المفكرة الثقافية
- معرض: فلورنسا تحتضن الفن الكويتي
من مدينة مايكل أنجلو، ودوناتيلو، ودانتي، من مدينة الفن والعشاق، فلورنسا التي لطالما كانت شاهدا حيا على عصر النهضة الأوربية في القرن الـ 19 بأقواسها المزخرفة وقصورها العظيمة الفخمة وشوارعها الضيقة التي تحتفظ جدرانها وأسوارها بروائع الفن التشكيلي.
انطلقت فعاليات المعرض الثاني للفنون والتصوير والموسيقى الكويتية التراثية، تحت عنوان «الكويت في فلورنسا عبق وأنغام وتقاليد من الخليج»، بمبادرة من جمعية الصداقة الإيطالية - الكويتية وبالتعاون مع إدارة الإعلام الخارجي بوزارة الإعلام الكويتية. جاء المعرض بمناسبة ذكرى مرور 50 عاما على استقلال الكويت و20 عاما على التحرير و5 سنوات على تولي حضرة صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد مقاليد الحكم. افتتح المعرض في ساحة «سانتا ماريا نوفيللا» بمدينة فلورنسا الإيطالية والتي تعد أحد أهم معالم بواكير عصر النهضة الأوربية، نصبت خيمة كبيرة تفرد كل جناح فيها بأعمال فنية من صميم البيئة الكويتية القديمة والمعاصرة. احتضن أحد الأجنحة أعمال الخطاط وليد الفرهود، وهو من أكثر الخطاطين نشاطا في منطقة الخليج، واشتهر بإتقانه لجماليات الحرف العربي، وقد حظي بإعجاب الزوار، خاصة من أرادوا تجربة رسم الخطوط العربية أمامهم. وتعرف الزوار على ماضي الكويت ونهضة حاضرها العمرانية من خلال الصور الفوتوغرافية التي التقطتها عدسة المصور ناصر الصالح.
وبمشاركة «ديوان القلاليف» جسد عدد من الشباب الكويتي أحد أقدم المهن التراثية المتمثلة بصناعة السفن القديمة، وذلك بما قدموه من نماذج ومجسمات متعددة الأحجام للمراكب التقليدية. وعلى هامش فعاليات المعرض تم عرض فيلم تسجيلي يصور لقطات من تاريخ الكويت، إلى جانب مقطوعات موسيقية من التراث الغنائي الشعبي الكويتي والخليجي، التي قدمتها فرقة إذاعة الكويت الموسيقية. وتذوق زوار المعرض الحلوى الكويتية التقليدية، لتكتمل لوحة الكويت في عيون فلورنسا خطا وصورا ولحنا ومذاقا.
هذايل الحوقل
- ندوة: وقفة جديدة مع «ألف ليلة وليلة»
أسهمت مؤخرا في الإعداد لندوة موسعة، عقدتها على امتداد ثلاثة أيام لجنة الكتاب والنشر بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر، تحت عنوان «ألف ليلة وليلة أنموذجا للتراث بين الحفاظ عليه والعبث به»، رأسها الدكتور شعبان خليفة، مقرر هذه اللجنة، واشترك فيها عدد من المهتمين بقضايا الفكر، والتراث، والأدب المقارن، والدراما التليفزيونية، والمسرح، والنشر، كان في مقدمتهم رائد الدراسات الألمانية في عالمنا العربي الدكتور مصطفى ماهر الذي اختار لورقته عنوانا، وهو «ألف ليلة وليلة.. كتاب عربي مفتوح اكتمل في قلب الثقافة الإنسانية».
