بحثًا عن مسرح جديد بلون العيد
في «الرحلة البرشيدية»، وهي رحلة افتراضية في عالم افتراضي، يقدّم رجل في زيّ التاريخ الكلمة التعريفية التالية للمسرح: هو «حياة الأحياء وهو مسلك السالكين، وهو عِلْم العارفين، وهو أسئلة السائلين، وهو جهاد المجاهدين، وهو حيرة الحائرين» (ع. برشيد - الرحلة البرشيدية - إيديسوفت - الدار البيضاء).
في هذا البدء أقر وأعترف بما يلي... أعترف بأنني لستُ ساحرًا ولا عرّافًا ولا متنبئًا، وهذا لا يمنعني من أن أقول بأنني مفتون بالسحر الحلال وبالمعرفة الساحرة والمدهشة والمستفزة والمشاكسة والمشاغبة، وأعترف بأنني ضعيف أمام الكلمة الشعرية الساحرة، وأمام الأفعال الخارقة، وأمام الصور المدهشة، وأمام الحركات التي تعيد ترتيب المعاني والأشياء في الطبيعة والواقع والتاريخ، وفي الفن والفكر، وفي العلم والصناعة، وإنني لا أبحث في يقظتي ومنامي إلّا عن سر إعجاز هذا السحر المدهش.
إنني أبحث عنه في عالَم ضيّع روح السحر؛ سحر الكلمة وسحر العبارة، وأبحث عنه في المكان وفي اللامكان أيضًا، وأبحث عنه في الزمان وخارج كل الأزمان، وأعرف أن السّحر الحقيقي لا يأتي إلّا من بعيد، وأنه يظل دومًا ذلك الشيء الغامض والملتبس والشفاف والماكر واللامحدّد الملامح، والذي لا يراه الراؤون إلّا من بعيد، وأعرف أنّه لا سحر إلّا في الغربة والتغريب، وأنّه لا شيء جديدًا إلّا في عيون الغرباء، وأغرب كل الغرباء هو مَن يأتينا من بعيد جدًا، أي من المكان الذي لا نعرفه، ومن الزمن الذي لا ندريه، وبذلك كانت الشخصيات الأسطورية هي الأقرب إلى الأدب والفن، لأنّها الأقرب إلى روح الإبداع السحري، ولأنّها تظل شخصيات غريبة وعجيبة، ولأنّها مثيرة ومدهشة، ولأنّها فوق الطبيعة وفوق الواقع وفوق التاريخ أو خارج التاريخ.
ونعرف أن من طبيعة الشيء العادي أنّه لا يحرّك فينا إلا الإحساس العادي، وليس هذا هو مطلبي في الفن والأدب، وفي الفكر والمسرح، وأعرف أن الأفكار المسطحة لا تنفذ إلى العقل، ولا تصل إلى القلب والروح، وأنّ كل سؤال لا يستفزني، ولا يحرجني، ولا يتحدّاني، ولا يخلخل مفاهيمي، لا أعوّل عليه، ولا أعرفه ولا أعترف به.
إن الأساس في الفنان أن يكون مكتشفًا، ومبتكرًا، وصانعًا، ومهندسًا مؤسسًا، ومسافرًا ورسولًا ومتنبئًا، وأعرف أن فعل الاكتشاف يبدأ من درجة الإحساس بالغرابة، فما يسحرنا ويبهرنا ويستفزنا هو وحده الذي يؤسس فينا الأسئلة الحقيقية والمؤسسة، وهو الذي يدفعنا إلى أن نكتشف الأسرار الخفية في الوجود وفي الأشياء الغامضة والساحرة.
