لماذا يفقد الروائي نفوذه؟

لماذا يفقد الروائي نفوذه؟

عندما‭ ‬كنت‭ ‬أزور‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬بالأهرام‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬ألقى‭ ‬عنده‭ ‬إحسان‭ ‬عبدالقدوس‭ (‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬‮«‬روز‭ ‬اليوسف‮»‬‭) ‬في‭ ‬شبابه،‭ ‬وصاحب‭ ‬الروايات‭ ‬الشهيرة،‭ ‬ومنها‭ ‬‮«‬لا‭ ‬أنام‮»‬،‭ ‬و«الطريق‭ ‬المسدود‮»‬،‭ ‬و«في‭ ‬بيتنا‭ ‬رجل‮»‬،‭ ‬وسواها‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يُقبل‭ ‬عليها‭ ‬القراء‭ ‬إقبالًا‭ ‬شديدًا،‭ ‬والتي‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬مؤلّفها‭ ‬كاتبًا‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬نفوذه‭ ‬عند‭ ‬القارئ‭ ‬عن‭ ‬نفوذ‭ ‬الشاعر‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭.‬

كان‭ ‬إحسان،‭ ‬كما‭ ‬رأيته‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬توفيق‭ ‬الحيكم،‭ ‬كاتبًا‭ ‬تشوب‭ ‬وجهه‭ ‬مسحة‭ ‬من‭ ‬الحزن‭ ‬رقيقًا‭ ‬قليل‭ ‬الكلام،‭ ‬وكأنه‭ ‬انسحب‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭ ‬ومن‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬معًا‭. ‬فقد‭ ‬الروائي‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬ملأ‭ ‬الدنيا‭ ‬وشغل‭ ‬القراء‭ ‬برواياته‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ينشرها‭ ‬مسلسلة‭ ‬في‭ ‬‮«‬روز‭ ‬اليوسف‮»‬‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يجمعها‭ ‬لاحقًا،‭ ‬ذلك‭ ‬البريق‭ ‬القديم،‭ ‬وبات‭ ‬كأنه‭ ‬قد‭ ‬أحال‭ ‬نفسه،‭ ‬أو‭ ‬أحيل،‭ ‬على‭ ‬المعاش‭. ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬يذكر‭ ‬معارك‭ ‬الأقلام‭ ‬والوطنية‭ ‬التي‭ ‬خاضها‭ ‬أحد‭ ‬وبات‭ ‬مجرّد‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬مضى‭. ‬لكن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬أصابه‭ ‬من‭ ‬إهمال،‭ ‬كان‭ ‬إهمال‭ ‬النقاد‭ ‬له؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬رحيله‭. ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬رواياته‭ ‬أحد،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬احتضن‭ ‬كرئيس‭ ‬لتحرير‭ ‬‮«‬روز‭ ‬اليوسف‮»‬‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُحصى‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬والأدباء‭. ‬لم‭ ‬يتعامل‭ ‬النقاد‭ ‬مع‭ ‬رواياته‭ ‬كما‭ ‬تعاملوا‭ ‬مع‭ ‬روايات‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬ويوسف‭ ‬إدريس‭ ‬وسواهما‭ ‬من‭ ‬الروائيين‭ ‬الآخرين،‭ ‬رغم‭ ‬النجاح‭ ‬الجماهيري‭ ‬الهائل‭ ‬الذي‭ ‬لقيته‭ ‬رواياته‭ ‬عند‭ ‬صدورها‭.‬

يرى‭ ‬رجاء‭ ‬النقاش‭ ‬أن‭ ‬وراء‭ ‬إهمال‭ ‬النقاد‭ ‬لهذه‭ ‬الروايات،‭ ‬أو‭ ‬صمتهم‭ ‬المعبر‭ ‬إزاءها،‭ ‬عدة‭ ‬أسباب‭ ‬لا‭ ‬سببًا‭ ‬واحدًا‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬أن‭ ‬إحسان‭ ‬كان‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬التبسيط‭ ‬الشديد‭ ‬في‭ ‬أدبه،‭ ‬لأنّه‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬قاعدة‭ ‬عريضة‭ ‬من‭ ‬القراء‭. ‬كان‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬نجاحها‭ ‬وشعبيتها،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يضع‭ ‬في‭ ‬حسابه‭ ‬مقاييس‭ ‬النقد‭ ‬ولم‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬النقاد‭. ‬ولعله‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬النجاح‭ ‬الجماهيري‭ ‬دليل‭ ‬حاسم‭ ‬لمصلحته،‭ ‬وأن‭ ‬اهتمام‭ ‬النقاد‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أمرًا‭ ‬طبيعيًا‭ ‬بعد‭ ‬إقبال‭ ‬الجماهير‭!‬

