صعود الإسلام السياسي واستئناف عصر الإصلاح الديني العربي

صعود الإسلام السياسي واستئناف عصر الإصلاح الديني العربي

  • لم يعد التيار التوفيقي ولا خطابات النهضة في قلب الفكر العربي المعاصر بل على هامشه
  • الخيار الاستراتيجي المستقبلي يتمثل في الدفع نحو تصالح جوهري بين الإسلام والحداثة

إحدى السمات الأساسية التي حكمت الواقع العربي في النصف الثاني للقرن العشرين تمثلت في الإستقطاب بين طرفي ثنائية صلبة (سلطوية - إسلاموية) أو (استبداد - تطرف) فإما الرضا بنظم حاكمة متسلطة، وإما الخضوع لإسلام سياسي متشدد ومتطرف. كان ذلك الخطاب رائجا في مصر، كما كان في تونس والأردن، واليمن، وسورية. أما في الجزائر فقد تحول الخطاب إلى ممارسة فعلية على الأرض مطلع التسعينيات، حيث أدى فشل السلطة العلمانية المزمن (جبهة التحرير الوطني) إلى صعود الإسلام الراديكالي على جثته (جبهة الإنقاذ) عبر انتخابات، انقلب عليها العسكر، وتحولت إلى حرب شبه أهلية دفع الجزائريون أثمانها البشرية والمادية لعشر سنوات تقريبًا.

اليوم، وبقوة الربيع العربي، تبدو هذه الثنائية الصلبة في طور التفكيك. لقد سقطت النظم الأكثر استبدادًا، وثمة نظم أخرى في الطريق. وفي المقابل يبدو أن التيار السلفي الجهادي في طريقه هو الآخر إلى الذبول، إما لأن كتلته الأساسية قد انزاحت إلى خارج المجتمعات العربية، إلى أفغانستان وبؤر أخرى بدعوى (عالمية الجهاد) اللهم سوى امتدادات قليلة، وإما لأن بعض مكوناته من قبيل الجماعة الإسلامية، الأكثر تكفيرًا لنظام الحكم ونهجا للعنف في مصر، قد دخلت إلى حلبة السياسة.

مرحلة جديدة من الصراع

ولكن هل يعني سقوط هذين المكونين الصلدين: اليمين الديني الأكثر تطرفا، ونظم الحكم الأكثر استبدادية، أن المجتمعات العربية مشرفة على حقبة من الهدوء كنتيجة زوال التناقض الحاد؟ أعتقد، على العكس، أنها مشرفة على مرحلة من الصراع أكثر عمقا من المرحلة الماضية؛ ذلك أن حجم التناقض في المرحلة السابقة كان أكثر اتساعا، وأعمق جذورا، ولكن التناقض نفسه كان معطلا لأن ثنائياته كانت مجمدة في ثلاجة التاريخ. كانت ردود الفعل المتبادلة عشوائية (من التيارات الدينية المتطرفة إلى السلطة المستبدة والعكس)؛ إذ تنبع وتصب من فضاءين مختلفين أحدهما يمثل الشرعية، وهي شرعية أمر واقع (تغلب لا اختيار)، والآخر يمثل نقيضها. وهنا لم يكن ثمة حوار أو جدل بل ردود أفعال عنيفة متبادلة، تقوم على الإنكار والإقصاء. عمليا كانت السلطات المستبدة هي الأقدر على الإقصاء، ونظريا كانت التيارات المتطرفة هي الأعنف في الإقصاء، إذ تتجاوز إنكار نظم الحكم إلى تكفير المجتمعات المحكومة، ولم يكن ثمة قيد على تلك النزعة سوى غياب التمكين.