وفيها يرى أن كتاب «ألف ليلة وليلة» - باعتباره عملا فنيا إبداعيا- استهدف منذ نشأته الانتماء إلى الثقافة الإنسانية الشاملة للمعمورة كلها, التي احتضنتها ثقافتنا العربية الإسلامية المؤمنة بعمران الكون في صورة دائرة تعلو فوق اختلاف الألسن وتنوع الأشكال وتحيط بدوائر أخرى تتفاعل معها على مستويات تمس في بدايتها- بعد مجالات الأدب وفنونه- دائرة الفرد المبدع، التي قد تحدها اللغة ولكنها في استهدافها دائرة الثقافة الإنسانية الشاملة تنتقل بالترجمة وغيرها من وسائط الاستقبال إلى دوائر أوسع وأعلى.
وفي تقديمه لورقته قال الدكتور مصطفى ماهر: ليس من شك في أن كتاب «ألف ليلة وليلة»، الذي أتصور أنه امتاز منذ البداية بميزة البقاء مفتوحا على مدى قرون (ربما إلى القرن السادس عشر الميلادي)، مرحبا بمشاركات مبدعين من ثقافات متنوعة ستروا فرديتهم واندمجوا فيه كعمل خلاب شكلا ومضمونا إلى أن اكتمل في مصر, ثم ثبت اكتماله - بعد أن وصلت نسخه المخطوطة الكاملة أو الناقصة إلى قراء العربية شرقا وغربا - عندما تم طبعه عام 1835 بالقاهرة في المطبعة الأميرية، وقد استقبلته دوائر الثقافة الغربية منذ مطلع القرن الثامن عشر، سالكة في استقباله- علاوة على الترجمات والدراسات- سبلا متعددة تزايدت بتزايد الوسائط ودخلت مجالات الفنون المختلفة وأبدعت من الجديد المتجدد ما دفع أبناء دائرة المنشأ إلى فتح أبواب الجدل من جديد.
ونظرة نقدية مدققة إلى كتاب «ألف ليلة وليلة» تبين أن انتشاره الهائل وتربعه على سدة العالمية ما كانا ليتحققا لو لم تتح لهذا العمل الفني اللغوي الغريب العجيب سمات لخصها الدكتور مصطفى ماهر في أنه يعد عملا فنيا فكريا مفتوحا جاذبا للمشاركات المختلفة التي تمكنت من التجانس الثقافي وقهر النعرات، كما أنه امتاز باستناده إلى ثقافة غنية بالقيم التي تستحق أن يصفها النقاد بأنها بحق قيم الثقافة الإنسانية، فضلا عن براعة الفكرة المحورية المتمثلة في قدرة المرأة على اكتشاف مواهبها المساوية لأندادها من الرجال, وخاصة قدرتها على استغلال جماليات الفن ومقومات الحكمة في التغلب على مشكلات وأخطار تهدد الحياة والثقافة من قبيل الفتن وسفك الدماء والظلم، والتغلب على الحدود الضيقة والتحليق في آفاق الخيال والانطلاق إلى ما يشبه التنبؤ بمستقبل معجزات الحضارة من الطيران ورؤية المجهول والتغلغل في عوالم كائنات من قبيل الخرافة، وتحويل المستحيل إلى ممكن وجعل المخيف ممتعا واستنطاق ما لا ينطق والجرأة في مجابهة القوة الغاشمة، وإعادة النظر في مفاهيم السعادة والمتعة, بل في أسلوب الحياة والمعاملة بين الناس.
شهرزاد وذات الهمة
وتعقد الدكتورة نبيلة إبرهيم، أستاذ الأدب الشعبي، مقارنة بين شهرزاد وذات الهمة، توضح من خلالها أنهما شخصيتان لم تخلقا قط، ولا يعرف أحد زمانا أو مكانا لهما، ومع ذلك فهما شخصيتان آسرتان لكل من قرأهما سواء أكان عربياً أم أجنبيا، فهو سرعان ما يرسم في مخيلته صورة مكتملة لكل منهما.
ويلتقط الشاعر أحمد سويلم الخيط ليتحدث عن استلهامات «ألف ليلة» في الشرق والغرب، مؤكدا أنها تعد من أقوى الأعمدة وأبرزها في تراثنا الشعبي، وبعد انتقالها إلى الغرب غدت زادا ثريا لمبدعيه وناقديه.
