هذا يصبح صحيحا وفصيحا، يأنس به كاتب من قوله: قبلت بالرأي وقبلت بالأمر، إما على تضمين الفعل معنى لفظ يرادفه ما يسمع فيه التعدي بالباء، كأن يقال: إن "قبل به" متضمن معنى: رضي به، أو أخذ به، أو قنع به أو اطمأن به. وإما بحمل هذا الفعل على نظائره التي تتعدى بنفسها وبالباء معا. والأمثلة كثيرة فيما هو مسموع منصوص عليه في أمهات كتب اللغة، وفيما أثبتته المعجمات.

بيني وبين ابن عمي
للشاعر الجاهلي: ذي الإصبع العدواني

القصيدة من عيون الشعر العربي، وصاحبها هو ذو الإصبع العدواني الشاعر الجاهلي القديم، يقال إنه سمي بهذا الاسم لأن أفعى نهشت إبهام رجله. فقطعها، فسمي ذا الإصبع، أما اسمه الأصلي فهو حرثان بين محرث بن شباث.

كما يروى عنه أنه كان فارسا مذكورا وحكيما تحتكم إليه العرب، وأن كنيته أبوعدوان، وله غارات مشهورة ووقائع كثيرة.

وفي قصيدته النونية التي عنى بها كتاب "الروائع من الأدب العربي" في مجلده الأول عن الشعر الجاهلي، تتجلى قسماته بشاعريته ولغته الطيعة، وقدرته على التصوير، والإضافة في شرح موقفه مع ابن عمه والفخر بنفسه وبقومه ومدى حرصه على التمسك بأواصر القربى، مازجا بين الفخر والتحدي، وعفة اللسان والحكمة، والإشادة بشجاعة قومه والسخط على الأعداء. وبعد أن يقدم لقصيدته بحديث غزلي محوره حبيبته "ريا" وقلبه المهموم المحزون على عادة الشعراء الجاهليين في بدء قصائدهم بالغزل والنسيب، يقول ذو الإصبع العدواني:

يا من لقلب طويل الهم محزون

أمسى تذكر "ريا" أم هارون

أمسى تذكرها من بعد ما شحطت

والدهر ذو غلظة حينا وذو لين

فإن يكن حبها أضحى لنا شجنا

وأصبح الوأي منها لا يواتيني

فقد غنينا وشمل الدار يجمعنا

أطيع "ريا" و"ريا" لا تعاصيني

نرمي الوشاة فلا نخطي مقاتلهم

بصادق من صفاء الود مكنون

ولي ابن عم على ما كان من خلق

مختلفان، فأقليه ويقليني

أزرى بنا أننا شالت نعامتنا

فخالني دونه بل خلته دوني

يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي

أضربك حيث تقول الهامة اسقوني

لاه ابن عمك، لا أفضلت في حسب

عني، ولا أنت دياني فتحزوني

ولا تقوت عيالي يوم مسغبة

ولا بنفسك في العزاء تكفيني

فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي

فإن ذلك مما ليس يشجيني

ولا يرى في غير الصبر منقصة

وما سواه فإن الله يكفيني

لولا أواصر قربى لست تحفظها

ورهبة الله في مولي يعاديني

إذن بريتك بريا لا انجبار له

إني رأيتك لا تنفك تبريني

إني لعمرك ما بابي بذي غلق

على الصديق، ولا خيري بممنون

عف يؤوس إذا ما خفت من بلد

هونا، فلست بوقاف على الهون

ولا لساني على الأدنى بمنطلق

بالفاحشات، ولا فتكي بمأمون

لي ابن عم لو أن الناس في كبد

لظل محتجزا بالنبل يرميني

إني أبيُّ أبيُّ ذو محافظة

وابن أبيُّ أبيُّ من أبيين

وأنتمو معشر زيد على مائة

فأجمعوا أمركم كلا فكيدوني

فإن عرفتم سبيل الرشد فانطلقوا

وإن جهلتم سبيل الرشد فأتوني

ماذا علي وإن كنتم ذوي كرم

ألا أحبكو إن لم تحبوني؟

الله يعلمكم والله يعلمني

والله يجزيكمو عني ويجزيني

الله يعلم أني لا أحبكمو

ولا ألومكمو ألا تحبوني

لو تشربون دمي لم يرو شاربكم

ولا دماؤكمو جمعا ترويني

قد كنت أوليكمو مالي، وأمنحكم

ودي، على مثبت في الصدر مكنون

لا يخرج الكره مني غير مأبية

ولا ألين لمن لا ينبغي ليني

يا عمرو لو كنت لي ألفيتني يسرا

سمحا كريما أجازي من يجازيني

 

فاروق شوشة