اليوم يبدو التناقض أقل عمقا بين طرفي الثنائية ولكنه، في المقابل، قابل للممارسة، ولذا فثمة فرصة كبيرة لانطلاق جدل ساخن بينهما بعد زوال الخطوط الفاصلة بين ما هو داخل الشرعية وخارجها، إذ صار الجميع يلعبون في الفضاء نفسه، بالقوانين نفسها، وأمام الحكم ذاته، وهو هنا الجمهور العربي الذي سيدور الصراع حوله وعليه. سوف يحتدم الجدل إذن، وسيكون أعمق، وإن بأدوات جديدة: ثقافية وإيديولوجية وليس بالأدوات العتيقة العنيفة، والمسلحة. وسوف يكون الجمهور العربي حاضرا هذه المرة لا غائبا ولا مغيبا، لأنه ثار، وأخذ الأمر بيده ربما للمرة الأولى، ومن الصعوبة إرجاعه إلى ثكنات السلبية والاغتراب واللامبالاة.

في هذا السياق نلاحظ أن الصراع الذي دار في أغلب عقود القرن العشرين داخل الفكر العربي بين التيارات الثلاث الأساسية «العلموي، والتوفيقي والإسلامي حينما كان التيار التوفيقي بين الأصالة والمعاصرة على حد الصياغة الأثيرة لزكي نجيب محمود، يحتل الموقع الوسطي بين التيار العلموي من جانب، والإسلامي من جانب آخر، أخذ يتحول الآن في اتجاه رجعي نحو مسارات ثلاث أساسية:

أولا : في اتجاه نفي التيار العلموي الذي كان يرى في الغرب نموذجا مثاليا تاما يسعى إلى التماهي معه، ويقبل به ملهماً لممارساته، بل يضعه كمرجعية ينزع إلى تقويم واقعنا بمعاييرها وقيمها حتى لو بدت تعسفية في بعض الأحيان. ولعله صحيحا أن نفرا محدودا لا يزال يعتقد في تلك الرؤية وخاصة على المستوى السياسي، فيجعل المعايير الغربية «وخاصة الديمقراطية وحقوق الإنسان» مرجعية لسلوكنا السياسي، بل ويعطيه حق الرقابة علينا في تطبيقها، ولكن الصحيح كذلك أن أولئك قلة بما لا يشكل تيارا، كما أنهم أقرب إلى حركيين مرتبطين بفضاءات فكرية، ومراكز بحثية غربية تجذبهم فلا ينغرسون عميقا في الثقافة القومية، ولا يجسدون حقيقتها. وفضلا عن ذلك، وربما كان الأهم، أنهم لا يملكون نظرية ثقافية واضحة أو صياغة فكرية متكاملة كما كان الأمر لدى التيار العلموي أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه.

ثانيا: في اتجاه تبلور تيار سياسي جديد «سلفي» هو حاصل جمع التيار السلفي التقليدي الذي كان رافضا للسياسة من ناحية، ومن ناحية أخرى المكون الداخلي من التيار الجهادي العنيف أو «الانقلابي»، ذلك الذي مارس نشاطه فقط داخل المجتمعات العربية. هذا التيار يقف الآن أو يمثل أقصى اليمين السياسي في الخريطة السياسية العربية.

وثالثا: في اتجاه تمركز تيار الإسلام السياسي القديم، والمتمحور حول الإخوان المسلمين بشتى تلاوينهم السياسية وتعبيراتهم الثقافية، في قلب المجتمعات العربية الحديثة، ليصيروا هم الوسط الثقافي والسياسي في جل هذه المجتمعات بعد أن كانوا في أقصى اليمين منها، وليصبح هو الأكثر تعبيرا عن الاتجاه العام للمجتمعات العربية. وهو بذلك يزيح التيار التوفيقي / النقدي / القومي عن موقعه الذي كان قد احتله لنصف قرن على الأقل.