بين لوركا ويسري الجندي
أما الناقد المسرحي الدكتور أسامة أبوطالب فقدم دراسة مقارنة في الاستلهام والمسرحة بين نموذجي: «الإسكافية العجيبة» للشاعر الإسباني فيدريكو جارثيا لوركا، و«الإسكافي ملكاً» للكاتب المسرحي المصري يسري الجندي.
وفي الاتجاه نفسه يسير الناقد عبدالغني داود لاستلهام «ألف ليلة وليلة» في المسرح العربي، منذ مارون نقاش، الذي استلهم عام 1850 حكاية النائم واليقظان في مسرحيته «أبو الحسن المغفل وهارون الرشيد»، مرورا بـ«شهر زاد» توفيق الحكيم 1934، ثم «حلاق بغداد» لألفريد فرج، وصولا إلى «علي الزيبق» ليسري الجندي التي قدمها عام 1973.
ثم تناول الناقد حسين عيد استلهام «ألف ليلة وليلة» في القصة والرواية في العالم، مركزا على قصة «حكاية الحالمين» للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، التي ترجمها إلى العربية إبراهيم الخطيب ضمن كتاب «المرايا والمتاهات» الذي صدر عن دار توبقال بالمغرب عام 1987، ورواية «الخيميائي» للكاتب البرازيلي باولو كويلهو، التي صدرت لها أكثر من ترجمة في العالم العربي.
بينما يعرض الدكتور شريف الجيار لأثر «ألف ليلة وليلة» في السرد المصري المعاصر، متخذا من رواية «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ أنموذجًا، قائلا: ظلت نصوص «ألف ليلة وليلة» في طور الشفاهية عصورا طويلة، قبل أن تنتقل إلى الكتابية والتواتر النصي؛ حيث بلورها الحس الشعبي عبر مجموعة من الرواة المجهولين، الذين حوروا وغيروا وحذفوا وأضافوا إلى هذا الخطاب الشفاهي؛ كي يسلوا العامة شفاهة، وفقا لطبيعة العصر، وظروف المجتمع الحضارية؛ إلى أن انتقل إلى طور الكتابية في طبعات اختلفت وتنوعت بتنوع مصادرها، حتى تبلورت في أهم طبعة لهذا الكتاب؛ طبعة بولاق في مصر عام 1835م.
وتعود جذور حكايات «ألف ليلة وليلة» إلى أصول فارسية وهندية، لحقت بها بعد ذلك حكايات عربية بغدادية ومصرية.ويتفق المسعودي صاحب «مروج الذهب» مع ابن النديم صاحب «الفهرست»، في أن أصول الحكايات الشهرزادية تعود إلى كتاب «هزار أفسانة» الفارسي؛ الذي يرجع إلى القرن التاسع عشر الميلادي؛ ويعني «ألف خرافة»؛ وقد ترجم إلى العربية بعنوان «ألف ليلة»؛ غير أن بعض الدارسين اختلفوا حول الأصل الفارسي لبعض هذه القصص، وأرجعوه إلى أصل هندي؛ كقصة شهرزاد الإطارية؛ التي بنيت عليها «ألف ليلة وليلة»، ثم أضيفت إلى هذه الأصول الفارسية الهندية حكايات عربية؛ ما بين بغدادية ومصرية وغيرهما.
وللمستشرق الفرنسي أنطوان جالان يرجع فضل الانطلاقة الأولى لرحلة «ألف ليلة وليلة»، خارج الشرق الأوسط، فقد ترجم ثلث الحكايات المخطوطة التي جلبها من الشرق إلى اللغة الفرنسية فيما بين عامي 1704 و1713م؛ وقد حققت هذه الترجمة شهرة واسعة، بعد أن صاغها جالان وفق المعيار الثقافي الأوربي، في القرن الثامن عشر، في ظل مناخ ثقافي غربي يبحث عن المغايرة الثقافية، ويجابه الكلاسيكية، مفسحا المجال للرومانتيكية، التي وجدها في النص الشهرزادي، في وقت كانت المرأة تحتل فيه مكانة كبيرة، في الحياة الثقافية الأوربية بشكل عام.
