حكايتان عن ثورة 1919 المثقف والباشا
الحكاية الأولى: سلامة أفندي موسى
كان سلامة أفندي في زيارة سريعة لقريته بهنباه بالشرقية، المرة الوحيدة التي يزور فيها القرية منذ أن عاد من أوربا، أحسّ أنه انتقل إلى عالَم مختلف ينتمي إلى القرون الوسطى، لم تسعفه ذكريات الطفولة بأي شيء إيجابي، وتحولت السنوات التي قضاها في باريس ثم في لندن من مجرد صور زاهية إلى مجرد حلم، كأن لم يكن.
كان جالسًا في بيت أبيه على مقعده القديم نفسه، يراجع حسابات الأرض التي ورثها منه، سمع صوت صراخ النسوة قادمًا من الخارج، خرج إليهن مسرعًا، كن ثلاثة نساء بسمرتهنّ المدبوغة وأجسادهن النحيلة، وخلفن حفنة من الأطفال الذين تبدو عليهم علامات الجوع، صرخت واحدة فيه: «أخذوا رجّالتنا يا سلامة أفندي، كانوا يعملون في أرضكم عندما انقضّوا عليهم».
هتف مندهشًا: مَن؟ صرخت الثانية: العسكر... السُّخْرة. في كلمتين، لخصت المرأة المأساة كلها، عادت السخرة رغم أنف الجميع، الإنجليز يجمعون الرجال من كل القرى، لم يكن في حاجة ليعرف أين يذهبون بهم، أحسّ أنه مسؤول عنهم، ففي النهاية كانوا يعملون في أرض أبيه، أرضه.
ارتدى ملابسه وأسرع في الطريق المؤدي إلى مركز البوليس، لكنه فوجئ بطابور طويل من الفلاحين، كان كل واحد منهم مربوطًا بحبال غليظة حول وسطه، وحولهم رجال الشرطة يمسكون السياط ويسوقونهم، يلوّحون بها في الهواء، فتصدر حفيفًا مرعبًا قبل أن يهووا بها على ظهورهم.
الكرباج الذي كان اللورد كرومر يتفاخر بأنه قد ألغاه، لكن الحرب وحاجة قومه الإنجليز إلى الرجال جعلتاه يعود إلى كل الموبقات القديمة، السُّخرة والكرباج.
رأى رجاله الثلاثة بين المربوطين، تقدّم من العسكري وأخرج له بعض النقود، الأمر الذي ينجح دائمًا، لكن العسكري هزّ رأسه رافضاً: لقد تأخرت يا أفندي، المأمور يعرف عدد الأنفار ويقف في انتظارهم، الطابور كلّه مربوط، لو فككنا عقدة واحدة سينهار كل شيء... أنا عبد المأمور، اذهب وتفاهم معه.
لم يجد سلامة أفندي بدًّا من السير مع الطابور حتى مركز البوليس، وهناك رأى المأساة بصورة أوضح، كأن مصر قد أصبحت قرية على خط الاستواء هبط عليها النخاسون واستولوا على كل ما فيها، ليس البشر فقط، لكنّ المحاصيل والحمير والجمال أيضًا، ذُهل من كمية البشر الذين تم القبض عليهم أو اختطافهم من كل القرى، أخذوا كل مَن يقدر على العمل، لم يهمهم خراب الأرض ولا بوارها، ولا مئات الأسر التي فقدت عائلها الوحيد. كان المأمور واقفًا فوق مكان مرتفع كأنه إله وثنيّ قديم، يتدافع الرعايا عند قدميه، شعر سلامة أفندي بالرهبة وهو يقترب منه، نظر المأمور إليه طويلًا ثم قال: مرحبًا يا سلامة أفندي... سأله في دهشة: هل تعرفني؟
قال المأمور: أعرف أن والدك من الملاّك في هذه المنطقة، وأعرف أنك تكتب في بعض الصحف.
ازدادت دهشة سلامة؛ وهل تقرأ لي أيضًا؟ قال المأمور: أحيانًا، ولا أريد أن أكذب عليك وأدّعي أنني أفهم كل ما تكتبه، أتابع القليل وأفهم الأقل.
قال: عمومًا... ليس هذا ما جئت من أجله، قال المأمور ببساطة: أعرف، جئت من أجل الرجال الذين أخذناهم من أرضك، حدث هذا للجميع يا أفندي، وما زلنا في حاجة إلى المزيد.
يتحدث في الأمر باستهانة وعفوية كأنه يؤدي مهمة بسيطة، قال سلامة منفعلًا: لكنكم تخطفون البشر ضد إرادتهم.
