الخيار الذي يواجهه المسلمون في البوسنة والهرسك محمـد الرميحي
الخيار الذي يواجهه المسلمون في البوسنة والهرسك
حديث الشهر
إن شـاهدت التلفزيون أو استمعـت إلى الإذاعة أو كـان لديـك الـوقت لقراءة الصحف اليوميـة أو المجلات الأسبوعية، فإن موضوعا واحدا لا بد أن تصادفه.هذا الموضوع هو ما يجري في البوسنة والهرسك. ومن متابعتي للموضوع وجـدت أن هناك العديد من الخلط في الحقائق والكثير من المعلومات الخاطئة. وأسبـاب ذلك كثيرة، إمـا بسبب نقـص في المعلومات، أو بسبب تـدخل العواطف وتـأججها، أو أسباب أخرى ثانوية عديدة. لا شك أن الإنسـان العادي، والعـربي المسلم على وجـه الخصوص، تهزه هذه الصـور القادمة مـن البوسنة والهرسك عندمـا يرى المسلمين وهم شبه هيـاكل عظمية من وراء قضبان أو سيدات مسلمات يحملن كالخراف في سيارات النقل عاجزات بـاكيات، وعندما يرى الأطفال وقد قطعت أطرافهم راقدين على خرق بالية. وتزودنا وسائل الإعلام بهذه الصـور مع تعليقات مختلفـة وتمر أمام أعيننا فتثير الغضب. إلا أن المطروح هو لماذا يحدث ما يحدث من اقتتال يصل إلى البربرية، وتداخلات إقليمية ودولية تبدو عاجزة وغير قادرة على الفعل، وما هي جذور كل ذلك الصراع؟ شبه جزيرة البلقان ما يحدث في يوغسـلافيا السابقة من حرب واقتتال، وعلى الأخص ما يحدث في البوسنة والهرسك هو جـزء من تـداعيات سقـوط الإمبراطوريـة السوفييتية، التي هيمنـت لفترة من الزمن على مسـار الأحداث السياسية والاقتصادية في مناطق عديدة من العالم منها شرق أوربـا، والتي تشكـل يوغسـلافيا السـابقة إحـدى دولها. ولست ممـن يعتقدون بأن التاريخ يعيـد نفسه، إلا أن المرء يستطيع أن يقول إن هذا الاضطراب العـرقي الاقتصـادي السياسي الـديني وما يصاحبه من عنف نراه اليوم هو الاضطـراب نفسه - تقريبا - الذي شهدته هذه المنطقة نفسها عنـدما سقطت الإمبراطوريات الأربـع التي كانـت مهيمنة على مـا نسميه اليوم أوربا الشرقيـة مباشرة بعد الحرب العـالمية الأولى، وكانـت وقتها الإمبراطوريات العثمانيـة والروسيـة والألمانية والنمساوية الهنجارية. إن سقوط الإمبراطوريات يسبب خللا في الكيانات التي تفرض على الشعوب من جهة، وكذلك يثير شهيـة من يعتقد أنه الأقـوى والأحق بالهيمنة في غياب تلك الإمبراطوريات أو القوى الحامية، من هنا يندلع الصراع ويتأجج ويدفع الأبرياء ثمنا فادحا له. بل وفي بعض الأوقات يدفع العالم - أو معظمه - ثمنا باهظا لهذه الخلخلة السيـاسية وما تسميه الأدبيات السياسية الـدولية بـ "الفراغ الإقليمي ". ومن المفارقات التي تستعصي على التجاهل أن الحروب الدينيـة والعرقية التي انتشرت في مناطق عديدة في العـالم بعد الحربين العـالميتين الأولى والثانيـة كانـت تقاس على مـا حدث في شبـه جزيرة البلقان. فاللبننة والقبرصة إشارة إلى ما حدث في لبنان وقـبرص وقبلهما ما حدث في أيرلندا الشمالية قيست على مفهوم صك قبـل ذلك هو "البلقنـة" أي الانشطار العـرقي والإقليمي والـديني والمذهبي