الجانب الاستراتيجي في الوحدة الأوربية أمين هويدي

الجانب الاستراتيجي في الوحدة الأوربية

يبدو أن الاتحاد السوفييتي - باعتبار ما كان - سبب ويسبب صداعا وخوفا للولايات المتحدة وأوربا الغربية، سواء كان ذلك أيام الاتحاد الذي ولى وانقضى في سراديب البيريسترويكا والجلاسنوست، أو أيام الكومنولث الذي يوشك أن يتحلل ويتفكك.

أيـام الاتحاد السـوفييتي السـابق كـان العـدو موجـودا ظاهـرا يمكن تحديـده والعمل على مـواجهته بكل أدوات الصراع، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي أصبح عدو الأمس على مدى 45 عاما صديق اليوم، سعى إلى تحقيق الديموقراطيـة وحرية السـوق، ويـرغب في إلحاح في تقليل الترسـانات الحربية التقليدية والنووية على حـد سواء ممـا طرح سؤالا خطيرا أمام الولايات المتحـدة وحلفـائها الغربيين يتلخص في كلمات ثلاث: من هو العدو؟

والسؤال خطير وغامض وليست له إجابة سهلة أو متفق عليهـا، علما بأنه أمر يجب تحديـده حتى يتسنى لرجال التخطيط في البنتاجون أو قيادة حلف الأطلنطي وضع استراتيجيتهم المقبلة على أساسه. وأذكر أنه عندما كنت أتلقى دراستي في الخمسينيات في كليـة القيادة والأركـان بليفـورث- كانساس بالـولايات المتحدة الأميركية- أن كتابـا ضخما كان يوزع علينا وعنوانـه "العـدو" يـوضح كل صغيرة وكبيرة عن العدو وكان يومئـذ الاتحاد السـوفييتي فيتحدث عن منظماتـه وأسلحتـه وتكتيكـاتـه واستراتيجياته وشئونه الإدارية وأساليبه حتى يكون أساسـا ثابتا أمام الطلبة الضباط من الرتب العـالية وهم يعـالجون المشـاكل والمواقف في مشروعـات معقدة تستخدم الأسلحة التقليدية والنووية ضد العدو المذكور دون تحديده بـالاسم حتى لا تثار مشاكل سياسية هم في غنى عنها، وأظنك تتفق معي على أن هـذا كان على قمة النفاق في العلاقات الدولية. وإنني أتساءل الآن وفي ضوء التحولات الكبرى التي يشاهدها العالم عما إذا كان هذا الكتاب مازال يوزع على الطلبة؟ وإذا كـان الأمر كذلك فماذا تشير إليه كلمة "العـدو" الآن بعد تفكك الاتحاد السوفييتي كدولة وانهيار الشيوعية كعقيدة؟

التهديدات المنتظرة

وقد كشفت "النيـويـورك تايمز" الأميركيـة في أوائل عام 1992 عن بعض الـوثـائق السرية من ملفات وزارة الدفاع الأميركية تحدد 7 سيناريوهات لاحتمالات التهـديـدات المنتظرة، والتي قـد تدفع الغـرب وعلى رأسه الولايـات المتحـدة إلى خـوض حرب في السنوات العشر المقبلة. فقـد تقوم روسيـا بالهجـوم على لتوانيـا، أو تتعرض الفلبين لانقـلاب يعرض الأميركيين المقيمين هناك للخطر، أو يحدث انقلاب معاد في بنما وهي في بطن الولايـات المتحدة التي لا تسمح لأحد بأن يلعب في بطنها، أو أن يقوم العراق أو غيره من دول المنطقة بعدوان جديد أو أن يشهد العالم صعود قوة عظمـى توسعية جديدة. وفي تقديري فإن نشر هذه الوثائق كـان متعمدا في وقت مناقشة ميزانية الدفاع في الكـونجرس حتى لا تفقد المؤسسة العسكـريـة إلا الجزء اليسير من حصتها الضخمـة إذ لا يصـدق أحد أن وثـائق البنتاجـون أصبحت مباحـة إلى درجة وقوعها في يـد النيويورك تايمز أو غـيرها. وترتيبا على ذلك فإن الأمر الأكثر احتمالا أنها تسربت بفعل فاعل وعن قصد، وعلى أي حال فهي تشير بصفة قـاطعـة إلى أن الولايـات المتحدة تبحث عن عدو توجه إليه صواريخها وتنشط عن طريقه شركـات إنتـاج الأسلحة لتسد العجـز الشديـد في ميـزان المدفـوعات وتحد من البطالـة المتزايدة.