ظل المأمور هادئًا: إنها الأوامر، وأنت تعرف أن أوامر الإنجليز لا تُردّ، خاصة في زمن الحرب.
مازال سلامة معترضًا: أنتم هكذا تفرّغون القرى من سكانها وتقتلون الزراعة.
قال المأمور: وماذا نفعل؟ الإنجليز يجهزون لحملة في فلسطين، ولا بدّ من أنفار يقومون بمد خط السكة الحديد عبر سيناء وتعبيد الطرق وتوصيل أنابيب المياه، ما يحدث هنا يحدث في كل مكان بمصر، وسيحدث طوال الحرب.
أوشك سلامة أن يُجنّ من الطريقة الهادئة للمأمور، صاح فيه: لكن ما تقوم به جريمة، لقد أعدت السّخرة والكرباج، ولا يمكن السماح بذلك، سأفضح هذا الأمر في كل مكان.
حوَّل المأمور بصره عنه وهو يصيح: يا عسكري... جاء أكثر من واحد، أمرهم: ضعوا القيود حول يدي الأفندي، سنرحّله معهم إلى فلسطين.
وقبل أن يفطن سلامة إلى ما حدث، كان العساكر يحيطون به وهم يمسكون القيود، انصرف المأمور وتركهم، قبل أن يفيق سلامة من دهشته أيضًا، كان العساكر قد قيّدوه بالفعل بسرعة واحترافية، ثم دفعوه وسط بقية الجموع، انتبه لبقية الفلاحين وهم يحيطون به من كل جانب، يشمّ رائحة عرَقهم، ويشعر بنبضات خوفهم، بحث بعينيه عن رجاله الثلاثة، نظروا إليه بخيبة أمل، كانوا يعتقدون أنه بإمكانه أن يفعل أفضل من ذلك.
أدرك فجأة أنه واحد منهم، على الدرجة نفسها من الخوف والإذعان، وأن السلطة في مصر مطلقة، لا يهمها معاني الحرية والإخاء التي سمع عنها في فرنسا، ولا القوانين التي تحكم كل البشر كما درسها في إنجلترا، الأمور هنا لم تتجاوز العصور الوسطى فقط، لكنها تغوص إلى جذور العبودية القديمة.
ظلت أفواج الفلاحين تتزايد من حوله، أقنان بلا حول ولا قوة، وفي جانب آخر كانت الجمال والحمير التي صادروها، ظلوا هكذا واقفين عطشى وجوعى ومنهكين تحت الشمس، يحيط بهم سياج من العسكر يمسكون الكرابيج، أحسّ أنه على وشك أن يفقد وعيه، لكنه نظر طويلًا إلى وجوههم الخانعة والصابرة، لم يكن أحد يتذمّر أو يحاول الثورة، كانوا مستسلمين لقدرهم، للمقدّر والمكتوب، كما همس له واحد منهم.
بعضهم كان مشفقًا عليه، وبعضهم كان شامتًا فيه، ومن شدة ذهوله لم يكن يفرّق بين الشفقة والشماتة، انكسر فيه شيء ما، ولم تعد هناك جدوى من الكتابة أو الحلم بالاشتراكية العادلة، لأنه بالفعل لم تكن هناك عدالة، والاشتراكية كانت في البؤس، سأله أحدهم: أين فلسطين تلك التي يتحدثون عنها يا أفندي؟
قال في صوت خافت: إنها الأرض التي سوف نموت فيها.
أصبحت رائحة الزحام خانقة، ولم يعد هناك هواء صالح للتنفس، لكنه ظل متماسكًا، لا بدّ من حدوث شيء غير استمرار توافد الناس، اقترب منه أحد الفلاحين الثلاثة وربت عليه وهو يقول: لا عليك يا سلامة أفندي، شدّة وتزول، كلمات التصبير التي يرددونها منذ آلاف السنين، ولا تزول أي شدة إلّا بعد أن يدفعوا ثمنها مضاعفًا، ثم سرت همهمة بين الجميع، وصاح عسكري ضخم الجثة، قفوا في طوابير، بنظام يا بهايم، يجب أن نسير لمحطة السكة الحديد، همهم الجميع محتجين، ولوّح العسكر بالسياط فصمتوا جميعًا، ووجد سلامة نفسه مدفوعًا للسير معهم، لا يدري كم ساروا، لكنه كان خائفًا من لسعة السياط، كان هو الوحيد الذي يلبس حذاء، بينما البقية حفاة، لكنه كان يلهث مثلهم من شدة العطش ومن مشقة السير ومن فقدان الأمل.