المحافظون والإباحية
وفي بحثه يحاكم أحمد حسين الطماوي شهر زاد موضحا أن الليالي العربية التي خلبت الأذهان، وأثارت العواطف شرقا وغربا، جاءت فيها ألفاظ جنسية، ومشاهد إباحية، كانت وراء الانتقادات الشديدة التي وجهها نفر من المحافظين في المجتمع، ودحضها بعض أصحاب الرأي. وعلى الرغم من كل هذا وجدت الليالي من يدافع عنها لأنها من تراث الماضي الذي يجب المحافظة عليه، والإفادة منه.
في حين جاءت ورقة الكاتب عبدالتواب يوسف بعنوان «ألف ليلة وليلة وحكايات الطفولة»، وفيها استعاد ذكرى مشاركته في ندوة التراث الشعبي بجامعة رايت في ولاية ديتون الأمريكية عندما دخل المكتبة هناك ليخرج دافعا عربة محملة بالمئات من كتب الأطفال المستوحاة من «ألف ليلة».
وفي بحثه «من قضايا التراث الإنساني» يوضح الدكتور عاطف العراقي، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، أن لكل أمة تراثها، مشيرا إلى أن العيب ليس في التراث، ولكن في الفهم الخاطئ له، الذي ينبغي أن ننظر إليه نظرة تخلو من المبالغة والتقديس. ويؤكد العراقي على أننا يجب أن نفرق بين طبع التراث، ونشره، وإحيائه.
بين المنع والإتاحة
أما بحث الدكتورة عايدة نصير، أستاذة المكتبات بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، فتناول «التراث الفكري المصري المنشور بين المنع والإتاحة» ودار حول الظروف والملابسات التي صاحبت الإنتاج الفكري المطبوع خلال القرن التاسع عشر، مستعرضا المحطات التي منع فيها، والأسباب التي أدت إلى ذلك.
الباحث والمترجم حسين البنهاوي، المشرف على نشر الأعمال الكاملة الموسوعية بالهيئة المصرية العامة للكتاب، خرج قليلا عن الموضوع الرئيسي للندوة ليتناول في أحد بحثيه الأسطورة اللمحة الإنسانية الأولى للكون وأثرها على الفكر الإنساني اللاحق، وفي الآخر يتعرض لدور الاستشراق في الحفاظ على التراث العربي، متخذا من كتاب «السير الكبير» للإمام محمد بن الحسن الشيباني أنموذجا.
القاهرة: مصطفى عبدالله
- فن: نحّات يحوّل الفخاريات إلى منحوتات ناطقة
تعدّدت أوجه النحت في هذه الأيام، كلٌ ينحت وفق أزميله الخاص، وفيما ترجّح كفّة النحت ناحية أزميل السياسة، يصوّب النحات سعيد هواش أزميله إلى حجر التاريخ، ينحته ويصقل به رؤيته لمنحوتاتٍ، غالباً ما تحمل مضامين ذات مغزى وطني، تاريخي، تنتمي إلى روحية ذاك النحات الفلسطيني الهوية.
والنحت لدى هواش، هو كتلة متنوّعة من الصور الهادفة، إذ لا يكفي أن نحمل أزميلاً ونطرق به الصخر، بل يفترض أن نحمل اللوحة التي نريد أن نجسّدها في فكرنا، وأن تكون ذات مغزى، كي تخرج تحفة إبداعية»، هذا ما يكرّره هواش وهو يغازل أزميله ومطرقته، فيجسّدان سيمفونية يؤلف عبرها ألحاناً نحتية خارجة عن مألوفها، فتحاكي تارة الأمومة، وطوراً تشعل فتيل العروبة، وفي كثير منها تعانق كأسي الحياة المرّة والحلوة، «نَحتُ الأمومة التي تعبت من الترحال، والمرأة المثالية ذات الوجه الجميل والآخر الفاني».
