واحة العربي محمد مستجاب

 واحة العربي

القمر
هذا الفاتن في الوجوه والأغاني، والذي تحاصره بنات الحور والقنابل والصواريخ وحق الأداء العلني.

تكوين ساحر فاتن أينما ظهر: على الجليد أو بين الغيوم أو فوق الرمال أو في قاع بئر، في ليل صيف بليد حار أو وراء أشجار أو على هامة الأكمات أو فوق الأطلال والخرائب، أو حتى من خلال فوهة كهف ذئب يفترس حملا، لكنه يصل إلى فتنته إن أصبح كلاكما بدرا: أنت رائق الجوانح مستعيدا اللياقة الإنسانية المزعزعة، وهو: عندما يتجرد من منغصات العصر الحديث الذي وطأ القمر وداس على روائه ذي السنا الباهر.

ولقد أهلك العشاق القمر في وجه المحبوب منذ بكور التاريخ، ولو كان للقمر نسبة في حق الأداء العلني المدر كنزا لكل فصائل الشعراء والمغنين، لانحرف الغزل إلى النجوم الفقيرة، ولأصبح للقمر مكتبان في باريس وفي جنيف ليرعيا حقوقه المتناثرة بين الدول الموقعة على الاتفاقية المعروفة، مع أن القمر أكرم من أن تحتويه القصائد والأهازيج وآهات الغزل، تراه مترقرقا في عيني أول أطفالك (لمدة محدودة)، وفي انحناءة أم تلقم وليدها ثديها، وفي صوت أمر الإفراج عن معتقل، وفي اتساع رقم مالي مقبول الدفع ولو كان مكتوبا على ورق اللف والتعبئة، وبين أنامل تتلمس التوقيع على أوتار الموسيقى، وأول ما تستشرفه عينا العائد إلى الوطن، لكنه - هذا القمر - يفقد قدرته على السحر والجاذبية ليصبح تكوينا ماديا مظلما: في كتب الجغرافيا وعلى وجوه الدائنين، وبين ثنايا حواجب مفتشي الشرطة، وفي ضيق أفق نقاد الفن والأدب، وتحت إبط الرعاة والمراقبين للمناطق ذات الأسلاك الشائكة، ويعقد القمر دورته المتلألئة - في موعد معلوم - باحثا عن الاكتمال، فيبعث في الجسد الأنثوي حمى يقظة الطبيعة، وفي لذة الصوم الشهي لطبق قمر الدين، وفي وجه الصبية الصغيرة استدارة قمر 14، ولعل لفظ (أمورة) الذي نسبغه - مصغرا بالعامية - على عزيزاتنا ناجم من سطوة القمر الأمير.

ويغضب القمر أن يقع على وجهه ظل الأرض، فيحتقن غضبا رافضا قيام بنات الحور بمحاصرته وخنقه، ويسيل نوره أحمر كابيا ذليلا مخنوقا، وتنطلق تحذيراته كي لا تتم أفراح الزيجات ليلتها، فسوف يحاصرها الشؤم والضيق ومعاكسة الدهر، كما أنه لا يجوز ليلتها عقد الصفقات أو ملازمة الزوجات: لأن النتائج لن تسر الخاطر، لكن المدينة لم تعد تهتم بحصار بنات الحور للقمر: أكلت وشربت وفرحت، ثم ولدت صفقات بائرة وزيجات عقيمات، وأثمرت ظلاما في نفوس أبنائها، وانطفاء في وجدان ساكنيها، ولعل بقية النور ذي السنا الذي يشع من أبناء المدن هو البقية الباقية من عصور الطفولة في براح القرى واتساع الوديان وامتداد آفاق الصحراوات والبحار والبراري، تلك التي يسبح القمر في عليائها ويحب بين آكامها وأبواتها وأغصان شجرها، دون اضطراب من هذا الوهج المصنوع من الكهرباء وإشعاعات القنابل وضجيج الصواريخ وساريات التلفزيون واكتناز الأموال وطوابير الجيوش، وهذه الأثقال التي يئن تحتها الفؤاد من أكداس مواد القوانين وتضخم أبنية المحاكم والمدارس ومخازن اللبن الصناعي.

ويظل القمر كوكبا سيارا، يهدي من يتلمسه، ويشبع من يمعن بعيونه فيه، ويحنو على من افتقد الابتسام، دون اهتمام بهذه الأدران التي تتركها أقدام الهابطين على وجهه الجميل المبتسم.

 

محمد مستجاب