لكن الشمس كانت أرحم قليلًا من السياط، فخففت من حرارتها، وبدا مبنى محطة الزقازيق العتيق في الانتظار، دفعوهم جميعًا إلى الساحة، أحسّ أنه نقطة ضئيلة لا يراها أحد وسط هؤلاء الخلق، وقف المأمور أعلى سلالم المحطة يتأمل الجميع صامتًا، مثل نخّاس يتأمل بضاعته، ثم ظهر ضابط إنجليزي، سار بخطوات عسكرية حتى وقف بجانبه، ورفع صوته متحدثًا للجميع باللغة الإنجليزية، ثم توقّف ليترك الفرصة للمأمور حتى يترجم ما قاله، قال المأمور: يقول لكم الميجور إنكم تابعون الآن لجيش بريطانيا العظمى، وعليكم أن تطيعوا أوامره، سنوفر لكم الطعام، وسيأخذ كل واحد منكم خمسة قروش كاملة يوميًا.
سكت المأمور قليلاً ليستمع للكلمات الإنجليزية، كان صوت الضابط قد ارتفع واحمر وجهه بشدّة، ارتفع صوت المأمور أيضًا: لكن يجب أن أحذركم، هذه أيام حرب، وكل واحد منكم يحاول الهرب سنطلق عليه الرصاص.
ظلوا يحدّقون في الاثنين دون صوت كأن الأمر لا يخصّهم، ولكن العساكر فرقعوا السياط مرة أخرى، ودفعوهم داخل المحطة، حيث كانت كل القطارات في الانتظار، اندفع سلامة معهم وقد فقد كل القدرة على المقاومة، لكنّ المأمور كان واقفًا على الباب، أشار للعسكري أن يجرّه بعيدًا عن الصفوف المندفعة ويوقفه أمامه.
أمر العسكري: فُكّ قيوده... لم يصدّق سلامة أنه أصبح قادرًا على تحريك يديه، نظر المأمور إليه في إشفاق: لعلك استوعبت الدرس جيدًا يا سلامة أفندي، احمد ربنا أن هناك أشخاصًا مثلي عندهم ضمير، يمكنك أن تمضي الآن، وعليك أن تنسى ما حدث، ولا داعي لأن تكتب عنه.
فرك سلامة يديه، لعلّ الألم الذي أحدثه القيد يخف قليلًا، لكنه لم يستطع أن ينسى، أو يمتنع عن كتابة التجربة التي مرّ بها، وكانت هذه الكتابات وقودًا للثورة القادمة.
الحكاية الثانية: سعد باشا زغلول
قال له الرجل باعتداد، وبلهجة عربية واضحة: يمكنك أن تطلق على مستر إكس اسمًا يليق بكل عملاء المخابرات في العالم.
كان شابًا إنجليزيًا مرحًا، أمر نادر في نظر سعد باشا، فالوقت لم يكن يسمح بأي مزاح، جو حارّ وخانق، بيوت ملونة من الخارج متهالكة من الداخل تطل على خليج عدن الذي بلا موج، الجو حار أيضًا في غرفة الحاكم رغم المراوح التي تطنّ في السقف، كان الحاكم قد أخلاها منذ وقت مبكرًا حتى يجتمع سعد باشا مع هذا الشاب الذي كان قادمًا مباشرة من لندن، لم يكن سعد باشا وحده، فقد كان معه ستة باشوات آخرين حُكم عليهم أيضًا بالنفي، سيذهبون جميعًا برفقته إلى جزيرة سيلان، المكان نفسه الذي نُفي إليه عرابي، وظل فيه عشرين عامًا قبل أن يعود إلى مصر مريضًا وعلى حافة الموت، فهل سيكون مصيرهم مثله؟
كانت السفينة التي حملتهم من السويس قد توقفت في عدن حتى تأتي سفينة أخرى لتحملهم في رحلة أبعد إلى جزيرة المنفى، كانت نهاية تعيسة لثورة لم تكتمل، ولم يكن لشيء أن يكتمل والإنجليز جاثمون على الجسد المصري التعيس، كانوا في انتظار ترحيلهم في أي وقت، وكلما ارتفع صوت صافرة سفينة في الميناء اعتقدوا أن هذه سفينتهم، كانوا يشعرون جميعًا بالخوف من المجهول.
