أرقام محمود المراغي

أرقام

قضية القرن المقبل
تقول الأرقام إن الشرق الأوسط هو الأفقر مائيا بالقياس للعالم كله.. حتى إفريقيا جنوب الصحراء - والتي تعرضت كثيرا لأزمات الجفاف والتصحر - تملك موارد مائية أكثر.

والماء هو سر الحياة، ومؤشر للتقدم والتخلف في الاقتصاد. بل إنه - وفي نفس الوقت - أحد محددات تلوث البيئة، والصحة، والمرض، والوفاة. لذا فقد أصبحت المياه قضية أمن قومي، وأصبح الكثيرون يتوقعون أن تكون المياه - وليست الأرض - وراء الحروب القادمة. وبينما تعنى أجهزة الاستخبارات وأجهزة اتخاذ القرار ومراكز البحث الاستراتيجية بدراسة قضية المياه كعنصر من عناصر التوتر، فإن مراكز أخرى توفرت على دراسة القضية لأغراض تتعلق بالبيئة وسلامتها.

في عام 1976 بدأ مشروع عالمي لرصد نوعية المياه، كجزء من دراسات البيئة .. وفي عام 1990 كانت هناك 488 محطة تقدم تقارير حول حالة المياه في 64 بلدا، وأصبح متوافرا لدى العالم، ومنذ نهاية السبعينيات معلومات حول هذا الأمر، وهي معلومات تستند لخمسين مؤشرا تحدد أي نوع من المياه يمتلكها هذا البلد أو ذاك.. ابتداء من كمية المياه الصالحة للاستخدام. وامتدادا لكمية الأوكسجين الذائب في الماء، والذي تتوقف عليه حياة الكثير من الكائنات الحية.

وفي هذا الإطار جاء اهتمام البنك الدولي بالقضية، وبينما اعتمد البنك على معهد للموارد العالمية ليستفيد منه المعرفة بالقضية توفرت على البحث أيضا مجموعة ضخمة من المعاهد والجمعيات أبرزها: جمعية إدارة الجيولوجيا المائية في أورليانز "فرنسا" ومعهد الجغرافيا في أكاديمية العلوم بموسكو.

في الذيل تأتي بلدان الشرق الأوسط

المياه التي نعنيها، والتي شملتها الإحصاءات هي: مياه الأنهار، ومستودعات المياه الجوفية الناتجة عن سقوط الأمطار، وما يتم تحليته من ماء البحر. هذه هي الموارد المتاحة لشعوب الأرض، ويمكن استخدامها آدميا. وهذه هي الموارد التي تثير الأزمة الآن.

ووفقا لأرقام البنك الدولي (1992) فإن الأكثر ثراء في العالم من حيث نصيب الفرد من الموارد المائية الداخلية والمتجددة في البلدان المختلفة هي أميركا اللاتينية والتي يزيد متوسط نصيب الفرد فيها (1990) على المتوسط العالمي أكثر من ثلاث مرات.. أما ذيل القائمة فهو الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي لم يتجاوز فيه المتوسط (1071) مترا مكعبا من المياه العذبة.

أيضا، ووفقا لبيانات البنك الدولي فإن هناك (22) بلدا في العالم تعاني من ندرة مزمنة للمياه، حيث يقل نصيب الفرد سنويا عن ألف متر مكعب. كذلك فإن هناك (18) بلدا تعاني من ضائقة وتتعرض للخطر في سنوات الجفاف، وهي تلك البلدان التي يتراوح فيها نصيب الفرد بين ألف وألفي متر مكعب سنويا من المياه العذبة. وبين المجموعتين معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث يعيش 71% من سكان هذه المنطقة تحت حزام الفقر المائي، إذا جاز التعبير، يقل نصيبهم عن معدل "الندرة"، ومعدل "الضائقة".

الشرق الأوسط في الذيل، سواء من حيث إجمالي الموارد، أو نصيب الفرد من هذه الموارد، أو من حيث نصيب الفرد من المسحوبات السنوية والتي تستنفد هنا كل المتاح.