وبنظر‭ ‬رجاء،‭ ‬فإنّ‭ ‬نظرة‭ ‬إحسان‭ ‬هذه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬نظرة‭ ‬صحيحة‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬الشعبيين‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬لم‭ ‬يحظوا‭ ‬بالتفات‭ ‬النقاد،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬أعمالهم‭ ‬منتشرة‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع‭ ‬بين‭ ‬ملايين‭ ‬القراء‭. ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأدباء‭ ‬الذين‭ ‬حققوا‭ ‬شعبية‭ ‬واسعة‭ ‬ولم‭ ‬يحققوا‭ ‬أي‭ ‬نجاح‭ ‬نقدي‭: ‬سومرست‭ ‬موم‭ ‬وألبرتو‭ ‬مورافيا‭ ‬وأغاثا‭ ‬كريستي‭. ‬فالنقاد‭ ‬لا‭ ‬يقفون‭ ‬عند‭ ‬النجاح‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يهتمون‭ ‬بالقيمة‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية‭ ‬أولًا‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

ولأنه‭ ‬كان‭ ‬صحفيًا‭ ‬أساسًا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬إحسان‭ ‬ميالًا‭ ‬إلى‭ ‬التفاصيل‭ ‬والجزئيات،‭ ‬وغير‭ ‬مهتم‭ ‬بالتكثيف‭ ‬والتركيز‭. ‬وقد‭ ‬تأتّى‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭. ‬ومن‭ ‬مشاكله‭ ‬أيضًا‭ ‬ثقته‭ ‬الكبيرة‭ ‬بموهبته‭ ‬الفنية‭. ‬لكن‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الموهبة‭ ‬وحدها‭ ‬أمر‭ ‬مضلل،‭ ‬فلا‭ ‬بدّ‭ ‬للروائي‭ ‬الموهوب‭ ‬أن‭ ‬يتابع‭ ‬التطورات‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العالمية‭. ‬لكن‭ ‬إحسان،‭ ‬اتكالًا‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬موهبته،‭ ‬لم‭ ‬يعبأ‭ ‬بهذه‭ ‬المتابعة‭. ‬ولذلك‭ ‬جاءت‭ ‬كل‭ ‬أعماله‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬الخمسين‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬أسلوب‭ ‬فنّي‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬يتغير،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تنبّه‭ ‬رفاق‭ ‬جيله،‭ ‬مثل‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬ويوسف‭ ‬إدريس‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬التجديد‭ ‬والتطوير‭ ‬في‭ ‬أساليب‭ ‬الأداء‭.‬

وإلى‭ ‬اليوم،‭ ‬لم‭ ‬أنسَ‭ ‬ملاحظة‭ ‬قالها‭ ‬لي‭ ‬مرة‭ ‬محفوظ‭ ‬عن‭ ‬الحكيم‭. ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬أسلوب‭ ‬الحكيم‭ ‬في‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬إلّا‭ ‬قليلًا‭ ‬عن‭ ‬أسلوبه‭ ‬في‭ ‬‮«‬عودة‭ ‬الروح‮»‬‭ ‬و«عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭... ‬وربّما‭ ‬لهذا‭ ‬السبب،‭ ‬ولسواه‭ ‬أيضًا،‭ ‬فقد‭ ‬الحكيم،‭ ‬كما‭ ‬فقد‭ ‬إحسان،‭ ‬نفوذهما‭ ‬في‭ ‬سنواتهما‭ ‬الأخيرة‭ ‬■