الـذي صاحب مرحلة الفراغ الإمبراطوري فيما بين الحربين العالميتين. ولعلنا نعيد التذكير بأن التاريـخ يحتفظ لهذه المنطقـة ولمدينة سراييفو بـالذات المحاصرة الآن، والتي تدور حولها معـارك طاحنة، بأن شرارة الحرب العـالمية الأولى انطلقت منها عنـدمـا اغتيل الأمير النمسـاوي فرنسـوا فـردينان في تلك المدينـة. وليـس من المستبعد أن تنطلق حـرب أكـبر وأوسع من شرارة ما يحدث في البوسنة اليوم. منطقة البلقان عرفت بتركيبها البشري والعرقي والقومي والديني والثقافي البالغ التعقيد، كـما عرفت بتضاريسها الجبلية الوعرة التي تكون ملاذا للأقليات المضطهدة أو الخارجين على السلطة، على الرغم من انتماء قاطنيها في الغالب إلى الجنس السلافي. والبلقان كلمة تركية تعني الجبـل. ويصفها الجغرافيون بأنها أقصى شبه جزيرة في جنوب أوربـا ناحيـة الشرق، إذا حسبنا شبه جزيرة إيطاليا وأيبريا. ودول البلقان هي اليونان وتركيا (الجزء الأوربي) وألبانيا وبلغاريـا ومعظم يوغسلافيا. ولقد دفعت أيضا هذه المنطقـة ثمنا سياسيا وإنسانيا نتيجة محاذاتها لخطوط المواجهة التاريخية، هذه الخطوط المتحركة إلى الأمام وإلى الخلف لعدة قرون بين كيانين كبيرين متنافسين: الإمبراطورية العثمانية المسلمة جنوبا، والإمبراطورية النمساوية المجرية المسيحية شمالا. وإذا كانت بذور الصراع المتأجـج الآن في جـزء من يوغسلافيا - البوسنة والهرسك - عرقية ودينية وقومية، فـإن بقية دول البلقان، حبلى ببذور صراع قومي وعرقي وديني أيضا. يوغسلافيا السابقـة، وهي تعني السلاف الجنـوبيين، هي أكثر المناطق في البلقان اختلافـا قوميا وثقـافيـا، وكـانت تضـم سـت جمهوريـات وإقليمين، وهي جمهوريات سلوفينيا، كرواتيا، الجبل الأسـود، مقدونيا، صربيـا، البوسنـة والهرسـك وإقليما فويفودينا وكـوسوفـو. وتوجـد بها سـت قوميات رئيسية، هي الصرب، الكـروات السلاف، الألبان، المقـدونيـون والمسلمون، وتتحـدث ثلاث لغات وتتوزع على عـدة مذاهب وأديان. يوغسلافيا كانت في الأدبيات الاشتراكيـة هي نموذج التعايـش. القومي والثقافي، ولكن هذا النموذج تبين أنه موضـوع في قفص أجبرت القوميـات المتعددة على دخوله، وما انفك قيد القفص حتى تناثر سكانـه وأخذت هذه القوميات تنهش بعضها بعضا. مثل الصرب أكـبر مجموعة قـومية في الاتحاد اليوغسلافي السـابق، وهم أقليـة بالنسبـة لمجموع الأقليات الأخرى، هم أغلبية في صربيا والجبـل الأسود، وتتفـاوت نسبتهـم في بقيـة الجمهوريـات ويمثـل الكروات ثـاني أكبر مجموعة قوميـة في الاتحاد اليوغسلافي ويتمركزون أساسا في كرواتيا والبوسنة والهرسك. بينما المسلمون يمثلون القومية الثالثـة ويتمركـزون في البوسنـة والهرسك، وبعضهم في الجبـل الأسود. توجد أقليـات صربية في معظم اتحاد يوغسلافيا القـديم، كـما توجد أقليات كرواتية ومسلمة في مناطق القوميات الأخرى. يعتنق الصرب مذهب الروم الأرثـوذكسي، فيما تعتنـق الأغلبية الساحقة من الكروات المذهب الكاثـوليكي، ويستخدمان لغة واحدة هـي