كتاب
الدكتور محمد جابر الأنصاري "تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها - مهام عاجلة أمـام
المثقفين العرب" هـو كـما يقـول عنه الناشر "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" بحق
"عدة كتب في كتاب واحد"، ذلك أنه تناول مشكلات النهضة من زواياها المختلفة، ففي
المدخل تم طرح الأسئلة التي يمكن اختزالها هنا في سؤالين: الأول عن سبب ذلك التناقض
الحاد بين عمق المأساة - مأساة النهضـة - واستفزازها، وبين ضعف الاستجابة لتلك
الأزمة. أما السـؤال الثـاني، وهو سؤال متكـرر ومحير في الـوقت نفسه، فهو: لماذا لم
تحسم الأمة العربية مصيرها وتكمل نهضتها وتحقق أهدافهـا كـما فعلت أمم شرقية كثيرة
غيرها؟ (ص 14).
ومن خلال الأبـواب
الثمانية المكـونة للكتاب يقوم المؤلف بتفصيل الأسئلة، وطرح بعض الإجابات، مخترقا
أكثر من بعد من أبعاد الأزمة. ففي البابين الأول والثاني يتم التركيز على الأسس
والأصـول العامة للأزمة، حيث يكـون الباب الأول بمثابة تشخيص للأزمة والكشف عن
أسبـابها "في أصـول التأسيس النهضوي الجديد". أما الباب الثاني "خلدونيـة لا
ماركسية " فيحـاول اقتراح سبل الخلاص من الأزمة بـاقتراح فهم منهجي أعمق للظاهرة
الاجتماعية العربية، وهو الفهم الذي يتحـرك من اجتماع ابن خلدون بديلا عن النظريات
المنتجة في سياق اجتماعي وثقافي مغاير. بعد تشخيص أصول الأزمة وأبعادها واقتراح
الحلول يتحرك الكتاب في أبـوابه الستة الأخرى في محوري الأدب والثقافـة. يناقش
الباب الثالـث "اللا معقول وصحـة العقل العربي " قضية الإبداع الأدبي خاصة، بينما
يهتم الباب الرابع بإشكـاليـة التعريب بوصفها "معركـة وجـود الثقافة العربية ". في
الباب الخامس يتعرض المؤلف لإشكـاليـة "النفط والثقافـة" متسائلا: كيف يمكن ضخ
النفط في عروق الثقافـة العربية؟ وهي إشكالية تطرح زاوية متميزة من هذه العلاقـة
الشائكة بين النفط والثقافة، وذلك لأنها تطرح تساؤلا مضمرا مهما فحـواه: هل انتقل
العرب إلى عصر النفط بالمعنى الحضاري، أي عصر الاكتشـاف والتصنيع والتكنولوجيا بكل
ما يترتب على ذلك من تغير هيكلي بنيوي وعقلي ثقافي، أم ظلوا عنـد حـدود الانتفاع
بالثمرة دون المساهمة في عمليات إنتاجها وتصنيعها على جميع الأصعدة؟ والسؤال بهذه
الصيغة ليس سؤالا غريبا عن إشكالية الأزمة والنهوض.
من إشكالية النفط
والثقافة يتحرك الكتاب إلى محور الفجوة بين المشرق العربي والمغرب العربي ثقافيا،
وبدلا من أن يكتفي بمناقشة المشكل كـما يطرح عادة في شكاوى المغاربة من استعلاء
المشارقـة، ينقل المؤلف القضية إلى مستوى علاقة المركز بالأطراف في الثقافة
العربية. في هذا السياق تنتفي ثنائية المشرق والمغرب في بعدها الجغرافي ليناقش
المؤلف أزمة الاتصال الثقافي من منظـور أوسع وأشمل، لكن إشكاليات الثقافة العربية
لا تكتمل إلا بمناقشة علاقة الثقافة العربية بالثقافة الأخرى - الغربية بصفة خاصة-
لتكتمل دائرة السؤال والجواب في بناء الكتاب. يتم في هذا الباب السابع الإجابة عن
السؤال: لماذا فشلت الأمة العربية في حين نجحت الأمم الشرقية الأخرى - اليابان - في
تحقيق النهوض؟. لا يبقى من الكتاب سوى الباب الثامن "الثقافـة العربية في همومها
اليومية" وهو نقاش لبعض القضايا التي نقابلها هنا وهناك في الأبواب السبعة
السابقة.