ولتجسيـد المشكلـة نشرت بعض الصحف قصـة رمزيـة تصـور حـوارا دار بين ضابطين في إحـدى الوحـدات المدرعة التي تتبع حلف الأطلنطي في أوربا. أحد الضباط واسمه هنري، يوجه حديثه إلى زميلـه قـائلا: يـا جـورج.. نحن نتـدرب يوميا في مشروعات عملية رائعة لزيادة قدرتنا القتالية، وهذا أمر يسعدني، ويزيد من سعادتي أن قواتنا تتدرب مع الوحدات المجاورة في أوربا والوحدات الصديقة في الشرق الأوسط، فهل أنت سعيـد مثلي؟ وبعد تفكـير يرد جورج على زميله السعيد قـائلا: ولكننا يا هنري نتدرب كفريق لا يعرف الفريق الآخر الذي سينازله ولا يعـرف الملعب الـذي ستجـرى فيـه المبـاراة!!. وأظن أن الحوار مـازال مستمرا بين جورج وهنري دون أن يصلا إلى إجابـة حاسمـة، إلا إذا كانـا الآن أنهيا خدمتهما العسكرية، أو يجوبان شوارع الصومال وهما يشهران السلاح، أو يشاركان في رسم الحدود بين العـراق والكويت، أو يوجدان مع زملائهما في المنطقـة شمال خط العـرض 36 أو جنـوب خط العرض 32 وغرضهما إسقاط صـدام حسين الذي ربـما لم يسمعا عنه، أو تفكيك العراق دون أن يعـرفا لماذا يتم هذا ولمصلحة من؟

البحث عن العدو

إذن فأوربا والولايات المتحـدة تبحثان في جـدية عن "العدو" الـذي تتبنى استراتيجية مواجهتـه. كان العـدو حتى منتصـف الثمانينيـات هـو الاتحاد السوفييتي، ولكن روسيا الآن أقرب إلى الصداقة لهم من العداوة، فعدو الأمس الذي أصبح صديق اليوم حائر هو الآخر لتحديد اتجاهه، في ظل النظام العالمي المراوغ الذي شـارك في صنعـه، نتيجـة للتحـولات الخطيرة التي بدأت بفرقعات موسكو، ثم انتشرت في كل مكان داخل حدود الكتلة الشرقي، وتجاوزتها بعد ذلك إلى كل بقعـة فى الكوكب الـذي نعيش فيه. فمن هي "الروسيا" الآن؟ سؤال خطير لتحديـد استراتيجية أوربـا الموحدة يصعب الإجابـة عنه. هل تركز مجهودها الرئيسي لكي تكـون دولة أوربية، فتتجـه غربـا لاستكمال بناء البيت الأوربي، بعكس الاتجاه الذي كان يتحمس له "ويلي برانت " المستشار الألماني الأسبق أثناء مناداته باستراتيجية "الأوست بوليتيك " أي الاتجاه نحو الشرق والتي ذهب ضحية لها لأنه نادى بها مبكرا في الوقت غير المناسب؟ طبعا كل دول أوربا ترحب بذلك، على الأقل لكي توازن الروسيا الجديدة مخاطر ألمانيا الموحدة، التي أصبحت كالمارد وسط أوربـا، كـما كانت دائـما منـذ أيام البرنس "أوتو بسمارك " مـوحد ألمانيا. ولا أظن أن الـولايات المتحدة تتحمس لهذا الاتجاه فوحـدة أوربا بعد تنفيذ اتفاق ماستريخت منذ أول العام الحالي مصيبة أقلقتها، وانضمام روسيا إلى العائلة الأوربية يصبح كارثة تضاف إلى الكوارث التي يـواجهها "بيل كلينتون" وهو في مكتبه البيضاوي بالبيت الأبيض. هل تركز روسيا لكي تكون دولة أوربية آسيوية، بالعمل كجسر بين الغرب والشرق، فتمد يـدها إلى الصين واليابـان والهند والنمور الأربعة؟ وهو اتجاه يغري من الناحيتين: الاستراتيجية والاقتصاديـة، خـاصـة بعد التعـاون المشترك بين اليـابـان والصين وجنوب شرقـا آسيا، وكـذلك التـدخل الأميركي الثقيل في هـذه الأماكن التي تشكل سوقـا يسيل لها اللعاب. هل تتجه روسيا جنوبا إلى الجمهوريات الإسلامية وبها ملايين الروس الذين يعيشون هناك منذ عهد القياصرة ثم عهـد الشيوعيين بعد ذلك، وحيث توجد المواد الخام وسهول القمح وآبار النفط والأسواق، وحيث يسعى ثالوث غامض لتركيز أقدامه هناك متمثلا في تركيا وإيران وإسرائيل؟ هل تتجه الروسيا إلى الشرق الأوسط مرة ثانية، حيث المخـزن الهائل للنفط - أي الطاقة- والـذي يشكل منطقة العبور إلى إفريقيا وهي المخـزن الهائل للمواد الخام. وبـذلك تكـرر الخطأ الـذي وقع فيه الاتحاد السوفييتي حينما تجاهل نصيحـة بطرس الأكـبر الذي ركز على أن تحصر روسيا نشاطها في الدول المتاخمة ولا تنفذ بعيدا إلى المجهول!