الصرب/ كـرواتيـة بأبجـديتين مختلفتين، فـالصرب يستخـدمون الأبجدية السريلية، بينما الكروات يستخدمون الأبجديـة اللاتينية، فيما السلاف كاثوليك ولغتهم ألمانية. من هذه الخرائط الثقافية والقـومية المتشابكة السـابق ذكرهـا والتي تزخر بـالصراع فيما بينها نتبين أن مصادر الصراع هذا هـو التناقـض العرقي والديني إضافة إلى رواسب التاريخ الماضي وأطماع الحاضر. المسلمون في الاتحاد اليوغسلافي المسلمون في يوغسلافيا القديمة ينحـدرون من أصول عرقية مختلفة، غالبيتهـم من أصل سلافي وبعضهم من أصل تركي وأقلية منهـم من أصل غجري رومي، وتاريخ وصول الإسلام إلى تلك المناطق تـاريخ قديـم يرجع في أصـوله إلى محاولـة المسلمين الانتشار بدينهـم في القارة الأوربية. ولقـد كـانـت محاولات هذا الانتشار عـديـدة، ولكـن وجـود القسطنطينية (اسطنبول اليوم) تلك القلعة المنيعة بحصونها وقتذاك، ومساعدة الغرب المسيحي لها خـوفا من الامتداد الإسلامي لوسط أوربا جعلهـا تستعصي على الفتـح لمدة طـويلة. إلا أن المحـاولات العديدة أخـذت بعدا جهاديا في القرن الرابع عشر الميلادى، فـأصبح فتح القسطنطينية هو جهادا لإنقاذ الدولة الإسلامية في الأنـدلس من السقـوط، بعد أن أخـذت الأخـيرة تترنـح تحت ضربات الجيوش المسيحية المتحالفة والقادمة من شمال أيبريا. وتماما كـما فكر المسلمون بعد فتح الأنـدلس في الاندفاع منها واختراق أوربا القسطنطينية من الغرب، قرر العثمانيون الاندفاع من حول القسطنطينية إلى أوربا وتجاوزها، إلا أن ذلك التجاوز كان محدودا. وبعد أن تمكن السلطان محمد الفاتح من فتح القسطنطينية في مطلع النصف الثاني من القرن الخامس عشر ازاح من أمامه أكـبر مدينة أوربية مسيحية كانت تقف حجر عثرة أمام دخول أوربا. وفي السنوات الخمس والعشرين اللاحقـة لسقوط القسطنطينية، استطاع الأتراك المسلمون بسط سلطتهم على معظم شبه جزيرة البلقان. وأصبحت البوسنة والهرسك ولاية عثمانية في حـدود عام 1464، وكان يسكنها وقتذاك شعوب من الصرب والمجر والكروات. وعندما كان العثمانيون يفرغون من فتح منطقة كانوا ينصبون عليها مسئولين إداريين ويحصون الأراضي ويرسمونها ويمنحونها للأهالي على أساس الخراج، وفق نظام كانوا يطلقون عليه التيمار. في هـذا المنعطف تقـع أخطاء كبيرة وأساسيـة حـول إسلام البوسنيين. فبعض الكتابات الغربية وأخرى عربية تتبعها مع الأسف من غير استقصاء تقول - وهو قول يردده الصرب أيضا - إن المسلمين الأتراك قـد أعطوا امتيـازات لأصحاب الأراضي تلـك، وحتـى يستمروا في الإفادة من هذه الامتيازات دخلوا الإسلام. ولكـن الاستقصاء التاريخي والمنطقي يدحض هذا الادعاء والـذي يقول به الصرب المتعصبون اليـوم. فمن المعـروف أن الأتراك لم يجبروا أحـدا على ترك دينه، وكـانـت الجزيـة بالنسبة لهم حـدا معقـولا للوفـاق والتراضي، كما كـان التنظيـم الاجتماعـي للصرب وقـوة شعورهـم بالهوية القومية يمنـع ذلك، كـما أن المنطـق يفترض أنه لو تـم تحويل أصحاب الأراضي والمنتفعين بها إلى الإسلام لكـان ذلك صحيحا في المناطق الأخرى من شبـه جزيرة البلقان، والتي كانـت تحت حكم المسلمين الأتراك وأقرب إلى ديارهم، فلماذا كـان طرفها الغـربي هو الذي دخل أهله في الإسلام؟ أساس الصراع العقائدي الأقرب إلى التفسير المنطقي ما تقـوله المصادر التاريخية المحـايدة وهو أن البوسنيين كـانوا في الأصل أصحاب عقيدة مسيحيـة خاصة تعرف بـ "البوجوميلية" وذلك نسبة لمؤسسها الراهب "بوجوميلى". والمصادر التاريخية حول هذا المذهب قليلة وبعضها غير محايد، إلا أن تميز هـذا المذهب عن بقية المذاهـب المسيحية مرده إلى إنكـار الولادة الإلهية للمسيـح، واعتبار معجزات السيد المسيح حدثـت بالمعنى الروحي وليس المادي، ورفض المراسـم والاحتفالات الدينية، وعدم الاعتراف بـالهيكلية الـدينية وإباحـة ممارسة الصلاة في أي مكـان، وليس بالضرورة في الكنيسة، كـما يمكـن أن يرأس الصلاة آي واحد من المؤمنين. انتشر هذا المذهـب الذي انطلق مـن بلغاريا وامتـد إلى صربيا، إلا أن ارتداد ملـك صربيا ستيفن نيمانيا عن "البوجـوميلية" واعتناقـه لمذهب الروم الأرثـوذكس أدى إلى اضطهاد أصحاب مذهب " البوجوميلية" وإعدام الكثيريـن منهم ومطاردتهم، فهاجروا إلى مناطق مختلفـة منها البـوسنـة والهرسك، وظل أتباع هـذا المذهـب يتعرضـون لحملات عسكرية حتى دخـل الأتراك فتعرف البوجوميليون على الإسلام واعتنقوا الدين الجديد عن طيب خاطر. وقد وجد البوجوميليون أنفسهم أقرب إلى الإسلام فاعتنقوه، ولو أنهم فعلوا ذلك من أجل المحافظـة على أملاكهم - كـما يدعي الصرب والكروات اليوم وينقل بعض العرب المسلمين عنهـم ذاك الادعاء - لما وقفوا سنوات طويلة ضد الروم الأرثوذكس - وهم الصرب - ولا ضـد الكاثـوليك - وهم الكـروات- ولما آثروا الهجرة بمعتقداتهم الدينية من بلغاريا إلى صربيا، ومـن صربيا إلى البوسنة والهرسك بل لما حاربوا في بعض الفترات التاريخية الأتراك أنفسهم. وكان اعتناقهم لـلإسلام أيضا هو انعتاقا لهم من الحروب الدينية التي شنت عليهم، إلا أن الصرب قد أسقطوا الصفة القومية المحلية عن المسلمين الصرب وربطوهم بالقـومية التركية، كـما اتجه الداخلون في الإسلام إلى التخلي عن بعض عاداتهم وتقاليدهم القومية السابقة وإحلال عادات وتقاليد نابعة من الإسلام، حتى صارت تشكل نمط حياة واحدا يجمـع هؤلاء السكان بصرف النظر عن انتمائهـم العرقي السابق. حرب أرض وعرض ينزع بعـض الكتاب والمحللين العرب والمسلمين إلى تصوير أمـر الصراع الدائر اليوم على أرض البوسنة والهرسك على أنه صراع ديني فقط، لذلك فإن بؤرة الاهتمام لكثير مـن وسائل الإعلام هو الحديث عن هتك الأعراض والاغتصاب، ولكن ذلك - على بشاعته - يجب ألا يخفي حرب الأرض أيضا، فإن العامل الحاسم هو محاولة الصرب إنشاء صربيا الكبرى بطمس الهوية الكـرواتية من جهة، وطمـس الهوية الإسـلامية من جهة أخـرى. كـما أن المسلمين في البوسنة والهرسك متمسكون بحسم بالأرض التي يعيشون عليها، ويرفضون مغادرتها، مما