انطلق هواش في نحته منذ الصغر عندما «كان يراقب والده أثناء نحته الحجر والخشب، ويقلّده»، ولكنه ارتأى أن يمتهن هذا الفن فدرسه، ويقول: اخترت النحت الفرعوني لتفرّده لأنّنا نحتاج إلى نحت جديد، ينحت التعابير الجمالية للصخور، فالحجر يكون دون قيمة مرمياً، وحين أمسكه أتخيّل شكله،أسمعه يقول: «انحتني هكذا».
لقد تحول الحجر إلى جزء من حياة هواش و«أصبح صديقي، أمضي في حضرته معظم وقتي، يخاطبني وأخاطبه بلغته، الأزميل والمطرقة، فهما هويتي»، لأنه بحسب ما يشير «مهما تطورت أدوات النحت، يبقى الأزميل هوية النحات، لأنّه لا شيء يضاهي جمالية الحفر بالأزميل على الحجر».
ودكتور الفنون التشكيلية سعيد هواش قادم من بيئة فنية نحتية، من أرض فلسطين، وبين يديه يولد الصخر ثورة نابضة بعبق الواقع، إذ ترسم منحوتاته جذور التاريخ الحضاري عبر رؤية بعيدة عن الابتذال، «فحين تجمع الرمل والترابة البيضاء، وتحولها إلى صخرٍ تصنع منه الحياة، فهذا إبداع»، وهذا ما تجد انبعاثاته في كل لوحة نحتية تعبيرية، «فإبداعي نابع من الثورات، فلكلٍ منا طريقته في أن يثور على الواقع، وأنا بدأت ثورتي من الحجر الذي أحفره ليكون شاهداً على همجية الواقع بكلّ تركيباته».
يعمد هوّاش إلى ترميم النحت التشكيلي ضمن معايير جمالية معتمدة منذ مئات السنين، فيصقلها بروحية حديثة، متأنقة بجماليتها المتوازنة، لأن «للنحت دوراً كبيراً في حفظ إرث الحضارات، فالفراعنة رسّخوا حضارتهم بنحتهم الجدران، فالنحات هو أساس وجود الحضارات وحفظها، لتجسّد عملاً تراثياً قديماً» كما يقول، فيما تتجلّى الرؤية، وأنت تتعقب فصل هذا الفن القديم الجديد، في مهجعه الصغير، فالإشارات التي تنبعث من تلك الغرفة تجعل قاصد المكان أكثر رغبة في التعمق في ثقافة النحت التشكيلي، إذ هنالك الكثير من الفخاريات الحجرية الكبيرة التي تستوقفك، تذهلك، وتسرق انتباهك «زهرة اللوتس» المنحوتة عند مدخل مهجعه، حيث تفترشه الفخاريات العملاقة الحجرية ذات الألوان القزحية، لتطلّ عليك هياكل الأمومة وانتفاضة المرأة، إلى القطع النحاسية التي تغوص معها في سبر أغوار عالم آخر «كلّه يحمل رسالات وقضايا»، يردف هواش قائلاً: «نحتي يحمل القضية، الحبّ والعشق والأمومة وأيضاً الحياة، كلّها رسمتها بحجارة آتي بها من قلب البحر»، لينحت الفخار بطريقة لا مثيل لها، وبنكهة تحمل نفس هواش «فأنا ابتكرتها، أجمع الحجر الفينيقي القديم جدّاً الذي غرق منذ آلاف السنين، فيستأنس مع الفخّار في صورة تبعث التحايل على الفن ليخرج بقالب غير مألوف، «لأنّنا في واقع: كل شيء غير مألوف مرغوب».