أسئلة تحير واضعي الاستراتيجية في الجناح الغربي من البيت الأوربي لا أظن أنهم يعرفون لها إجابـة حتى الآن على وجه التحديد.

مصير الإسلام في أوربا

ويزاد الأمر غمـوضا أمام الجانب الاستراتيجي للوحدة الأوربية، نتيجـة لموقف الولايات المتحدة منها، إذ تشعر واشنطن أن حاجـة أوربا لها تضاءلت بعـد سقوط الاتحاد السـوفييتي، فأوربا كـانت تحقق أمنها تحت المظلة النووية الأميركية، التي كانت تحول دون انتشار أقوى جيش بري في العالم - وهو الجيش السوفييتي - نحو الغرب. والولايات المتحدة تصر على أن تحتفظ بوجـودها قويـا في أوربا، خاصة بعد توحيدها، ومازالت تلعب بـأصابعها لإثارة المشاكل أمام هذه الـوحدة، إلى حد إثارة التناقضات العلنية، كـما يحدث حاليـا في مشكلة البلقان إذ - وكـما يبدو - فإن السياسة الأميركية هناك تحاول بناء الجسـور الراسخة مع كل من تركيا وألبانيا والأقليات المسلمة في بلغاريا واليونان ويـوغسـلافيا وتعترض على المشروع الـذي اقترحه الـوسيطان الـدوليان اللـورد ديفيد أوين (عن الجـماعة الأوربية) وسايروس فانس (عن الأمم المتحـدة) لأنه مشروع يكـافىء المعتدي الصربي ولا ينصف الشعـب المسلم في البـوسنـة، وأدخلت التعـديلات المنـاسبة عليه برغم أنه كان مثل آراء الدول الأوربية ومصالحها، والتي لا تنسى أبدا أن العثمانيين المسلمين هـددوا أوربا من الشرق، وأن المسلمين وضعوا أرجلهم في الأندلس مهددين إيـاها من الغـرب، وتتمنى لو أنها أجهـزت على كل بقعة مسلمة في القارة حتى لا يكرر التاريخ نفسه. والـولايـات المتحدة تتخـذ هذا الموقف لأنه يحقق مصالحها، ولأن البوسنة وألبانيا بعيـدتان عنها، ولتكتشف الموقف الأوربي المتقاعس عن الدفاع عن أبسط حقـوق المسلمين والمباركـة الضمنية لما اقترفه الصربيون من فظائع، ثـم يزداد الموقف الأميركي وضـوحا في "كـوسوفو" إذ أعلنت وبحـزم أنها لن تسمح للصرب بتكـرار جرائمهم وسيـاستهم في البوسنة، وأنها ستستخدم القوة إذا أقدم الصرب على استخدام القوة ضد الألبان في "كوسوفو" ثم قامت الولايات المتحدة بعـد ذلك - بطريقـة منفردة - بإسقاط إمدادات الإغاثة فوق المناطق التي تحتاج إليها في البـوسنة مستخدمة أسطولا صغيرا من طائرات هرقل س - 130 ولم تشارك أوربا بأي جهد في هـذه العملية سـوى مـا أعلنتـه قيـادة حلف الأطلنطي من أن طائرات للمـراقبة والإنـذار من طراز " أواكس " تابعة للحلف ستدعم عملية إسقاط المساعدات الإنسانية فوق البوسنة.