جعل هـوية الانتماء إلى الأرض تمتزج بهوية الانتماء إلى الإسلام وتكوّن هذه الرابطة. وذلك ما يفسر تمسـك المسلمـين في إقليم كوسوفـو - الذي يمثل المسلمون المنحـدرون من أصل ألباني معظـم سكانه- بأرضهم. والدين الإسلامـي يوحد المسلمين في كوسوفو مـع إخوانهم في البوسنة والهرسك في وجه عمليات الإبادة رغم التمايز العرقي فيما بينهم. فالقومية المسلمة في البوسنـة والهرسك هي خلاصة اندماج عرقي وقومـي تم خـلال مئات السنين وذاب فيها صرب وكروات وأتراك، وقاسوا ما قـاسوه في سبيل الحفاظ على هويتهـم من الإمبراطوريات المختلفة. وبعد الحرب الأولى وفي مؤتمر السلام الذي انعقد في بـاريس 1918 - 1919، استقر الرأي الدولي على تشكيل دولة اتحاديـة تضم عددا من الشعوب هي الدولـة اليوغسلافية، فانتقل مسلمو البـوسنة والمسلمون في أقـاليم يـوغسلافيا الجديدة من السيطرة النمسـاوية إلى السيطرة الصربية أساسا والكرواتية والسلوفونية بالدرجـة الثانية، ولم تكن فترة ما بين الحربين هـي فترة سلام للمسلمين هناك، بل عانوا من محاولات إخراجهـم من الإسلام بالقوة، وحرمانهم من الحدود الـدنيا للتمتع بثقافتهـم، وكان المسلمون - خارج البلقان - وقتئذ مغلوبين على أمرهم. حتى تركيـا وقعت معـاهدة مـع بلجراد قبيل الحرب الثانيـة لتهجير نصف مليون مسلم من يوغسلافيا إلى تركيا بحجة أنهم أتراك! إلا أن الخلافـات الأخـرى الصربيـة الكـرواتيـة في فترة مـا بين الحربين، ثم تفجر الحرب العـالمية الثانية أدخلت القوميات المتنازعة في حروب أهليـة حتى انتصار (الأنصار) بقيادة جوزيف بروز تيتو وإنشاء الاتحاد اليوغسلافي بعد الحرب الثانية بـأيديولوجية اشتراكية وأفكار جديدة. الهندسة الاجتماعية الأفكار الجديدة للاشتراكية والشيوعية لم تستطـع أن تقدم حلولا ناجزة للصراعات القومية في يوغسـلافيا، فقط سكنتها، فالشعارات الثلاثة التي رفعها جوزيف بروز تيتـو بعد الحرب العالمية الثانية، وقد حكم لمدة تقارب أربعـة عقود، وهى التسيير الذاتي- والذي ظهر في شكله المعـروف بمجالـس العمال - والأخـوة والوحـدة في شعارهـا التوافق العرقي من خلال حكـم الحزب الواحد، والحياد في السياسة الخارجية. هذه السياسـة المعتمدة على الركائز الثلاث ظهر - في بداية الأمر - أنها تحقق مصالـح القوميات المختلفة، إلا أن اعتماد تيتو على التعدديـة الإقليمية بدلا من التعـددية السياسية، جعـل بذور الصراع القومي تخبو تحت طائلة القسر السيـاسي وشبهة الرفـاه الاقتصادي بدلا مـن أن تنطفىء وتقطـع جذورهـا باعتماد التعـددية السيـاسية، فـاعتمـدت نظـريـة الهنـدسـة الاجتماعية وهـى التكيـف القسري للتجمعـات العرقيـة والـدينية والقـوميـة لعلاج المسـألـة القومية، والاعتماد على البعد الطبقي مع إهمال أو القفز على الواقـع العرقـي والثقافي. وكـانـت عوامل الاستقطـاب العـرقـى تنمو في الاتحاد اليوغسلافي دون أن يعترف به أحد من القيادات علنا، ولكنه يـمارس في الواقع، وأصبحت عوامل التآكل