نقد
الذات
بعد هذا الاستعراض
لبنية الكتاب الذي كتبت فصوله ومقالاته على فترات متباعـدة نرى أن هذا لم يمنع من
وجود بنية تعتمـد على مركزية قضية أزمـة النهوض العربي. من هنا سيكون حوارنا مع
الكتاب حـوارا يدور على محاوره الأساسية: المحـور الأول: محور توصيف الذات ونقدها،
المحـور الثاني: محور توصيف الآخر (الأوربي خـاصة) ونقـده، والمحـور الثالث: محور
آفاق الحل المفتوح.
وقبل أن نبدأ
حوارنا حول المحـور الأول لا بد من إقـرار أن مبدأ "نقد الذات " من المبادئ المهمة
جـدا التي يعتمد عليها هذا الكتاب. واعتماد هذا المبدأ يعد في ذاته طرحا مبشرا
بإمكان التعامل مع الأزمة تعاملا صحيا وصحيحا. نقول هذا في البداية لأن المؤلف وإن
كان يطرح "الحل الإسلامي " بوصفـه الحل الحضاري الشامل لأزمتنا الراهنة (ص 54 - 255
وانظر كذلك ص 310) لا ينطلق من مبدأ "تبرئة الـذات" وإلقـاء التبعة - تبعة التخلف -
على الآخر. المؤلف الذي يؤمن بمبدأ نقد الذات يرى أن البحث عن أسباب الأزمة يجب ألا
يتجه دوما إلى الخارج، فلولا الكيان الضعيف والهش- اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا- لما
أمكن للآخر استعمارنا. وعن أسباب هذا الضعف الكامن على جميع المستويات والأصعدة
يكون البحث بدلا من تعليق أسباب النكوص على شماعة الآخر. وليس معنى ذلك إعفاء أوربا
الاستعمارية تماما من جريرة الاستعمار، عسكريا كان أم استيطانيا أم ثقافيا
وعقليا.
إن لقاءنـا بالغرب
فيما يرى المؤلف لم يكن لقاء التكافؤ، لذلك نقاوم الاستعمار الغربي مقاومة خاطئة،
نقاوم التقدم بوصفـه جزءا من شخصيـة المحتل، وبعبـارة أخرى لا نفرق بين الاستعمار
الذي يجب أن نقاومه ونحاربه، وبين التقدم والحضارة التي يجب أن نأخـذ بهما (ص 63،
321). والسبب في هـذا الاضطراب في فهم الآخر واستيعابه كـامن في وعي الذات، ذلك
الوعي التجزيئي الذي يعزل الظواهر عن بعضها. البعـض، ويرد كل المشكـلات المتراكمة
إلى عامل واحد (ص 60، 108 - 109).