فـالأغراض السيـاسية اختلفت بين الحلفـاء والأصدقـاء، والعدو الـذي كان يجمعهم قـد انقلب فجأة إلى صديق، أو على أقل تقـدير لم يعد يشكل تهديدا لهم ولفترة طويلة قـادمة، الأمر الذي يصعب الأمور لوضع استراتيجيـة واحدة، لأن المفروض في الاستراتيجية أن تحقق سياسة متفقا عليها وهذا غير موجود، أو تواجه عدوا واحدا، وهذا قد غاب واختفى.

هـذا علاوة على اختـلاف وجهات النظر بين الدول الأوربيـة والولايات المتحـدة من جانب وبين الدول الأوربية بعضها وبعض من جانب آخر على الأمور الاقتصادية، مثل تطبيق اتفاقيـة " الجات " المعروفة بـاسم الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة، والتي تـدعو إلى المزيد من إزالـة الحواجز الجمركية بـين دول العالم، وإلغاء دعم الصادرات وسياسة الإغراق في التجارة الدولية. وبنود الاتفاقية لا تنفذ بطريقة ترضي جميع الأطراف، مما يجعلها تهدد بالحواجز الجمركية وفرضها بين الدول المختلفة. وآخر هذه التناقضات نشب حول الـدعم الحكومي الأوربي لشركة صناعة الطائرات الأوربية "إير باص" والتي تمولها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا، والتي أدت منافستها لشركـة صناعة الطائرات الأميركية "ماكـدونـال دوجـلاس " إلى انخفاض مبيعـات الشركـة الأميركيـة من 25% من حجم السوق العالمية إلى 15% وعلاوة على ذلك فإن هناك خلافـات حـادة بـين الـدول الأوربيـة على العملة الأوربيـة، أدت بكل من الـدانمارك وبريطانيا إلى الانسحاب منها، مما عرض وحدة العملة الأوربية إلى هزات كبـيرة، وربـما يجعـل مستقبلها غـامضا، بـالرغم من التصريحات المشجعـة لكل من بـون وباريس عن تمسكهما بالاتفاق.

والذي نريد أن نقـوله حتى الآن دون الدخول في تفصيلات أكثر هو أن هناك صعوبات حقيقية أمام الاستراتيجية الجديدة لأوربا الموحدة:

* فمن هو العدو الذي تواجهه هذه الاستراتيجية؟

* غموض مستقبل روسيا، من ناحية استقرارها أولا، واتجاهها المرتقب ثانيا.

* الخلافات السياسية والاقتصادية بين أوربا والولايات المتحدة من جـانب، وبين الدول الأوربية بعضها ببعـض من جانب آخر، لأن اختفاء الحرب الباردة بين الشرق والغـرب أبرز حربا باردة أخرى بين الغرب والغرب في تنافسه على الجنوب.