ويختلف الحجر في محجر هواش عن أيّ حجر له جماليته التي تسحر المتعطش للذوق «إنه ابتداع فني، عنوانه الرئيسي الحزن الذي يفيض من منحوتاته، فيتلون مع منحوتة الدولفين التي ترصد الأم التي تهرب بأولادها من الخوف، وطوراً بالشوق والحنين ومعهما الأمل الذي حملته منحوتة الغمرة، فيتولّد الإبداع، وهذا ما يميّزني، «فنحّات الفخاريات الحجرية، والخشبية والنحاسية، يتذاكى على الواقع عبر أرجوحة الحجر، فتارة تجد امرأة، وطوراً فخاراً، وفي مكان آخر أجسد مجزرة غزة بالحجر والخشب معاً». ووفق تقنية الفن الفرعوني، استطاع هواش أن يجسد القضية عبر فن خالد، لأنّه «لا ينتهي بل يعيش ملايين السنين، واللوحة عندي صورة عن حياتي أتخيّلها، فالحزن له لونه، وأنا جسدته بعناد الحرية للانكسار، وبمجزرة غزة، وبالحرية التي يألفها طيف روحي».
يصمت الحديث، ليرتفع صوت طرطقات الأزميل والشاكوش، رفيقي هواش الذي يقول إنّ «النحت كان حاضراً في ثقافة الرومان، وكان الحجر الناطق باسم الحضارة الفينيقية والرومانية مع زهرة اللوتس، ولكنني أتساءل: أين يكمن حضوره اليوم؟».
يرمي هواش تساؤلاته على منحوتة فخار بين يديه «للأسف يفقد النحت قيمته اليوم، وإن حضر فإنّ الإبداع لا يدخل فيه، وربما لأنّ الصبر انتفى، فالنحت مرادف للصبر، فمدى الصبر يولّد قوّة الإرادة، فيخرج الإبداع الحجري في العمل». يصمت هواش قليلاً ثمّ يشير إلى أن «النحت هو رسالة كامنة في داخلنا».
يبدو هواش كمن يعبّد الطريق أمام فنّ جديد، بدأ يخطو ناحية الظهور الخجول، كما لو كان ينسج الشعاع الخافت لجمالية صورة «تقف أمامها فترى نفسك داخلها، وهذا ما يجعلها ناطقة». يقول هواش الذي ينصرف إلى إتمام لوحة الحرية: «هذه المنحوتة الأثرية التي تروي حكاية سيّدة تحمل أطفالها وتبتعد بهم نحو الحرّية التي تنشدها».
بيروت: رنه جوني
- رواية: أيمن الغزالي يصافح الساعد الغربي
يختار الكاتب العربي السوري أيمن الغزالي في سياقات عمله الروائي الأول «الساعد الغربي» 2010م، التجوال بنا في أروقة، وحفر، ومطبات، ومرتفعات او منزلقات الذاكرة الذاتية الشديدة التوتر، حاملة وهج الماضي المتواري في حقيبة السفر بعيدا عن خربة الريحان، مثلت أنموذجا مختنقا لوطن صغير تتناهبه الانقسامات الأيديولوجية (الطفل الشاب). سعيد مواطن بدرجة مطحون يعيش هذا الجو المأزوم، حسب القدرية الملزمة التي اختارها الغزالي أو هي اختارته، ههنا لديه بضاعة مزجاة يعرضها على قرائه وكل من يرغب في التورط مع شخصيات الرواية ويتقاسم خبز الشقاء والألم معها بموافقة غير مشروطة، فليتقدم.. كون الطرق التي سيسلكها القارئ وعرة وهو يلهث كيما يبلغ النهاية.
«نادر وسعيد»
الرواية في تدفقها السردي كما أراد المؤلف، تتمظهر في شكل حوارات متتالية بين صديقين، سعيد القادم من الريف (خربة الريحان) وهو ذاك الفتى المحمل برائحة سنابل القمح، ونادر ابن المدينة الدمشقي، حيث يجمعهما فضاء المكان وتعصف بهما غربته.