إن وجود الشيء في غير موضعه، ووجود الكلمة في غير موضعها، ووجود الموقف في غير سياقه، ووجود الفعل في غير زمانه، هو ما يؤسس الغرابة السحرية دائمًا، سواء في الأدب أو الفن، أو في الفكر أو الصناعة، وهذا ما يفسّر أن تكون في الغرب غرابة شرقية، وأن تكون في الشرق غرابة غربية، وأن يكون الشرق موطنًا للوحي والأنبياء، وأن يكون الغرب موطنًا للفلاسفة والعلماء، وأن يكون الطريق بينهما طريقًا للحرير وللتوابل وللحكايات الغريبة والعجيبة، وأن يكون السّحر عند الآخر الغريب والبعيد دائمًا، ولهذا فقد ارتضيتُ لنفسي أن أكون غريبًا في أرضي وفي موطني، وأن أكون مختلفًا ومخالفًا في فكري ومسرحي، وفي أن أكون شاعرًا بين العلماء، ومجنونًا بين العقلاء، وعاقلًا عند المجانين، وحداثيًا عند المحافظين، ومحافظًا عند الحداثيين، ويمينيًا عند اليساريين ويساريًا عند اليمينيين، وغربيًا في الشرق وشرقيًا في الغرب، وأن أكون بهذا عصيًا على الفهم وعلى التصنيف، وعصيًا على التوصيف والتصفيف، وأن يكون ما أكتبه أكبر من أحكام النقاد، وأخطر من الانطباعات العابرة لكثير من المتفرجين ومن شهود الزور ومن المشاهدين العابرين.
وأعرف أنني كائن يمشي في عالَم يمشي، وبأنني مواطن حُر في أوطان ينبغي أن تكون حُرّة، وأعرف بأنه لا يمكن أن يكون لحرّيتي أي معنى، إذا لم يكن بإمكاني أن أكون حيث أشاء، وأن أكون مَن أريد كما أريد، ومع من أريد، وفي الجهة التي أريد، أمّا أن أكون يمينيًا فقط، وأن أكون هنا فقط، في عالَم فيه الـ «هُنا» والـ «هناك»، وفيه اليمين واليسار، وفيه الشمال والجنوب، وفيه الأعلى والأسفل، وفيه الأمام والخلف، فإنّ هذا هو منتهى الغباء بكل تأكيد، وهو منتهى التضييق على حريّة الذات، وعلى حرية الفكر، وفي مثل هذا الفعل إفقار لغنى الوجود والموجودات، وفيه اختزال للأماكن والجهات، وفيه مصادرة للأرواح الكبيرة في أن تكون أكبر من الحسابات السياسية والقبَلية والحزبية الشعوبية والطائفية والفئوية الضيقة.
إن من حقّي أن أكون الجسد المتمدد في كل الاتجاهات، وأن أكون الواحد المتعدد بالأعمار وبالحالات وبالمواقف وبالمقامات، وكل هذا من غير أن أخون هويّتي الوجودية، وأكون أنا غير أنا، ومن غير أن أنسى الحقيقة البسيطة التالية، وهي أنني مهما ارتفعت وحلّقت في السماوات العالية، ومهما تغرّبت في البلدان والأوطان، ومهما غيّرت الأزياء واللغات، فإنني في النهاية لا بدّ أن أعود إلى نقطة البدء ونقطة الانطلاق، والتي هي هذه الأرض التي أنبتتني، وجعلت أغصاني ترتفع إلى الأعلى، وجعلت عروقي مرتبطة بتربة هذه الأرض، ويسعدني أن أحلّق في سماء كل الثقافات، ولكن انطلاقًا من أرض ثقافتي أو من ثقافة أرضي، وبغير هذا فإنني سأضيع وأضيع قرائي معي، ولقد دخلت المسرح، معتقدًا أنه فنّ من الفنون، فإذا هو كل العالم، وإذا هو كل الدنيا وهو كل التاريخ، واقتنعت أيضًا بأن هذا المسرح هو (أساسًا مؤسسة، ومن مهام هذه المؤسسة أنها تعلّم، وتربّي، وتهذّب، وتطهّر «الكثارسيس»، وأنه لذلك ينبغي أن تساهم اليوم كما ساهمت بالأمس في صناعة الإنسان الجديد في هذا المغرب الجديد، وأن تحقق له شيئًا من الأمن الثقافي، وأن تحمي هويته، وتصون وجوده، وتجدد لغته، وتظهر ثقافته وقيمه الحضارية التي هي عنوانه في هذا الوجود، وتربطه في المقابل بثقافته وبلُغته وبتراثه وبأعياده وبزمنه وبعصره وبمحيطه الذي هو جزء أساسي وحيوي منه.