أوربا والتصور الاستراتيجي

هذا الغموض ينعكـس بثقل كبير على التصور الاستراتيجي لأوربـا الموحـدة، فليس سهلا السير وراء ما نادى به ميخائيل جـورباتشوف في كتابه "البيريسترويكـا" عن البيت الأوربي لأنه كـان يعني طرد الولايـات المتحـدة من البيت، فهو مبرر به حـلاوة حينما يفهم على أنـه يركـز على استبعـاد الخلافات التاريخية بين دول أوربا، وفي الوقت نفسه به خبث ومرارة لأنه يعني شق الصف الغربي بإبعاد الولايـات المتحدة، وكأنه يريد أن تحقق روسيا عن طريق السلام ما فشل الاتحاد السوفييتي في تحقيقـه عن طريق السلاح، الأمر الـذي لن يقبل من دول أوربا والولايات المتحـدة في الوقت نفسه، وهذا يثير أزمة حلف الأطلنطي بعد زوال العدو الذي أنشىء الحلف لمواجهته، وبعـد حـل حلف وارسو الـذي أنشىء " الناتـو " للتصدي له. ومـن المعروف أن التخالفات تبنى ليس على أساس العاطفة والحب، ولكن على أسـاس الشعـور المشترك بـالخوف من تهديد معين متفق عليه. وكـما ظهر من حديثنا السابق فإن مصدر التهديد اختفى أو على أقل تقدير تغير نوعه. وترتيبا على ذلك فإن حلف الأطلنطي لابد أن يعاد النظر في مهامه ونظم علاقاته الجانبية، بل يذهب البعض إلى ضرورة حله، فقد زالت دواعي إنشائه، فهـو في حقيقته حاليا منبر سياسي أكثر منه حلفا دفاعيا، والأحلاف لا تعيش إلى الأبد بل تفتقد ضرورة وجودها إذا فقدت واجبها الدفاعي الجماعي الـذي أنشئت لتحقيقه، ولا نظن أن هذا التصـور يمكن أن ينفذ في المدى القريب، لأن السياسة العالمية هي سياسة قـوة، وممارسة الدبلـوماسيـة دون قوة تساندها مصيرها إلى الفشل.

إذن فوجود القوة ممثلة في حلف الأطلنطي أو أي حلف بتسمية أخـرى وشكل آخر أمر ضروري ولكن هناك تصورين بهذا الخصوص:

* التصـور الأول وهو التصـور الأطلنطي، وهو يتمسك بالارتباط الأمـيركي حتى في ظـل الـوحدة الأوربية، وهذا يستدعي استمرار وجود قوة أميركية كبيرة في أوربا حتى في حـالـة الحد من هذا الحجم لدواع اقتصاديـة، بـما في ذلك استمرار أن يكـون للـولايـات المتحـدة الكلمـة الأولى في قيادة الحلف كالوضع الحالي.

* التصور الثاني، وهو التصور الأوربي، بأن يكون لأوربـا الموحدة قـوتها الدفـاعيـة القادرة مع وجـود أمريكي بقـوات محدودة، وأن تتنـازل أميركـا عن تميزها في مجال القيادة.

هل تصبح أوربا دولة موحدة؟

واختيار أحـد التصورين يحتاج إلى قرار سياسي على مستوى القمة، ويتوقف أولا وأخيرا على نوع الوحدة الأوربية التي ستنتهي إليها الأمور، وهل ستصبح أوربا دولة واحدة تشكل الإطار السياسي للشخصية الأوربية؟ الأمـر الـذي يحتم وجـود استراتيجية دفاعية مستقلة أوربية داخل هذا الإطار، ولا مـانع عنـدئذ من ارتبـاطهـا بشكل مـا مع الاستراتيجية الأميركية، الأمر الذي يخالف الاتجاه الآخر، وهو الاتجاه المحافظ والذي كانت ومازالت تتزعمه مارجـريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيـا السابقة، إذ أبرز للوجود دولة أوربية عظمى سوف يكون لها أهدافها وأغراضها التي سوف تتعارض بالضرورة مع أهداف وأغراض الولايـات المتحدة، وهنا سوف نتحرك من نظام عالمى مستقر برئاسة الولايـات المتحدة، إلى نظام عـالمي له طابع التنافس بين كتله المختلفة. ولذلك فالأفضل أن تبقى أوربا كدول لها شخصيتها المستقلة مفتوحة لباقي الدول الأوربية خـارج المجموعة الأوربية، وعلى الأخص دول أوربا الشرقية.