الحالة إذن فريدة وتعكس نفسها على كثير من مظاهر الحياة، فإذا نظرنا للمياه كعنصر محدد للنشاط الاقتصادي ومستوى التقدم والتحضر فإننا نلحظ أن مصادر الدخل الرئيسية في مجموعة بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي النفط، وليست الزراعة أو الصناعة، رغم تزايد نسبة مساهمة هذه الأنشطة. أيضا، فإننا إذا نظرنا إلى نوعية النشاط واستخدامات المياه كمؤثر على مستوى التقدم فإننا نجد أوربا وقد استخدمت 42% من مسحوباتها المائية في أغراض الصناعة ونسبة قريبة من ذلك في أغراض الزراعة. وعلى العكس تجيء منطقتنا لتستهلك 89% من هذه المياه للزراعة و5% فقط للصناعة. أما الاستهلاك المنزلي، والذي يشمل المتاجر والمرافق العامة، فإنه لا يحتل عندنا نصف ما يحتله في أوربا حيث تقف النسب عند 6% فقط من المياه.

معنى ذلك أننا نزرع أكثر مما نصنع، وأننا نعني بالنظافة المنزلية ونظافة المدن بشكل أقل. ويربط علماء البيئة بين كميات المياه المتوافرة، ودرجة تلوث المياه.. ويقولون إن المياه الملوثة في الشرب والاستحمام تقتل الملايين، وتصيب ألف مليون منهم بالأمراض كل عام. وعلى رأس هذه الأمراض: التيفود والكوليرا.

وبتفصيل أكثر يقول تقرير البنك الدولي للتنمية في العالم (1992) إن هناك علاقة وثيقة بين مياه غير نظيفة وإصابات الإسهال التي تقتل 3 ملايين شخص سنويا. ويقول هؤلاء: إنه في أي وقت هناك نحو 900 مليون نسمة في العالم مصابون بما يسمى الدودة المستديرة، بينما هناك 200 مليون نسمة مصابون بالبلهارسيا.

هذه هي الصورة العالمية التي ترسم علاقة الماء بالأمراض والتلوث، وبطبيعة الحال فإن بلدان الشرق الأوسط تدخل في هذا الحزام أيضا: حزام الموت والمرض بسبب التلوث وندرة الماء.

عندما تتحرك الجيوش

لكل هذه الأسباب فقد تحولت مشكلة المياه - كما هو معروف - إلى قضية أمن قومي. ساعد على ذلك أن عددا محدودا من البلدان بالشرق الأوسط يتحكم في مصادر المياه، بحيث يمكننا القول - وبلغة الاقتصاد - إن هناك منتجين ومستوردين في مجال المياه، فإثيوبيا ووسط إفريقيا تغذي النيل بالمياه. ومصر تستقبل ذلك وتقع في الطرف الأخير من نهر النيل. وتركيا تستقبل الأمطار التي تتدفق على نهر الفرات. بينما تنتظر كل من سوريا والعراق المياه لتصل إليها. والتداخل واضح بين أنهار لبنان وفلسطين مما دفع إسرائيل للاستحواذ على الجزء الأكبر والسيطرة على المياه داخل وخارج حدود الأرض المحتلة. بل - وبقوة الاحتلال العسكرية - وضعت من القواعد والقوانين ما يحرم سكان الضفة الغربية من استخدام معظم الموارد المائية.. بما فيها المياه الجوفية. وبينما يلعب هذا التشابك دورا في مستقبل الحرب والسلام، فإن هناك عددا من البلدان يفتقر للأنهار تماما، ويلجأ - كما. يحدث في الخليج - لتحلية مياه البحر. بينما تتعدد مشروعات تغذيتها بماء نهري عذب، لكنها - وحتى الآن - مجرد مشروعات وأفكار.

الصراع الأكبر إذن - في الشرق الأوسط - لن يكون محوره الاستحواذ على أرض أكثر، فهذه هي المشكلة الأسهل. لكن المشكلة الأكبر هي الحصول على المياه. سر الحياة، وأساس التقدم.

الاستراتيجيون يتوقعون حروبا تثيرها أزمة المياه، والساسة والاقتصاديون يبحثون وسائل التعاون الإقليمي لمواجهة هذه المشكلة قبل أن تتفاقم، والأجهزة المعنية - كالجامعة العربية - ماضية في البحث والتنقيب عن مخرج هنا ومخرج هناك. بينما يقول علماء المياه: "وإلى أن تجدوا حلا،. وإزاء زيادة السكان، فإنه لا مفر من ترشيد الاستهلاك". ويضيف خبراء البنك الدولي قائلين: "ومن أجل الترشيد، فإن على حكومات المنطقة أن تبغ الماء للفلاحين وتقدم لهم تكنولوجيا أكثر تقدما، تكنولوجيا تزرع أكثر. وتستهلك - من - الماء - أقل". المياه إذن قضية القرن الواحد والعشرين. لكن إرهاصاتها قد بدأت.