السياسي في الاتحاد اليوغسلافي تنمو وتتجـذر. وما أن توفي جوزيف تيتو في 1980 حتى أصبحت القيادة الجـماعية المسنة للحزب الشيوعي اليوغسلافي غير قادرة، ولا راغبة، في تطوير سياسي صحي. وفاجأتها أحداث الليبرالية النامية في الاتحاد السوفييتي من أفكار عن العلنية والمشاركة والانفتاح وتداعي النظـام الاشتراكي القديم من حـولها في أوربا الشرقية، وقد سـاد العقدين الأخيرين من حكـم تيتو اضطـراب اقتصادي أخذ يتـزايد بمرور الزمن، فبعـد أن كانت يـوغسلافيا أرخص بلـد في أوربا في الستينيات، أصبحت منذ السبعينيات أكثرها غلاء، ونافست عواصم البلدان الكـبرى من حيـث الأسعار مع ارتفاع مطرد في نسبـة البطالة وانخفاض في مستوى المعيشـة. وتضاعـف التضخم المالي بصـورة رهيبة حتى أصبحـت تنافس أكثر بلـدان أمريكا اللاتينيـة سوء إدارة وفسادا، ووجدت يوغسلافيا نفسها فريسـة لفوضى اقتصادية عارمة مهدت لإشعال نيران الفتنة وظهور نعرات القـومية، ودفع ثمن هذه الفوضـى الاقتصادية أول من دفـع القوميات الأقل حظـا في السلطة الاتحادية وبدأت مرحلة الاستقطاب القومي والعرقي. الاستقطاب العرقي الاستقطاب العرقي في الاتحاد اليوغسلافي يمكـن تقصيه منذ بداية الثمانينيات عنـدما انفجر شغب في إقليم كوسوفو في أبريل 1981، وقام مـواطنو الإقليـم من القـومية الألبـانية بمظاهرات ضـد فشل السياسة الاقتصادية لبلجراد في تحسين أحـوالهم المعيشية، واتجه الشغـب إلى أخـذ اتجاه ضـد الصرب وكـانـت ردة فعـل الصرب المحليين الغضـب والادعاء أن الألبان قد اعتدوا على نسائهـم. كـما أخذ الصرب في المناطق الأخرى خاصـة صربيا في تبني فكرة أنهم قد اضطهـدوا تحت الحكم الشيـوعي، وظهر ذلـك في وثيقة أصـدرتها الأكاديمية الصربية للعلوم والثقافـة، ورغم أن هذه الوثيقة لم تنشر في يوغسـلافيا - وهـي تذكـرني ببروتوكولات حكماء صهيون - إلا أن الرأي العام العالمي قد وقف على أهـدافها ومضامينها، واتهمت هذه الوثيقـة النظام اليوغسلافي الشيوعي بأنه قد حرم الصرب مـن أية امتيازات وقطع أوصال مناطقهم وأعطـى القوميات الأخرى حقوقا تفوق ما أعطاهم، وأصبحـت هذه الـوثيقة دستور عمل للقوميين الصرب المتشـددين وقـاعدة العمل لتكـوين الصرب الكبرى، عن طريق التطهير العرقـي لكل مـا لا ينتمي إلى الصرب في جمهـوريات وأقاليم يـوغسلافيا السابقة، خـاصة في تلك المناطق التـي تعيش فيها مجموعة كبيرة من الصرب وعلى رأس هذه المناطق جمهوريـة البوسنة والهرسـك. فصرب البوسنـة والهرسك - مـدعومين بـالصرب في جمهوريـة صربيا وكذلك في جمهوريـة الجبل الأسود - يبغون تطهير البوسنـة والهرسك من المسلمـين، ويمكن أن يحدث التطهير العـرقي للمسلمين في جمهوريات يوغسلافيـة أخرى مثـل جمهورية مقدونيا التي توجد فيها أغلبية مسلمة بجانب المقدونيين، أو إقليـم كوسوفو الـذي توجـد فيه أغلبية مسلمـة ألبانية وأقليـة صربية. خاصة أن كوسوفو تعتبر "قدس الصرب " لأنها في وقت مـا كانت جزءا أساسيا من دولة الصرب في القرون