ولكن إلى أي مدى تتجه نظرة أوربا الموحدة شرقا وهي تنظـر إلى الأمن الأوربي؟ لقـد عبر عن ذلك بريجنيسكي مستشار الرئيـس جيمى كارتر لشئون الأمن القومي فقال: وهل ستكون أوربا على أساس الوطنية الكبرى أو فوق الوطنية بطريقة أكثر عمقا أو أكثر اتساعا؟ وبمعنى آخر: هل ستتعاون دولها على جبهة أوسـع أكثر من تعاونها على جبهـة أعمق؟ وهو يعني ولا شك: هل ستبقى المجموعة الأوربية في حـدود الـدول الاثنتي عشرة التي تكونها حاليـا وتعمق علاقاتها على هذا الأساس، أم أنها ستسمح بالتعاون ليمتد إلى دول أوربا الشرقية بـما فيها روسيا، أي من الأطلنطي إلى الأورال إذا تهيأت الظـروف لـذلك؟ أسئلة تحتاج إلى إجـابات متفق عليهـا قبل التعاون على استراتيجية أوربا الموحدة التي تعاني من مشاكل عميقة تحول دون السرعـة في إقامة البناء الموحـد، فهناك فجـوة حقيقيـة بـين الاتفاقات التي يـوقع عليهـا الفـرقـاء وبين ما يحدث في طبيعـة العلاقـات الفعلية. ومن المجازفة أن نقيم حقيقة ما يحدث في ظـل هذا النظام العالمي المراوغ، فـمازال الوقت مبكرا لذلك. وعلينا أن نتذكـر القول المأثور لماوتسي تونج حينما سئل عن رأيه في الثورة الفرنسية فقال: "مازال الوقت مبكرا لتقييمها" أو حينما سئل عن رأيه في حل مشكلـة فـرموزا فقال: "لا يمل الصيني من الجلـوس على الشاطىء ألف سنة حتى تأتي السمكة".

مشاكل لا تنتهي

وكـما نرى فـوجود الاتحاد السـوفييتي كعدو كان مشكلة، وتحلله إلى روسيـا ودول. الكـومنـولث والـدول المستقلة مشكلة أكـبر، فالناتو كـان يشكل المنبر الرئيسي للأمن الجـماعي الأوربي مستظلا بالمظلة النووية الأميركية، ولم تدخله 4 دول رئيسية أوربية هي: سويسرا والسويد وأيرلندا والنمسـا، وكانت الولايـات المتحدة مهيمنة عليه، وكـان نظام الناتو يحرم تعامله خارج منطقته، أي خـارج أوربا، ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتحلله أصبح التهديد غير واضح ومراوغا، والولايات المتحـدة تعارض مبادرة أمنية أوربية منفردة، وهددت في اجتماع يونيو - حزيـران - 1992 للحلـف بأنها ستنسحب من أوربا لو قامت بتلك الخطوة، وقامت فـرنسا وألمانيا ببناء نواة منظـومة دفـاعيـة للجماعة الأوربية، لأن السياسة الأوربية لابد أن يكون لها أنياب.

هـذا يحدث في أوربـا التي تعيش الآن في بحـر متلاطم من المشاكل تريد لها حـلا، أما نحن فنعيش في بركة مملوءة بالمياه الآسنة، عاجزين عن التفكير في التحولات الكبرى التي تفرقع من حـولنا، غير قادرين على أن نلقي في مائنا الراكد شيئا حتى ولو كان حجرا!

 

أمين هويدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أصبح عدو الأمس على مدى 45 عاما صديق اليوم





نموذج للتصميم المقترح للعملة الأوربية الموحدة





غورباتشوف والبيريسترويكا





جرائم الصرب في البوسنة والهرسك