وحتى تلعب الثقافة المسرحية المغربية دورها الحقيقي، فإنّ على الدولة أن تكون لها سياسة ثقافية واضحة، وتدرك أنه ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، وأن التنمية الاقتصادية من دون تنمية العقل والنفس والروح والوجدان لا معنى لها، وهذا هو الدور الذي قام به المسرح في الحضارات الإنسانية عبر التاريخ).
في مدرسة المسرح والحياة
نحن نتعلّم في الحياة ونتعلم في المسرح، هذه قناعتنا في الاحتفالية، ونحن نؤكد دائمًا أنه «في المسرح نتعلّم أن نكون مدنيين، واجتماعيين، ومواطنين، وديمقراطيين، ومحتفلين ومعيّدين مع الآخرين، وشاهدين ومشاهدين، وأن نتعامل مع ما نراه وما نحياه بحسّ نقدي، وألّا نقبل إلّا ما يقبله العقل والمنطق، وأن نكون جريئين في مواجهة الظلم والقهر، وفي الكشف عن الأعطاب والاختلالات النفسية والاجتماعية والسياسية).
وهذا المسرح الاحتفالي، كما رأيناه، أو ما أرادنا أن نراه، لا يمكن فهمه إلّا بفهم السياق الذي ساقه، وبفهم المناخ الثقافي والفكري والجمالي والأخلاقي الذي نشأت فيه. ومن أجل فهم حقيقي لهذه الظاهرة الاحتفالية، فإنّه لا مجال لتمثُّلها بشكل متكامل، إلّا في إطارها التاريخي، وداخل سياقاتها الفكرية والجمالية والسياسية التي ساقتها.
لقد ظهرت هذه الاحتفالية في أواسط السبعينيات من القرن الماضي. وكان ذلك في أعقاب «النكسة الحزيرانية» لسنة 1967، ولهذا كانت ثورة فكرية قبل كل شيء؛ هي ثورة أملتها هزّة وجدانية وفكرية وأخلاقية، هزة تاريخية قوية وعنيفة، وهي مُرّة أيضًا مرارة الهزيمة، وذلك قبل أن تكون لعبًا بالأشكال والألوان والأضواء وبالأزياء والأقنعة، أو تكون محاولة عبثية للبحث عن التميّز والتفرّد، ولم تهتمّ هذه الاحتفالية الغاضبة بالتمييز بين الحاضر والماضي، ولم تقطع الطريق بين الـ «نحن» والآخر، ولم تتخذ من الأشكال الاحتفالية الشعبية دليلًا على وجود المسرح العربي في الماضي، ولقد ركّزت على الحوار قبل كل شيء؛ حوار الحضارات، وحوار اللغات، وحوار الأجناس الأدبية والفنية، وحوار الأفكار، وحوار الأمكنة والأزمنة، وبهذا كان التيار الاحتفالي أكثر عمقًا، وأكثر شمولًا، وأكثر انغراسًا في اللحظة التاريخية المتحركة، وأكثر قربًا من الفن والحياة معًا، وأكثر قربًا من الحقول المعرفية المختلفة والمتنوعة، والتي جعلها أساسًا لفلسفته وفكره، ولإبداعاته المجددة والمتجددة، سواء في الكتابة النظرية أو في الكتابة الدرامية أو في الإخراج أو في التمثيل أو في تأثيث الفضاء المسرحي وفي ترتيب البيت المسرحي.