من هنا تنبع
الحاجة إلى فهم الذات وإلى نقدها بعيدا عن اللجوء إلى التبرئة الكـاملة المطلقة،
ودون الوقوع في جلد الذات بالإدانة الكاملة المطلقة. إنه منهج الفكر المفتوح الباحث
عن الحقيقة مهما كانت، لا نهج التفكير بالأماني والرغائب. وإذا كان من واجب الفكر
إدراك منتهى الحقائق، فـان من واجبـه ألا يـدعي امتلاك الحقيقة كـاملة، لأن ذلك
محال بـالنسبة لأي عقل إنساني. وسيكـون من الأفضـل في ضـوء التطـورات المعرفيـة
الجديدة في العـالم أن يتخـذ الفكـر شكل التـوجهات والأبعاد المفتـوحـة لا شكل
المقولات النهائية (ص 79) هذا البحث عن الحقيقة هو الباعث المحرك لنقد الذات بعد
محاولة اكتشاف خصائصها بشكل موضوعي دون مبالغة أو تهوين. وفي سبيل البحث عن هذه
الخصوصية يقترح المؤلف البدء بما انتهي إليه ابن خلدون في دراسته للواقع العربي في
زمانه وقبل زمانه، أي للتاريخ في سياقه الاجتماعي. لكن المؤلف يضع فاصلا حادا - لا
نتفق معه فيه - بين إنجازات ابن خلـدون وبين الإضافات التاليـة عليه في سيـاق تطـور
علم الاجتماع (ص 88). وهـو بهذا الفصل الحاد يكـاد يحول الخصـوصيـة إلى صفـات
جوهرية ثابتة، وليست خصوصية تاريخية.
ومع اتفـاقنا مع
المؤلف على أهميـة ابن خلـدون في تحديد طبيعـة الصراع بين البـداوة والحضـارة، ومع
اتفاقنا معه في أهمية البعد في تحليل الوضع العربي اجتماعيا وسياسيا، بل وثقافيا،
فإننا نرى أن هذه الأهمية يجب ألا تغفل الإضافات التي تحققت بعد ابن خلدون في مجال
علـم الاجتماع. ومن حسن الحظ أن المؤلف في دراستـه الخصبة جـدا للـواقع المصري كـما
تعكسه كتابات الجبرتي (ص 142 وما بعدها) قد أفاد من مناهج علم الاجتماع الغربيـة
كـما هو واضح من اعتماده على مفهوم الطبقـة في تحليله (ص 148). لقـد كـان إنجاز ابن
خلـدون خطـوة مهمة تساعدنا دون شك على وضع أيدينا على خصوصية الواقع العربي في
ثنائيته على جميع المستويـات والأصعدة بين قطبي البـداوة والحضـارة، لكن ذلك
التحصيـل لم يستقم للمؤلف بابن خلدون وحده، بل بابن خلدون متطورا بالقراءات التالية
له في سياق علم الاجتماع الراهن.
نقد
الآخر
إذا انتقلنا إلى
مناقشة المحور الثاني - محور توصيف الآخر ونقده - فلا بد من الإشارة مرة أخرى إلى
أن المؤلف لا يرى الآخر الأوربي من زاوية واحدة، فليس هو المعتدي المستعمر الغازي
فقط، وليس هو المتحضر المتقدم العقلاني فقط، بل هو مزيج من هذا وذاك. وإذا كانت هذه
الرؤية في كليتها صائبة فإنها تغفل البعد التاريخي، بمعنى أنها لا ترى الآخر
الأوربي في سياقه التاريخي الذي أفضى إلى الازدواجيـة الراهنة. هذا الإغفال للبعـد
التاريخي يجعل من ازدواجية الآخر صفة جوهرية ثابتة يمكن للذات أن تقترح عليه - من
منطق الاستعلاء والتفوق- كيفية الخروج من أزمتـه تلك، أزمـة الازدواجيـة. يـلاحـظ
المؤلف بحق أن التكنولوجيا الحديثة قد حققت تقدما هائلا في توصيل المعلـومات لكن
الاتصال الإنسـاني - أو بالأحرى التواصل بين البشر- قد أصابه الضعف والهزال حتى وصل
إلى حد الانعدام في الحياة الاجتماعية.