سعد باشا، على وجه الخصوص، لم يكن يدري إن كان سيعود من المنفى على قيد الحياة أم لا، لكن أحدًا لم يكن يشكو، كل واحد خبّأ خوفه في أعماقه، كانت الثورة في مصر قد التهمت الكثير من الأرواح، معظمها أرواح غضّة فتية لم تأخذ نصيبها من العمر، فماذا تساوي أرواحهم أمام هؤلاء؟
ولكن حاكم عدن استدعاهم منذ عدة أيام، وقال لسعد باشا إنه تلقى أوامر من لندن تطلب منه أن يؤجل سفرهم إلى سريلانكا قليلًا، فهناك شخصية ستأتي خصيصًا من لندن لمقابلة سعد باشا، كان الحاكم باردًا ومتعاليًا، ولم يقدّم أي تفاصيل أكثر من هذا، لكن شعاعًا ضئيلًا من الأمل أضاء نفوسهم جميعًا، هل تراجعت بريطانيا عن قرار النفي، لا يبدو هذا، لكن هناك شيئًا ما.
بعد الانتظار لعدة أيام، جاء هذا الشاب، لم يكن يبدو موظفًا مهمًا، وبالتالي لم يبدُ أنه يحمل شيئًا مهمًا، كان وجهه على وشك الانفجار من شدة شعوره بالغيظ، الرطوبة تجعل جسده مغطى بعرق غزير، وسعد باشا يرتدي حلّة كاملة من الشاركستين الأبيض، ومصرًا على ارتداء الطربوش الأحمر القاني، كان العميل يؤكد إظهار مدى أهميته، قال: أنا أعمل في مكتب إم أي 6... لعلك سمعت عنه؟
قال سعد باشا ببعض المرارة: كثيرًا، وعانيت من تقاريره الزائفة أكثر وأكثر.
رفع العميل يده: أرجوك لا تظلمنا، تقاريرنا دائمًا صحيحة، لكن السياسيين يتصرفون كعادتهم بحماقة.
هزّ سعد باشا رأسه وقال: حتى لا نضيع وقتنا، إذا كنت قادمًا لاستجوابي حول أمر ما، فأنا لست على استعداد لإفادتك بأي شيء.
ضحك الشاب ضحكة جافة، وقال: عزيزي الباشا، نحن نعلم عن مصر أكثر مما تتخيلون، ولذلك نحكمها منذ عشرات السنين بأقل عدد من الجنود.
شعر سعد باشا بالإهانة من غرور هذا الشاب، وفكر بالفعل في النهوض والانصراف، لكنه قال: على ضوء أحداث الثورة الأخيرة، فإن كل معلوماتكم خاطئة.
اعترف الشاب في هدوء: ربما لم نُعط الناس العاديين حقهم في الدراسة، لأنّ صوتهم كان خافتًا دائمًا، لكننا تعرف جيدًا كيف يفكر ساستهم وزعماؤهم، قال سعد باشا مسلّمًا: ربما.
وسادت فترة من الصمت، أخذ العميل خلالها يتفحصه بعينيه، وبدا الباشا متململًا، وأخيرًا قال العميل بجدية: أنا أحمل لك رسالة من رئيس وزراء بريطانيا العظمى غاية في السرية، حتى حاكم عدن نفسه لا يعرف عنها شيئًا.
لم يتحرك شيء في ملامح سعد باشا، ولم يبد متلهفًا لسماعها، لكن العميل أخذ نفسًا طويلًا قبل أن يقول: تريد حكومة جلالتها أن تكون أنت ملكًا على مصر.
رفع سعد باشا وجهه مستغربًا، وهمس: أنا... ملك؟! وقال في نفسه: اهدأ، أنت فلاح ابن فلاح، فلا تدع هذا العميل الإنجليزي يتلاعب بك، ثم قال بصوت مسموع: وماذا ستفعلون في الملك فؤاد؟
قال العميل: لقد أدى دوره ولم يعد يتحكّم في زمام البلاد، لقد خرجنا من حرب وربما نخوض حربًا أخرى ونريد مَن يستطيع أن يفرض سيطرته على الشارع.
قال سعد باشا في إيجاز: وما الثمن الذي تريدونه؟
قال الرجل: تقريبًا... لا شيء أكثر مما هو حاصل بالفعل.
قال الباشا: هكذا تكون الصفقة ناقصة، لا بدّ لها من مقابل.
قال العميل: فعلًا، أنت على حق، وحتى تكون الأمور واضحة، وهذا يثبت أنك ستكون ملكًا جيدًا، سكت قليلًا كأنه يتدبر كلماته، ثم قال: نريد أولًا أن تقر بمبدأ أهمية فرضنا الحماية البريطانية على مصر، وأن تقدّم عن طواعية كل الالتزامات التي نطلبها، وثانيًا ترك السودان لنا نديره بمعرفتنا من دون أي تدخّل من مصر.