هذا المسرح إذن هو الأصل، وهو أبو كل الفنون وكل العلوم، وهو بهذا فلسفة مصورة ومحكية، وهو فكر بلغة اليومي، وهو حوار بأصوات متعددة، وهو حضور في الموعد الاحتفالي وهو فعل وفاعلية وانفعال وتفاعل و(هذا المسرح الأب، له بوابة كبيرة مفتوحة على الحياة والأحياء، وعلى الواقع والتاريخ، وعلى الحق والحقيقة، وعلى الجمال والكمال، وعلى الفعل والتفاعل والانفعال، وعلى المدينة والمدنية، وعلى الكائن والممكن، وعلى المحسوس والمتخيل، وعلى الخرافي والأسطوري، ومن هذه البوابة ندخل جميعًا إلى ذواتنا الفردية والجماعية، ومنها وبها نعيد اكتشاف أنفسنا، ونعيد اكتشاف العالم أيضًا، وبهذا المسرح نتعلّم كيف نصبح مواطنين، ونتعلم كيف نفكر، ونتعلّم كيف نتحرر بالتفكير الحر، ونتعلم كيف نلتقي مع الآخرين في الفضاء العام، ونتعلم كيف نقتسم معهم اللحظة الاحتفالية الحية، وكيف نقتسم معهم الحالة الشعورية الجميلة والنبيلة، وكيف نقتسم معهم أسئلة القضايا العامة والمشتركة، وبهذا المسرح نكون اجتماعيين أيضًا، نؤمن بالجوار والتساكن، ونكون ديمقراطيين، ونؤمن بالحق في التعدد والاختلاف، وبغير هذا، فإنّه لا معنى لهذا الذي نسميه المسرح، وإذا لم يستطع هذا المسرح أن يعلّم، وأن يهذّب، وأن يربّي، وأن يجعلنا متسامحين، فبالتأكيد هناك خلل ما، وينبغي أن نسميه بأي اسم آخر غير اسم المسرح).
وعندما نتحدث عن الاحتفالية، فإننا نجد أن المسرح يشكّل عمودها الفقري، وتمثّل الإبداعات المسرحية كتابة وإنجازًا أهم وأخطر تجليات هذه الاحتفالية، ولهذا المسرح الاحتفالي طبيعته الخاصة، وله بصماته المميزة، وله إضافاته المعرفية والجمالية، تمامًا كما له كتابته الدرامية الجديدة والمتجددة، ولهذه الكتابة شكلها ومضمونها، ولها فنّياتها وتقنياتها، ولها شكلها الجمالي وعمقها الفكري والفلسفي، ولها حسّها الواقعي وحدسها الصوفي، ولها شخصياتها التي يتقاطع فيها التاريخ والواقع، ويتحاور فيها المحسوس والمتخيل، ويتعايش فيها الكائن والممكن والمُحال، ولها لغتها الإبداعية المميزة، والتي هي لغة شعرية أو شاعرية، ولها أحداثها الغريبة والعجيبة، والتي لا تكرّر الواقع، ولكنّها تعيد صياغته وتركيبه بشكل آخر مختلف، وهي أحداث مفتوحة على كل الاحتمالات، وعلى كل المفاجآت، وهي منسابة ومتدفّقة في حركيّتها الدائمة، تمامًا كما هو الماء والهواء، وهي بهذا لا يمكن أن تقف عند أي حدّ معيّن، ولا يمكن أن تنتهي نهاية مغلقة، ولهذه الكتابات المسرحية أيضًا، عناوينها المثيرة والمدهشة والمستفزة، ولها فضاءاتها السحرية، ولها أجواؤها العيدية والاحتفالية والطقوسية الغنية والباذخة، ولها أسئلتها الجريئة والحارقة، ولها مسائلها الوجودية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفلسفية الكونية.