ومن المفارقـات
اللافتـة، من منظـور المؤلف، أن يحاول الإنسان الاتصـال بالعـالم الخارجي، وذلك
بإرسال مركبة فضائية إلى خارج مجموعتنا الشمسية تحمل رسالة صوتية عن الإنسان
وحضارته ومعاناته- هكذا يقول المؤلف- إلى مخلوقات ذكية في المجموعات الشمسيـة
الأخرى (ص 330). وهي محاولـة يعلق المؤلف عليها قـائلا: "إن إنسان الفكر المادي
هـذا وقد عزف عن سماع صوت الوحي السماوي المنزل القادم من الملأ الأعلى لهدايته،
أحس بالحاجة إلى تعويض هذا العزوف المنحرف بالبحث عن صوت آخر في الفضاء، يروي ظمأه
الإنساني إلى التواصل مـع الكون الأكبر، فكانت هذه المحاولة التعويضية التي لن تشفي
غليله، ولن تعـوضه عن صوت الـوحي الحق في الكتب السماوية، وهي تتلى عليـه بكرة
وأصيلا، فأي كـائنات تعوض عن ذلك؟ " (ص 333).
إن تلخيص الآخـر
الغربي في "المادية" التي تومئ إلى " الإلحاد" بقـرينـة البعد عن كلمـة السماء هـو
التلخيص المخل نتيجـة انحراف زاوية الرؤيـة. وهذا الانحـراف يحول الأنا- الذات
العربية- إلى واعظ وخطيب يمارس الاستعلاء من منطلق امتلاك الكلمة الإلهية. لكن
الأخطر من ذلك أن هذا الانحراف في رؤية الآخر يؤدي إلى انحراف في رؤية الأنا -
الذات العربية - وذلك حين يصبح الإسلام هـو وحده المعبر عن الخصوصية، خصوصية الأنا
في مواجهة الآخر. ومعنى ذلك أن مفهوم "الخصوصية " يختلف إذا نظرنا للـذات بصرف
النظـر عن الآخـر، فنـرى هـذه الخصوصية بكل ما يلابسها من أوضاع تستأهل النقد وتدعو
إلى التغيير. هذه الخصوصية تصبح من منظور علاقتنا بـالآخـر هي الإسـلام بكل ما
يلابسـه من روحانيـة هي السبيل الـوحيد لمواجهة مادية الآخر. هكـذا تتبدد الخصـائص
المكتشفـة في المحـور الأول لحساب التوصيف الأحادي الرؤية في المحور
الثاني.
لـذلك نعجب حـين
نجـد المؤلف لا يحدثنـا عن علاقتنا بالثقافة الأخرى إلا من خلال منظور "الغزو
الثقافي "، هذا رغم أنه كان حـريصا في المحـور الأول على أن ينبهنا إلى الفارق بين
"الاستعمار" و" الحضـارة والتقـدم ". يتحـدث المؤلف عن ثلاث غـارات في علاقتنـا
بأوربا: العسكرية ثـم التبشيرية ثم التربوية، ويرى أن غارة التعليم العصري والمدارس
الحديثة هي الغارة التي أمكن من خـلالها الاختراق التاريخي وفتح ثغرة كـبرى في
الجدار العـربي الإسلامي (ص 41). ولذلك لا تكـون محاولتنا للحـاق بركـب التقدم
والتحضر إلا في إطار "معـركة حضـارية" ص (71) ومفهوم المعركة بـديلا عن المشاركة
يعني أن الصراع بيننـا وبين الغـرب الاستعماري لا يتم على أرض السياسة فقط، بل يجب
بالمثل أن يتم على أرض الثقافة والفكر. وفي سياق حديثـه عن معركة التعريب، وحـين
يناقش المفهوم الحضاري الفكـري للتعريب يرى أنه لا يكفي أن تعبر عن علـوم العصر
وثقافتـه وحضارته بلغتنا العربية - فهذه خطوة أولى - وإنما يجب في نهاية المطاف مزج
ذلك كلـه بروحنا الإسلامية وأصالتنـا العربية وإخراج كائن حضاري جديد لا ينطق
العربية لسانا فحسب وإنما يجسد الروح العربية الإسلامية في الصميم، كـما فعل
المسلمون الأوائل عندما أنجـزوا تعريبهم الحضاري الأصيل بعـد أن اجتـازوا مرحلة
الترجمة (هامش ص 200).