الوسطى. كـما أن احتمالات الصراع ليست فقط محصورة بين المسلمين والصرب، ولكنها أيضـا مـوجودة بل ومتفجـرة بين الصرب والكـروات وبين الأخـيرين والمسلمين. تفكك الاتحاد شهدت الثمانينيات مخاض التفكك اليوغسلافي على خلفية سياسية تتوسع في نبـذ الأيديـولوجيـة الاشتراكية وتحت ضربـات الوضـع الاقتصادي المتردي، ففي نهاية 1991 عقـد قادة الجمهوريات اليـوغسلافيـة مجموعة من الاجتماعات للوصول إلى مخرج دون جـدوى. فهددت سلـوفينيا وكـرواتيا بـالخروج من الاتحاد في نهايـة يونيو إذا لم يتـوصـل الاتحاد إلى حل مشكـلاتـه، وبـالفعل أعلنـت كرواتيا وسلوفينيا خروجهما من الاتحاد، وفي 25 يونيو 1991 أعلنتا استقلالهـما، فـما كـان من الجيـش الاتحادي الصربي إلا أن هاجـم أولا سلوفينيا ثم انسحـب منها معترفا باستقلالها بعد مفاوضات، بسبب وجود أقلية ضئيلة صربية، ليهاجم كـرواتيا، وأصبحت مدن كرواتيا التاريخيـة تحت رحمة المدافـع الصربية خـاصة المدينـة التاريخيـة دوبروفنك، وعطلت أغلب المصانع الكرواتية وزحف الصرب على المنـاطق الكـرواتية في أولى عمليـات التطهير العرقـي، وقد مـارس الصرب هناك جميع أشكال العنف والدمار على مدى ستة شهور قبل أن يتفق الجانبـان في يناير 1992 على إنهاء الحرب التى أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف من الضحـايا، وتزامن ذاك الاتفاق مع اتفاق الطـرفين الكرواتي والصربي على اقتسـام البـوسنـة والهرسك والتي يوجد فيها حجم معقول من الكروات والصرب بجانب المسلمين. وبعد أن اختار المسلمون والكـروات الاستقلال وإعلان دولة لهم في البوسنة والهرسك امتدت الحرب إلى هناك، ومن أجل السبـب نفسه: تحقيق حلم صربيا الكبرى، وقررت مليشيات صرب البوسنة والهرسك أن تبسـط سيطرتها على أكبر جزء من الجمهوريـة لإلحاقهـا بـالدولـة الصربية الأم، وعلى الرغم مـن أن الصرب لا يشكلون أكثر من ثلث السكان هناك، فإنهم الآن يسيطرون على حوالي 70 %. من الأرض. وشهدت هذه الحرب جرائم تقشعر لها الأبدان واستخـدم مخزون السلاح الهائل للجيش الاتحادي لتغذية المليشيات الصربية والجماعات المرتزقة لارتكاب أكبر فظائع إنسانيـة أمام سمع العالم " وبصره، وتحالف الكروات فى البوسنة والهرسك مع المسلمين، إلا أن ذلك لم يمنع اندلاع قتال ينهما أيضا. الأبعاد الدولية استحوذت الأوضاع في جمهوريات يوغسلافيا القديمة وفي البوسنة والهرسك على وجـه الخصوص على اهتمام عالمي، فهناك جنود روس يحاربون مع الـصرب الأرثوذكس، وجنود ألمان أو نمساويون يحاربون مـع الكروات وهناك مجموعـات صغيرة مـن المسلمين يحاربون مـع البوسنيين، والغرب يمنـع السلاح ويسد الطـريق على وصولـه إلى المحاربين المسلمين في الوقت الذي تتدفق فيه الأسلحة والمعونات من الصرب والجبل الأسود على المليشيات الصربية. ومستقبل الموقـف ينطـوي على تفاعـلات بـالغة الحدة والعنـف، ويمكن أيضا أن تقود إلى انعكاسات دوليـة من جراء استمرار مثل هذه الحرب. الاستراتيجية الصربية