هذا المسرح الاحتفالي أيضًا، له إخراجه المختلف والمغاير، والذي يقوم على أساس من الشمولية والتكامل، وعلى أساس الحوار الداخلي بين الأجناس الأدبية والفنية، وبين الحقول المعرفية المتعايشة، وبين كل الصناعات المختلفة والمتنوعة، وكل ذلك، من أجل إحياء لحظة مسرحية شاملة وغنيّة؛ لحظة عيدية تمتاز بغناها الجوّاني والبرّاني معًا، ابتداء من غنى متخيّلها، ومن غناها الفكري، وانتهاء إلى غنى أصواتها، وأضوائها، وأشكالها، وألوانها، وحركاتها، وأزيائها، وكلماتها وعباراتها، وغنى التعبيرات الجسدية والروحية فيها، وفي هذا الإخراج الاحتفالي يتم كل شيء على المكشوف، وتكون كل الحركات وكل السكنات وكل التعبيرات حيّة؛ ابتداء من الموسيقى الآنية، ومن الغناء الحي، ومن الأداء المباشر، والتي تتمرد كلها على التسجيلات الصوتية الخارجية، وانتهاء بتغيير الملابس، وبتبادل الأدوار أمام الجمهور، وذلك من غير الهروب إلى الكواليس، والتي ليس لها وجود في المسرحية الاحتفالية، تمامًا كما هو الشأن بالنسبة إلى الستارات التي لا معنى لها في التلاقي الاحتفالي، وهو لحظة للكشف والمكاشفة، ولحظة للبوح الصادق، ولحظة للتعري الفكري والوجداني والروحي، أمام الذات وأمام الآخرين، وأمام التاريخ.
أداء لا تمثيل
في هذا المسرح الاحتفالي أداء مسرحي لا نسميه تمثيلًا، وذلك لأنّ التمثيل في معناه المدرسي لا يفيد الصدق المطلوب في التعييد المسرحي الحقيقي، ولهذا فقد كان ضروريًا أن تكون للمسرح الاحتفالي «منهجيته» الخاصة، وأن يعتمد الأداء المسرحي في هذه المنهجية على الصدق، وعلى الشفافية، والتلقائية، والانسيابية، والحيوية، واجتناب تكرار شخصيات الواقع، كما هي في الواقع، لأنّ المطلوب هو تركيب شخصيات جديدة، لواقع جديد، شخصيات تكون مهمتها أن تعيش في هذا الكون المسرحي الجديد، وذلك بشكل جديد، وبإحساس جديد، وبوعي جديد، وبمنطق جديد، وبفعل وانفعال جديدين أيضًا.
ويمكن أن نبحث عن العناصر الاحتفالية في الأزياء أيضًا، وفي الاكسسوارات التي تصبح لها وظائف جديدة، وفي الإضاءة، وفي الغناء، وفي الإنشاد الديني، وفي التراتيل الصوفية، وفي طبيعة المكان المسرحي، والذي لا تشترط الاحتفالية أن يكون مسرحًا، وأن يكون هذا المسرح بناية، وأن تكون لهذه البناية كلّ مقومات المسرح الإيطالي العمرانية والهندسية، لأنّ الأساس، في التلاقي الاحتفالي دائمًا، هو فعل الاحتفال، وهو الإنسان المحتفل، وهو الحالة الشعورية والانفعالية والوجدانية والروحية التي تصاحب هذا الاحتفال، وهو القضية العامة والمقتسمة التي يتضمنها، وهو المناخ العام الذي يلفّ كل المحتفلين، وهو السياق الاجتماعي والتاريخي الذي يحيا فيه هذا الاحتفال المسرحي، وهو لحظته الآنية الحيّة، وهو ذاكرته الغنية بالصور والمشاهد .