ماهية الروح
الإسلامية
هـذا الحديث
المتكـرر عن "الـروح الإسـلاميـة" و"الأصالة العربية" يعني أن خصوصيتنا قد انحصرت
في هذه الروح وفي تلك الأصالة. ولا أحد ينكر بالطبع أن منظومة القيم والأعراف
والتقـاليد الموروثة عبر التاريخ قـد تواشجت مـع الإسلام والعروبة، لكن حصر
خصوصيتنا في هذا البعد وحده يعني أننا نتمتع بخصوصية لا زمانية جوهرية مفارقـة.
وهذا بالضبط هو الموقف السلفي الذي يوجـه لـه المؤلف أشد الانتقـادات في سيـاق
آخـر. وإذا كـان الحديث عن تعريب العلوم والأفكـار فإن المزج بينها وبين الروح
الإسلامية يفضي في نهاية الأمر إلى شيء شبيه بأسلمة العلوم والمعارف. والمؤلف على
كل حال وهو يتحدث عن الخصوصية التي يفيدنا ابن خلدون في اكتشافها يشير بشكل صريح
إلى حاجتنا إلى علم اجتماع عربي إسلامي مستمد من واقع تاريخنا لفهم هذا التاريخ
ومحاولة إعادته للخط السليم بدءا من ابن خلدون (ص 88). وليس خلافنا هنا مع المؤلف
في ضرورة مراعاة الخصوصية ولا في التحذير من مغبة إخضاع الواقع الاجتماعي تحليليا
للدخول في مفاهيم نظرية مسبقة - فهذه كلها مسائل بديهية في العلم - وإنما الخلاف
يكمن في تصور الخصوصيـة المفارقة التي تؤدي إلى اكتشاف قوانين علمية "إسلامية
عربية".
ليس بعيدا عن
وعينا أن المؤلف كثيرا ما يحرص على التأكيد أن اكتشاف الخاص بالأمـة من القوانين
المجتمعية والتاريخية ضمن العام في القوانين الإنسانية (ص 81)، وليس بعيدا عن هذا
العام، لذلك يبدو غريبا هذا الحرص على الخصوصية المفارقة من كل وجـه، وهو الحرص
الذي ينتج فيما نتصور من زاوية الانحراف في رؤية الآخر أحيانا. ولعل هذه الرؤية هي
التي دفعت لمواجهة حادة مع تيارات الحداثة في الأدب والنقد العربيين، حيث قام
بتصنيف تلك الحداثة في خانة "اللامعقول" و"السريالية" مؤكدا على خصائص الغموض
والغرابة والترميز المتصنع والصور المتناقضة المتقطعة ببشاعة وفوضى وتشويش يعرضها
في مختلف الأشكـال (ص 171). وبدلا من أن يرى المؤلف في ظاهرة الحداثة جانبا من أزمة
الثقافة العربية اكتفى بتوصيفها في خانة "اللا معقول الأوربي " مؤكدا بذلك رؤيته
اللا تاريخية للغرب عموما ولأوربا على وجه الخصوص (ص 172). صحيح أنه يعود في سياق
آخر ليتحدث عن "أدونيس المثقف المبدع " فاصلا بين إبداعه ومواقفه السياسية التي لا
يوافقه عليها (ص 364) وأدونيس هو ممثل الحداثة السريالية التي هاجمها، لكننا لا نعد
ذلك من باب التناقض، إذ هو اختلاف في زاوية الرؤية، فحين يفصل المؤلف بين السيـاسي
والثقافي تقترب أحكامه من الموضوعية. كذلك تقترب رؤيته للغرب من الانسجام حين يفصل
بين أوربا في مرحلتها الاستعمارية الإمبريالية وأوربا في نهضتها وإبداعها الحضاري.
في هذه الحالة يدرك الآخر في تاريخيته ويدرك الذات في تاريخيتها ويكتشف
خصوصيتها.