المتبعة في الحرب قـائمة على الإبادة الجـماعية أو التطهير العرقي للبـوسنيين المسلمين. وقد قتل عشرات الآلاف في هذا الصراع ومئات الآلاف هجروا موطنهم ليصبحـوا لاجئين في مناطق عديدة في الغرب وبعض دول العالم الأخرى. والآن.. فـإن أمام الغـرب أساسا والعالم بعـد ذلك قضيـة بالغة التعقيد، فالقرارات الدولية العديـدة التي أصدرتها الأمم المتحدة من خلال مجلس الأمن، ومنها الحصار الاقتصادي على جمهورية الصرب (ما بقي من يوغسلافيا) عديمة الأثر، ولقد كانت مثل هذه القرارات - المقاطعة الاقتصاديـة - قليلة التأثير في أمثلـة. أخرى من العالم مثل كوبا وجنوب إفريقيا، كـما أن تدفق مئـات الآلاف من المهاجرين هربا بحياتهم من مناطق القتال الـدموي في البوسنة يشكل عبئا ضخما على المجتمعات الأوربية والتي تشكو من أوضـاع اقتصادية صعبة بسبب التحولات الهيكلية في اقتصـادها والمتغيرات الناتجة من جـراء تفكك الإمبراطورية السوفييتية (اتحاد ألمانيا مثلا). كـما أن فـداحة الأزمـة اليوغسلافية وصعـوبة حلها مرده إلى التعقيد الشديد لشبكة التحالفات الدولية، فهناك دول كروسيا تعتبر نفسها حليفا تاريخيا للصرب وراعيا للقومية السلافية، وتخشى من تـراجع دعمها للصرب أن تتآكـل مكانتها القيادية لـدى الشعوب السلافيـة الأخرى في القارة الأوربية، وهذا مـا يشكل ضمانة نسبية للصرب كيما يستمروا في العدوان بوحشية ودون خشية من ردود فعـل حاسمة، بل إن أي تـدخل دولي في نظرهم مرحب به لأنه سيكون فرصة لتوسيع النزاع وتدويله. ماذا عن المستقبل؟ تبدو احتمالات استمرار وتوسع الصراع العرقي القومي الديني في يوغسلافيا السابقة احتمالات ممكنة، فالموقف الدولي تجاه هذا الصراع غير محسـوم، والأمم المتحـدة من خـلال تدخلهـا سواء عن طريق فرض الحصار الاقتصادي، أو وجود قـوات دولية تحمل شاراتها على أرض الصراع، أو من خـلال اللجنة الـدولية (أويـن- فـانس)، وتقديمهـا لحلول تقسـم بها أرض البوسنـة والهرسك بين الأطراف المتنازعة، يبدو أن هذه الحلول - مجتمعة ومنفردة - في المدى المنظور على الأقل غير قـابلة للتنفيـذ، كـما أن الخلافات بين الـدول الكبرى - وعلى وجـه الخصوص بين الـولايات المتحـدة من جهة وبـريطانيا وفرنسا من جهة أخرى - حول أنجع الحلول لمعـالجة المشكلة تعطل من اتخاذ قرارات حاسمة، بالإضافة إلى أن التناقضات والصراعات الأخرى في يوغسلافيا القديمة خـارج البـوسنة والهرسك تهدد بـانفجار قـومي ودينـي يشابـه ذاك الموجود في البوسنة والهرسك. فجميع الرواسب التاريخية مؤهلة للظهور على السطح. أحـد المخارج المحتملة هو التـدخل العسكـري النشط، إلا أن هـذا الاحتمال غير وارد في المدى المنظور، فالخلاف الغربي حوله قائم، كـما أن أي حرب ستكون مكلفة الثمن وطويلـة الأمد، فمن يمول هذه الحملة العسكرية الضخمة ومن يضمن نجاحها؟ وحتى يصل المجتمـع الدولي إلى حلول فسوف يظل المسلمون في البوسنة والهرسك تروسا في المذبحة البشرية ترتفع صرخاتهم ولا من مجيب !!.
|