وفي هذا الإطار نجد أنفسنا أمام صيغة جديدة ثلاثية أيضا للجدل الفكري/ الاجتماعي / السياسي العربي، بديلة للصيغة الموروثة من القرن العشرين، فبدلاً من ثلاثية الحداثي - التوفيقي - السلفي، نجدنا أمام ثلاثية التوفيقي - الإخواني - السلفي. في ما يعني أن الصيغة المقترحة لإقامة عقلانية عربية إسلامية، تلك المضمنة في التيار التوفيقي الذي أسهمت في صكه ونحته وتأصيله، جهود النخبة الفكرية، وخطابات النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، لم تعد في قلب الفكر العربي المعاصر بل على هامشه، والسؤال المهم الذي يتوجب طرحه هنا هو كيف يؤدي الربيع العربي، بأدواته ما بعد الحداثية، إلى إحياء التيارات الدينية التقليدية في السياسة العربية؟

التيارات الإسلامية فارقت الروح التقليدية

ثمة تفسيران: أولهما هو الأقرب إلى الذهن وهو أن تلك التيارات الإسلامية قد فارقت الروح التقليدية عندما نهجت طريق الاقتراع العام، واحتكمت إلى صناديق الانتخاب باعتبارها أشكالا ديمقراطية تمت بالصلة لفضاء السياسة بالمعنى الحديث. غير أن المتأمل لفحوى الخطاب السلفي، فضلاً عن تاريخه السياسي الذي لا يتجاوز بضعة أشهر، قد لا يجد صدقية تذكر لهذا التفسير، فمفاهيم من قبيل «غزوة الصناديق»، «وبيعة الديمقراطية الدائمة» التي طالب بها القيادي السلفي السكندري عبد المنعم الشحات الجندي، وغيرها من المصطلحات لا تشي بإيمان ديمقراطي، ولا بحداثة سياسية، بل فقط بحضور واقعي وجد فرصة مواتية للتعبير عن نفسه واقتناص الفرصة، فلم يتردد، وينطبق هذا على التيار السلفي الجهادي الممثل بحزب «الإصلاح والتنمية». يمكن بالطبع إيراد تحفظ في ما يتعلق بالمكونين الأخرين الممثلين بحزبي الوسط الأقدم تأسيسا، والعدالة والحرية الأعرض نفوذا، فثمة خبرات متراكمة، ونضج سياسي بارز، وقبول مبدئي للشكل الديمقراطي، ولكن ثمة التباسات حول فهمهم للجوهر الديمقراطي، والمتمحور حول النزعة الفردية، والروح الليبرالية.

وأما التفسير الثاني فربما كان الأقرب إلى الصدق، إذ يرجع بروز التيار الإسلامي إلى حقيقة أن الثقافة العربية لم تتمكن بعد من ممارسة ما يشبه الإصلاح الديني في التاريخ الأوربي. فحقا كانت هناك بدايات جنينية لمثل هذا الإصلاح رافق ميلاد التيار الوسطي أو التوفيقي المنفتح في فكر النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، غير أن ذلك التيار الوليد لقي مقاومة شرسة من قبل تيار آخر إصلاحي ولكنه، إذ اعتبر نفسه الأمين على مرجعية الرواد، فقد أخذ يعيد تَمثُلْها على أكثر قواعدها محافظة والتزاما بالإسلام التقليدي على النحو الذي مثله رشيد رضا، والذي جسدته حركة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا عام 1928 كأول تجسيد سياسي للتيار الإسلامي في الثقافة العربية المعاصرة.

إصلاح ديني متأخر

البادي إذن أن جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت قد شقت الطريق نحو الاستقطاب الثقافي، وأوقفت مسيرة الإصلاح الديني العربي منذ نشأتها قبل ثمانية عقود ونيف، ربما وقع على عاتقها مهمة استئناف الطريق نفسه حال أحسنت اغتنام الفرصة المتاحة لها، وأيقنت أن الخيار الاستراتيجي المستقبلي إنما يتمثل في الدفع نحو تصالح جوهري بين الإسلام والحداثة. وهنا نتوقع أن تعيش المجتمعات العربية، ومصر في القلب منها، مرحلة إصلاح ديني متأخر، تكمل عملية إعادة تنظيم العلاقة بين واقع الأمة العربية / الإسلامية، وبين تلك الظاهرة التاريخية المستعادة والمتكررة والمركبة في آن، وأعني هنا ظاهرة اللجوء إلى تبرير السلوكيات والمواقف السياسية بأكثر المكونات خصوبة في هوية الأمة، وأكثر المصادر قدرة على حفز روح الجهاد بين أبنائها وهو الإسلام.