الحوارات المسترسلة أبرزت جوانب عديدة من تفكير سعيد، ليس هو بحد ذاته كشاب عاصر فترات صعبة من التاريخ العربي في القرن العشرين، إنما ضمن إطار أكبر استوعب جيلاً بأكمله، مر على محطات الصراع العربي - الإسرائيلي والقضية الفلسطينية والمد العربي القومي، حزب البعث أو الثورية الاشتراكية التي كانت تحاول كسب أنصار وحلفاء لأيديولوجيتها في مواجهة الرأسمالية الأمريكية، فقد توضح للقارئ مدى الشحن الفكري المضغوط الذي وقع تحت ثقله الشاب سعيد وهو يحضر المساجلات السياسية في مضافة جده والتي كانت بمنزلة منتدى سياسي يجمع تيارات العمل السياسي في خربة الريحان وما جاورها.
الصداقة التي تجمع الاثنين توسعت لتكون مشروعا روائيا، حيث يريد سعيد أن يؤرخ المشروع الكوني لجده الذي عاش حياته كمختار لخربة الريحان، حاول إيجاد عالم تسود فيه العدالة والحرية والقومية العربية المترافقة بالتنمية البشرية ولكن الأحلام كما تولد، أيضا تموت حينما تحاصرها نيران الواقع.
«سارة.. الحب القادم»
تدخل الفتاة سارة إلى جو الرواية فتكون مثل طيف ملائكي في جحيم المدينة، كما يراها سعيد الذي أيقن أنه وصل إلى ضالته المنشودة وأن هذه الأنثى هي وحدها التي يريد قلبه الرسو عند مينائها، ولكن...
حتى من بعد تقارب العشيقين والتجوال في دمشق أو خربة الريحان ومشاوير الألفة والشوق وخبز الذكريات في خربة الريحان، لم تكن سارة مشغولة إلا بهمّ واحد يؤطر حياتها، هم الوطن السليب «فلسطين» وهو ذاته الهم الأكبر الذي تشربته سارة من والدها الثوري المناضل الغائب عن دفء البيت والأسرة، المتورط في المنافي من أجل قضيته العادلة.
وهنا تحديدًا يقف المؤلف أيمن الغزالي على مفصلية مهمة من مفاصل الرواية بطرحه لإشكالية حالة الحب في إطارها المحدود بين رجل وامرأة أو ارتفاعها فوق المتصور لتبلغ أفق الوطن، كما أرادت سارة حيث تشظت بها الجهات بعد أن تأكد لها أنه لا الشعارات القومية وحماستها ولا حب عشيقها سعيد، قادر على تعويضها خسارة والدها الذي تحول إلى جثة في سرداب جهاز المخابرات، وبذلك دخلت مرحلة الصدمة الفكرية التي زعزعت كيانها في كل الأطراف الداعمة لحرية فلسطين. ثم كان لقاؤها مع مختار خربة الريحان نقطة تحول جعلتها تختار الرحيل إلى غربة أخرى بحثا عن وطن آخر يلملم خوفها وانكسارها.
جغرافية المكان
أحداث الرواية اتكأت في تسارعها على ذاكرة دقيقة رصدت جغرافية المكان في بعده المادي والمعنوي، الذي تجلى في مقارنات روحية ما بين الريف والمدينة. خربة الريحان كمكان تربى فيه سعيد تعني الدفء المحبب المترسب من الماضي، إذ إننا بمواجهة تحول دخل على مشهدية الدفء الذي كان في القرية حينما كانت تجمعها روح الأخوة والحب رغم الاختلافات الفكرية.
وتنهض ثيمة المكان عند المؤلف بعملية البناء الداخلي بعمق الإنسان المتصدر لعملية الصراع الحاصل في محطات الرواية، البطلة سارة كمثال.. تتغير في إيقاعها الداخلي فكريا من بعد مرحلة الصدمة كما أسلفنا، والسفر بحد ذاته انتقال إلى مكان آخر، يعني هنا محاولة تأثيث مكان آخر للنفس حينما تحاصرها مشاعر الخيبة والحزن. انتقال سعيد إلى جو المدينة إقرار ضمني منه بأن فرص التوظيف والمستقبل تنمو في المدينة كمكان مهما كانت طبيعة العلاقة الروحية المترسبة في وجدان ابن الريف.