كيف نخطو نحو
النهضة؟
كيف يتحرك الجسد
العليل ليتغلب على أمراضه وأوجاعه لينهض؟ وبأي دواء يستشفي من دائه: هل الدواء الذي
ورثه عن الأجداد والمعبأ في أغلفة التراث كاف لتحقيق الشفاء؟، أم هو الدواء الحديث
المستورد من الغرب والمغلف بأغلفة التكنولوجيا؟ ليس السؤال بهذه الصيغة جديدا، بل
هو سؤال قـديم قدم مشروع النهضة في بداية القرن التاسع عشر. ولأن السـؤال القديم
يستدعي الإجابات القديمة الجاهزة، فقد طرح مؤلف كتابنا السؤال بطريقة مغايرة: ما
الذي فعلته أمم أخـرى كانت في مثل موقفنا الحضاري، لكنها تجاوزت الأزمة ونهضت
وحققت؟.
هناك مقارنات
عديدة بين نمطين من المجتمعات ونمطين من الثقافات: مجتمعات الإنتاج التي تنتج الفكر
والثقافة، ومجتمعات الاستهلاك التي تكتفي باستهلاك ما ينتجه غيرها على مستوى
الإنتاج المادي كما على مستوى الإنتـاج الفكـري والثقـافي. هذان النمطان من
المجتمعات والثقافات يشيران دلاليا إلى المجتمعـات الأوربية، مجتمعات الإنتـاج
المادي والفكري، وإلى المجتمعات العربية المستهلكـة لكل ما تنتجـه أوربـا من إنتـاج
مـادي وفكـري. وداخل المجتمعات العربية يمكن الحديث عن مجتمعات منتجة وأخرى
مستهلكة، لكن الإنتاج هنا له مفهوم مغاير، فهو في الـواقع إعادة إنتـاج إما للمنتج
الأوربي أو للمنتج التراثي. وباختصار فالإنتاج في العالم العربي - المادي والفكري -
هو إنتاج في دائرة الاستهلاك بشكل عام، وليس إنتاجا في دائرة الإبداع.
هذا التـوصيف
الدقيق للوضع الثقافي والاجتماعي العربي كـان من شأنه أن يتفاعل مع تحديد الخصوصية
في صراع البداوة/ الحضارة من جهة، وكيف ننتقل من حالة الاستهلاك إلى حالة الإنتاج
من جهة أخرى؟ والإجابة أن شيئا لن يتحقق إلا بالتحرر الشامل، التحرر بالثقافة
الإنتاجية التي عبر عنها المؤلف بأنها: "تدعو الإنسان إلى التفكير وتزرع فيه روح
التفاؤل وروح الجد، وتفتح أمامـه آفاق الكشف والاختراع والعطاء والإبداع، بينما
الثقافة الاستهلاكية تخدره بالكسل اللذيذ والمتعة العاجلة وتقتل فيه روح التساؤل
والتفكير والمعاناة وتحوله إلى عنصر سلبي يتلقى عطاء الغير دون عطاء منه لهم"
(253). ولكن حالة التحرر المطلوبة شرط لتحقيق الثقافة الإنتاجية، كما أنها حالة لا
تتحقق إلا في مناخ تسوده تلك الثقافة. هل نحن إزاء الدور المنطقي المعروف عند
الفلاسفة، أو بعبارة أخرى هل نحن إزاء لغز البيضة والدجاجة وأيهما كان في البدء؟
ليس الأمر كذلك على الإطلاق. لن نقف مـع المؤلف عنـد جعل الفكـر الحر شرطـا لتحقق
الديمقراطيـة، لأن ذلك الفكر الحر يتطلب المفكرين الأحرار المستعـدين للتضحية في
عصور الاستبداد والديكتاتورية.