يفترض أن تؤدي هذه العملية إلى فرز تاريحي يدمج التيارات الأكثر عقلانية وقابلية للتجدد والحوار داخل الظاهرة الإسلامية، في بنية المجتمعات العربية التي مزقتها علاقتنا الملتبسة مع الحداثة، وفي الوقت نفسه حصار تياراتها الأخرى الأكثر تطرفا وعدمية، والتي لا تعدو كونها امتدادا أكثر دموية لتلك الحركات السياسية الهامشية التي حاولت إهدار قيمة الإنسان ومعنى الوجود طيلة التاريخ العربي الإسلامي من حركات الخوارج، وتنظيمات التطرف كالحشاشين وغيرها من الطحالب التي طالما تبرعمت عبر التاريخ العربي المديد في لحظات الركود والتيه والعجز.

تشتمل عملية الفرز هذه على عمليات فرعية عدة من الدمج والحذف، الاستيعاب والاستبعاد، من خلال حوار سياسي/ ثقافي تشهده الأشهر والسنوات المقبلة. يدور هذا الحوار في أفق مفتوح بين النخبة السياسية في البرلمان والحكومة والمعارضة، وبين هؤلاء والنخبة المثقفة في وسائل الإعلام المفتوحة التي ستنشغل طويلا بوقائع هذا الحوار. وفي كل الأحوال سيكون الناس / الجماهير شهودًا على ذلك الحوار، سوف يسمعون ويتناقشون. كما أنهم، ومن خلال التعاطي مع القرارات والإجراءات والتشريعات الصادرة عن البرلمان سوف يتأثرون، ويتفاعلون مع وقائع هذا الحوار.

ربما تخلى كثيرون من متابعي هذا الحوار أو المنغمسين فيه عن بعض قناعاتهم القديمة المتشددة، وربما صاغوا قناعات أكثر تشددا، أو أكثر تحررا. ولكن المهم أن الجميع سوف يبلورون قناعات جديدة، ويقومون باختبارها. سوف يتشاجرون كثيرا ويتفقون قليلا، سيعلون الصياح بالرفض أو التأييد، ولكن الجميع سوف يدخلون ورشة عمل ثقافية مفتوحة، وسيبذلون جهدا مضنيا للفهم.

الدنيا هي الدنيا

وبمرور الزمن، سوف يفرض المنطق العقلاني نفسه على الجميع، سوف يتحكم الواقع في الجميع، ويدرك الناس آنذاك أن الدنيا هي الدنيا، والمصالح هي المصالح، سيسود العقل من خلال التجربة.. ستتسع الكتلة الحديثة باستمرار ولا يعوق تدفقها في مجرى التاريخ العربي على أساس قاعدة مجتمعية حديثة، وطبقة وسطى واسعة، ونظام سياسي تعددي ما يمكنها من قيادة المشروع النهضوي العربي تجاوزا لمأزق الدولة العربية الذي كشف عنه عصر التحرر الوطني في العقود الست الماضية.

ربما انصاعت رموز التيار الإسلامي الراهن إلى الحقيقة، وعندها يكون التغيير أسرع وأسلس، ويظل لهم حضورهم المركزي فيه، بأسمائهم وأسماء أحزابهم ومؤسساتهم، وربما رفضوها، إنكارا لحركة الزمن، وغيابا عن مسار التاريخ، وعندها سيتجاوزهم الزمن وينساهم الناس.
------------------------------------
* كاتب من مصر.

 

صلاح سالم*