كذلك فإن بقاء نادر يفترش الرصيف في مدينة دمشق وهو يبيع الكتب المستعملة، دلالة أخرى تعزز بها المشهد، تعطينا إشارة واضحة أننا أمام إفرازات الواقع المعيشي العربي، حيث لا تعطيك المدن أحلاما من عسل ولبن عندما تقرر الهروب إليها خوفا من فقر وتدهور الريف.
حتى مدينة دمشق كمكان يحتضن نادر (من أصل فلسطيني) لا يتعاطى معها إلا من حيث كونها وطنا بديلا مؤقتا، من بعد أن مارس العمل السياسي النضالي في سبيل قضيته ثم عندما اكتشف فساد الأيديولوجيات وتنظيراتها الهوائية التي تستغل وتستعبد الآخرين، قرر ذات يوم الانخراط في القتال المسلح بالانتقال إلى بيروت إبان الحرب الأهلية اللبنانية.. وهنا يكون نادر قد عرف حقيقة زوايا المكان بالنظر إلى أبعاد القضية حينما تكون مجرد تنظير أيديولوجي لايترك أثرا على جغرافية الواقع أو أن تكون هناك حركة فاعلة تحفر عميقا وتغير مما هو مفروض في بيئة الواقع: الصراع العربي - الإسرائيلي.
تبلور الشخصيات
من الواضح أن أيمن الغزالي وهو يقوم بتحضير عمله الروائي، قد قرر سلفا سلما تصاعديا ترتقي درجاته شخصيات الرواية بلا توجيه مكشوف منه كمؤلف للعمل، حيث يتضح لنا هنا كيف أن سلوكيات الشخصيات بدت عفوية منطلقة في فضاء الحياة المعيشة بلا حشو درامي مفتعل يثقل حركتها الطبيعية، هكذا تعيش وتتصرف، لتشعر المتلقي بأنها شخصيات حقيقية من لحم ودم، تتخلق هذه الشخصيات من أنفاس وزفرات ولحظات وخيبات المؤلف نفسه وهو يتجول في محطات تجربته الحياتية.
شخصية الجد كأحد أبرز أبطال العمل وأكثر من هيمن على بنية الحدث الروائي حراكا وتفاعلا، نجح الغزالي في إمدادها بذلك التدفق الأسطوري الذي يكابد تركة التاريخ وصراع الأيديولوجيات والانتكاسات القومية أو الهزائم بمعنى أدق، هذه الشخصية.. هي التي حملت عمود الرواية الأساس وتركت بصمة واضحة في مختلف السياقات المشحونة بالصراع، في رأيي أن الغزالي كمؤلف تعامل مع شخصية الجد من منطلق الحامل المعنوي، ذاك الرجل النبيل (شيخ العشيرة) المهموم بقضايا قومه ووجودهم على صعيد الصراعات وتفجر الأزمات، حيث قام الغزالي بتنمية شخصيته البطلة لتكون مصدرا للخير في زمن يكثر فيه الهبوط والتراجع، هنا أصبحت الشخصية بمنزلة روحية بعيدة الغور في المؤلف نفسه، تحتل مرتبة العرابة في فكره ومرجعيته التي يتوخى نشرها في عالم فقد ألوانه الصريحة وساده الغموض.
«الساعد الغربي».. جهد روائي حسن التأثيث، تم طبخه بالكثير من التعب والإصرار، يترك أثرا طيبا في الساحة الروائية السورية، ولا شك أن القارئ العربي لحظة فراغه من هذه الوجبة الأدبية اللذيذة، سيبقى مهووسا بالبحث عن جديد أيمن الغزالي كيما يستزيد من إبداعه الجميل، خصوصا أنه صاحب مشروع ثقافي طموح يبحث في تطوير الفعل الثقافي العربي الراهن.
المنامة: أحمد المؤذن