في هذا المسرح نبحث أساسًا عن التناغم، وبغير هذا، فإنّه لا مجال إلى أن يصبح مسرح الوجود سيمفونية احتفالية بأصوات متعددة، وعن معنى هذه الموسيقى المؤسسة للبهجة والفرح يقول الاحتفالي «هي صوت يكلّم صوتًا في دنيا الأصوات...»، وهي بهذا شيء آخر، أكبر وأخطر من تلك الأصوات التي تنتجها آلات العزف، وقبل أن تكون صوت آلة من الآلات فهي «هي صوت الروح... روح الكون» وفي الكلمة الشعرية موسيقى بغير آلة موسيقية، وفي الرقص إيقاع موسيقي بغير آلة موسيقية، وفي الطبيعة موسيقى بغير آلة موسيقية.
ولعل أجمل وأنبل ما في هذه الموسيقى الكونية هو حوار الأصوات فيها، وتناغمها، وتكاملها، وهي أنّها تتكلم لغة واحدة، والتي هي لغة الطبيعة الحيّة، وهي لغة الحياة الطبيعية، ولا شيء أبغض إلى الاحتفالي أكثر من «النشاز، ومن فوضى الأصوات...» و(الموسيقى يا صاحبي هي روح الوجود، وهي روح كل الموجودات، وروح كل المخلوقات والمصنوعات... هي لغتها الأولى بالتأكيد، والتي هي أفصح وأبلغ وأصدق كل اللغات الحية في هذا الكون الحي، وهي موجودة في الطبيعة وفي الكون، وهي موجودة في كلامي وصمتي، وفي حركتي وسكوني، وفي يقظتي وأحلامي، وفي خيالاتي وأحلامي، ومَن يدري، فقد يكون في شخيري شيء من الموسيقى أيضًا)!
في المؤسسة الاحتفالية
إن هذه الاحتفالية إذن، وبخلاف ما قد يظن البعض، لا تكتفي بأن تقترح شكلاً تعبيريًا في المسرح، وأن تقف عند ذلك، لكنّها تتجاوز هذا إلى اقتراح مؤسسة مسرحية متكاملة؛ مؤسسة قريبة من الحياة ومن الأحياء، وقريبة من الناس ومن قضايا الناس، وأهم شروط هذه المؤسسة الاجتماعية هو ألّا تكون إطارًا بيروقراطيًا، وألّا تكون تابعة للإدارة وللسلطة الحكومية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ألّا تكون شركة، وألّا تكون تابعة للسلطة المالية، فتضيع منها هويتها، وتخسر حرّيتها، وتفرّط في حقيقتها، وتصبح بعد ذلك مؤسسة للإعلان التجاري والإشهاري، وأن يصبح المبدع فيها عبدًا للشباك، وذلك بدل أن يكون حرًّا ومستقلًا، إن الفعل المسرحي إبداع قبل كل شيء، وشرط الإبداع الحرية، و(أكثر المجتمعات إبداعًا هو أكثرها حرية وديمقراطية، وهي بالضرورة أكثرها احتفالية).
إن المؤسسة الاحتفالية ليست فرقة، وليست تعاونية، وليست شركة، وليست مرفقًا إداريًا، لكنّها أسرة قبل كل شيء؛ أسرة فنية للإبداع الفكري والأدبي والفني، الشيء الذي يجعل الكل يلتف حول فكرة واحدة، أو حول قناعة واحدة، ويسعى لتحقيق تصوُّر نظري له شقّ مهني متعلّق بالمسرح، وشقّ فكري متعلّق بمستقبل المجتمع، وبمستقبل الإنسان والإنسانية، وفي هذه المؤسسة الحرة، يكون المبدع سيّد نفسه، ويكون مالك فنّه، ولا يكون مجرد موظف، كما في مسرح الدولة، أو يكون مجرد أجير، كما في المسرح التجاري.