والسؤال الآن هل
المثقف العربي مستعد لدفع ثمن إنتاج الفكر الحر؟ أم أنه سيتخلى عن دوره في إنتاج
الفكر كلما لاح له من السلطة السياسية طرف العصا أو طرف الجزرة، أو كلما برز له من
تحت طرف ثوب المعز السيف أو الذهب؟ إن علاقة المثقف العربي تاريخيا بالسلطة
السياسية من جهة، وبالعامة أو الجماهير من جهة أخرى، علاقة ليست فوق مستوى
الشبهات.
عودة إلى ابن
خلدون
و أردنا أن نناقش
المؤلف من داخل أطروحاته لقلنا إن تحليل ابن خلدون للعصبية، وهو التحليل الذي
استنبط منـه المؤلف أن "مفهـوم العصبية عنـد ابن خلدون هو الرابطة القومية" (ص 129
- 130)، يومئ إلى طرف من حل الإشكالية: أعني دور الدين عامة والإسلام بصفة خاصة، في
صنع التقدم وتحقيق النهضة. يلاحظ المؤلف عن ابن خلدون أنه يفصل بين الدين وبين قيام
الدول، ويعتبر أن العنصر الأساسي الجوهري في قيام الدولة هو العصبية - بالمعنى
القومي - والدين مجرد واحـد من عناصر تأسيس الدولة، وليس هو العنصر المهيمن أو
المؤسس. يقول: "وابن خلدون يتحدث في زمنه عن انقراض دولة العرب بأسرها، بينما هناك
دول عديدة قائمة في العالم العربي والإسلامي تقودها قوميات أخرى كـالبربر والترك
وغيرهم، دون أن يرى في هذه استمرارية لتلك، وهذا يعني أنه لم ينظر للتاريخ الإسلامي
نظرة مثالية تعتبر دوله المتتالية استمرارا لدولة إسلامية واحدة يحكمها الدين،
وإنما نظر إلى ارتباط تلك الدول بالقوميات التي أقامتها" (134).
وبصرف النظر عن أن
مفهوم الدولة عند ابن خلدون يشير إلى السلطة، فإن في فصله بين الدين والديمقراطية،
وفي إصراره على هذا الفصل، بل وفي تأكيد حاجة الدين إلى العصبية، ما يتناقض كلية مع
شعار "الإسلام هو الحل ". لكن المؤلف لا يقف من هذا الفصل في فكـر ابن خلدون بين
الدولة والدين إلا عند مغزى عدم التناقض بين العروبة والإسلام: "لا إسلام بلا
عروبة، ولا عروبة بلا إسلام " (ص 136). هكـذا يضيع من المؤلف المغـزى الأهم
والأخطر: أن الدين عنصر من عناصر النهوض، عنصر مهم وحيوي لا شك في ذلك، بشرط فهمه
فهما علميا عقلانيا وتأويله تأويلا عقليا. الأهم من ذلك أن توضع معادلة النهضة في
سياقها الحقيقي: فهم الذات في تاريخيتها وفي خصـوصيتها، وفهم الآخر - وليس الغربي
فقط- في تاريخيته وفي خصوصيته، والتمسك بالحقيقة في إنتاج الفكر سعيا إلى التحرر،
وذلك بتحرر المفكـر نفسه من رهبة السيف ومن رغبة الذهب، أيا كان الواهب: خليفة
المسلمين أم شيخ القبيلة أم ساري عسكر. لقد كان نقد الذات في هذا الكتاب من أهم
الإنجازات، لكن نقد الآخر خارج إطار فهمه التاريخي أدى إلى العودة إلى تبرئة الذات
من باب خلفي. وكـان الحل المقترح إعادة صيـاغة للحلول الجاهـزة. لكن يظل لهذا
الكتاب فضيلة طرح الإشكاليات والتردد في طرح الإجابات الحاسمة القاطعة كحد السيف.
وهو لذلك كتاب جدير بالقراءة ويغري بالمشاغبة والخلاف، وما أقل الكتب القادرة على
إثارة الشغب في حياتنا الراكدة.