سكت الباشا قليلًا كأنما يقيّم العرض، ثم قال: يعني هذا أن أقف ضد دعاوى الاستقلال التي يطالب بها الناس، والتي كنت أتصدرهم فيها وأتعرّض للنفي الآن بسببها.
أكّد العميل: لن يكون هناك نفي... سنبدأ معًا صفحة جديدة.
قال الباشا: ويعني هذا أيضًا أن أرضى بالإبقاء على قواعدكم وامتيازاتكم داخل مصر كما هي.
قال العميل: من أجل أن نوفر لكم الحماية اللازمة، نحن خائفون عليكم من قياصرة روسيا الشيوعيين ومن سلاطين تركيا المتخلفين.
قال سعد: وتريد منّي أن أوفر لكم أكثر من نصف مليون مصري يعملون بالسخرة خلف خطوطكم الحربية، حتى يتفرغ جيشكم للقتال.
قال العميل: ربما نريد أكثر من نصف مليون، الحرب القادمة ستكون أوسع نطاقًا.
قال سعد باشا: وتريد أيضًا أن أوافق على أن تأخذوا كل رصيد مصر الاحتياطي من الذهب.
قال العميل: لقد أخذناه بالفعل، وهو أكثر أمنًا في خزائننا.
قال سعد باشا: وتريد منّا أن نتخلى عن مصير إخوتنا في السودان حتى تنكلوا بهم دون أن نتدخل.
قال العميل: وما شأنكم بالسودان، لماذا تتدخلون في عملنا هناك؟
قال سعد بمرارة: إنه ثمن باهظ هذا الذي تطلبونه.
قال العميل محاولاً أن يرضيه: أنت تعلم بالطبع أن فؤاد، الذي أصبح ملكًا، حين جاء إلى مصر من إيطاليا كان مفلسًا، وكان مدينًا بمبالغ طائلة لأناس في مصر وفي إيطاليا أيضًا، لكننا دفعنا كل ديونه وهو يعدّ الآن واحدًا من أغنى أغنياء مصر، هذه واحدة من فوائد أن تكون ملكًا.
قال سعد: لست مدينًا لأحد.
قال العميل: لكنك مقامر، تدمن لعبة البوكر، وقد خسرت على مائدة القمار الكثير.
رفع الباشا يده: أرجوك توقّف، لقد توقفت تمامًا عن هذه اللعبة.
لم يبال العميل باعتراضه: بعد أن تصير ملكًا يمكن أن تعود إليها وتلعب كما تريد، وسترى كيف يخسر الجميع المبالغ الطائلة أمامك وهم سعداء.
قال سعد وقد بدأ يفقد بعضًا من هدوئه: لن أعود إلى أيّ من خطاياي السابقة، ولا تحاول إغرائي.
وسكت قليلًا، كأنه يحاول أن يسترد انفاسه، ثم صاح فجأة: لماذا أنا؟ لماذا لا تختارون أميرًا من أسرة محمد علي؟
قال العميل: لدينا تسعة منهم، مفلسون وعلى استعداد لعقد أيّ صفقة، ولكنهم بلا فائدة، يشبهون الجالس على العرش.
قال سعد: عليكم أن تواصلوا البحث لأنني لا أصلح لهذا المنصب.
صاح العميل مندهشًا: كيف تجرؤ على رفض صفقة مثل هذه، إنها صفقة لا تُرفض؟!
قال سعد: إنها تتطلب شخصًا متقلبًا، قادرًا على الانقلاب على بلده وأهله، والأهم من ذلك أن ينقلب على نفسه وعلى كل الأشياء التي عاش من أجلها، كيف أكون ملكًا وأنا أتلقى الأوامر منكم وأعيش تحت ظلّ حرابكم؟
أنتم تدعونني إلى الانتحار، وتحرضون كلّ من في مصر على الشروع في قتلي، ولو طاوعتكم فلن نستقل عنكم أبدًا، المنفى أفضل لي أنا ورفاقي.
قال العميل بسخرية: لكنك لن تذهب إلى سيلان، لقد زارها وزير خارجيتنا اللورد كروزون، وقال إنها قطعة من الجنّة، وقد نفي إليها زعيمكم عرابي وأحضر منها أشجار المانجو.
قال سعد باشا: وأين تذهبون بي إذن؟ قال العميل: سنريكم الجحيم على الأرض، سوف تحملكم السفينة جميعًا إلى جزيرة سيشل.
قال سعد باشا: أي مكان أفضل من العيش تحت ظل حكمكم.
ونهض وسار خارجًا من الغرفة، حيث كان رفاقه الستة في انتظاره، وفي اليوم التالي جاءت السفينة وحملتهم جميعًا إلى سيشل ■