ولهذه الاحتفالية نقدها المسرحي أيضًا، وهو نقد يقوم على العقل والقلب معًا، وهو فكر وفنّ وعلم في الآن نفسه، وهو إبداع يحاور الإبداع، وهو اجتهاد يكمل الاجتهاد الفني، ويضيف إليه من رؤيته ومن لمساته الفنية الشيء الكثير، وهو بهذا نقد آخر مختلف، وهو غير النقد المدرسي المعروف والمألوف، وغير النقد الأيديولوجي الاتباعي والمنفعل، وغير النقد الانطباعي البسيط والساذج، والذي هو مجرد متابعات نقدية وصفيّة، ومجرد حاشية على الكتابة الإبداعية وعلى متنها. في هذا النقد الاحتفالي يحضر الذوق، وتتحقق متعة القراءة، ولا تكون مجرد تصويبات، أو ملاحظات، أو تنبيهات، أو اعتراضات، وتشطيبات، أو مخالفات يحررها الناقد الدركي للكاتب والمخرج وللممثلين والتقنيين، ولكل الشركاء في العملية الإبداعية.
ولهذا المسرح الاحتفالي فكره النظري أيضا، وله فلسفته التي ينهض عليها، وله مساره وخطّ سيره، وله لغته وأدوات اشتغاله، وله طريقته ومنهجه، وله كونه الذي يتحرّك فيه، وله أفقه الذي ينجذب إليه، وله مدينته الفاضلة التي يسعى إلى تأسيسها، وله لغته الفردوسية التي يبحث عنها وتبحث عنه، وله قيمُه التي يدافع عنها، وله معاركه الفكرية التي يخوضها مرغمًا، وله أعماره التي عاشها من قبل، وله أعماره الأخرى التي سوف يحياها مستقبلًا، وله فعله وانفعاله وتفاعله، وله أدلّته وحججه التي يرفعها في وجه التيارات الفكرية الأخرى، وفي وجه المسارح الأخرى.
هذه إذن، وأشياء أخرى غيرها كثيرة ومتنوعة وعميقة، هي ما يميّز المسرح الاحتفالي، وهي ما يعطيه طابعه الخاص، ويجعل منه حركة فكرية وإبداعية معاصرة، ويجعلها أيضًا تساهم في خلق الحدث الثقافي، مغربيًا وعربيًا وكونيًا، وأن يكون دائمًا في قلب الحدث التاريخي العام، ويكفي أن نعرف اليوم، أن السؤال عن معنى هذه الاحتفالية، وعن جدواها، وعن حدودها، وعن مسائلها النظرية والفنية والتقنية، لم يتوقف حتى اللحظة، وعلى امتداد أكثر من أربعة عقود كاملة، ظل هذا السؤال محافظًا على جدّته وجديته، وعلى حرارته وآنيته، وظل يستفز الأذهان ويتحداها، معرفيًا وجماليًا وأخلاقيًا، وذلك من أجل أن تجد له أجوبة جامعة ومانعة، الشيء الذي يدلّ دلالة قاطعة على أن هذه الاحتفالية ليست حلم ليلة صيف، وليست موضة عابرة، وليست نزوة مجنونة، لكنّها مشروع تاريخي وحضاري موسع؛ مشروع له مشروعيته الآنية والمستقبلية، وله أسباب نزوله، وله شروط وجوده المادية والمعنوية، وله مرجعيّاته المعرفية والجمالية في الثقافة المغربية والعربية، وفي الثقافة العالمية أيضًا.
ولأنّ السؤال الاحتفالي هو سؤال صدامي واستفزازي، فقد أسس حوله نقاشًا واسعًا وعريضًا، وأنشأ الاختلاف، سواء في الرؤية، أو في الرأي، أو في الموقف، وتعدّدت بشأنها الأفكار، وتداخلت، وتناقضت، وتضاربت، وبقي الحكم النهائي عليه معلّقًا إلى.. ما لا نهاية■