النقد في الزمن الرقمي

النقد في الزمن الرقمي

النقد الأدبي كغيره من مكونات المناخ الإبداعي، تعرض لتحولات تمس تأثيره ودوره في تطوير النتاج الإبداعي بعد انتشار النشر الرقمي وتعدد منصاته. لقد كان النقد يعاني من مأزق حقيقي، هو عدم وجود المساحة الكافية للنشر، فالصحف والمجلات الدورية لم تعد تهتم بالنقد كثيرًا ولا تعطيه المساحات التي تمكن الناقد من إبداء نظرة كاملة، وعليه أن يلجأ للمجلات الأدبية المتخصصة وهي قليلة وجمهورها قليل، ومثله في ذلك مثل الإبداع الذي وجد أن عليه الهرب من هذه المساحات الخانقة إلى فضاء أرحب على شبكة الإنترنت، وتدريجيًا تتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى بدائل للأكوام الهائلة من الصحف والمجلات.

حين‭ ‬تساءلتُ‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬النقد‭ ‬حكى‭ ‬لي‭ ‬ناقد‭ ‬كبير‭ ‬هذه‭ ‬القصة،‭ ‬قائلًا‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يتلقى‭ ‬أعمالاً‭ ‬أدبية‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬المبتدئين‭ ‬يسألونه‭ ‬الرأي،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬كاتب‭ ‬للقصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬غزير‭ ‬الإنتاج،‭ ‬كل‭ ‬بضعة‭ ‬أيام‭ ‬يرسل‭ ‬له‭ ‬قصة‭ ‬جديدة،‭ ‬ويلح‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬رأيه،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قصصًا‭ ‬جيدة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الشاب‭ ‬يمتلك‭ ‬موهبة‭ ‬حقيقية‭ ‬تستحق‭ ‬المتابعة‭ ‬والتقييم،‭ ‬وكان‭ ‬الصديق‭ ‬الناقد‭ ‬يكتفي‭ ‬بإعطائه‭ ‬آراء‭ ‬عائمة،‭ ‬لا‭ ‬تفيد‭ ‬ولا‭ ‬تغضب،‭ ‬لكن‭ ‬الشاب‭ ‬لم‭ ‬يتوقف،‭ ‬جمع‭ ‬القصص‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬وعزم‭ ‬على‭ ‬إصداره،‭ ‬وألح‭ ‬على‭ ‬الناقد‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬له‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتاب،‭ ‬وعبثًا‭ ‬حاول‭ ‬الناقد‭ ‬أن‭ ‬يتنصل‭ ‬أو‭ ‬يتخلص‭ ‬من‭ ‬إلحاحه،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬بدًّا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يواجهه‭ ‬برأيه‭ ‬الحقيقي،‭ ‬وكانت‭ ‬صدمة‭ ‬كبيرة‭ ‬للشاب‭ ‬المتوهم،‭ ‬وأصبح‭ ‬الناقد‭ ‬مرتاح‭ ‬الضمير،‭ ‬لكنه‭ ‬تلقى‭ ‬صدمته‭ ‬الكبرى‭ ‬حين‭ ‬عرف‭ ‬أن‭ ‬الشاب‭ ‬قد‭ ‬حاول‭ ‬الانتحار،‭ ‬لم‭ ‬يدر‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬بالذنب‭ ‬العميق‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬السبب‭ ‬الذي‭ ‬دفعه‭ ‬للموت،‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الشاب‭ ‬قد‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬إحساس‭ ‬الذنب‭ ‬ظل‭ ‬يلاحقه،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬مأساة‭ ‬أخرى،‭ ‬وآل‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬ألا‭ ‬يتحدث‭ ‬فقط‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬الجوانب‭ ‬الإيجابية‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬عمل،‭ ‬وأن‭ ‬يدير‭ ‬ظهره‭ ‬للأعمال‭ ‬الرديئة،‭ ‬وألا‭ ‬يكون‭ ‬عنيفًا‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬وجه‭ ‬القصور،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬دوره‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬ناقصًا‭ ‬ولكن‭ ‬الصراحة‭ ‬كانت‭ ‬جارحة‭ ‬وأحيانًا‭ ‬مأساوية‭.‬

 

لا‭ ‬توجد‭ ‬حقيقة‭ ‬مطلقة

إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬كان‭ ‬دور‭ ‬النقد‭ ‬مؤثرًا،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدد‭ ‬المصائر‭ ‬أيضًا،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬سهلاً‭ ‬كما‭ ‬يعتقد‭ ‬الكثيرون،‭ ‬والناقد‭ ‬يسير‭ ‬أحيانًا‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬السكين،‭ ‬فلكي‭ ‬يرضي‭ ‬فئة‭ ‬يجازف‭ ‬بإغضاب‭ ‬فئة‭ ‬أخرى،‭ ‬وهو‭ ‬يتعرض‭ ‬لعمل‭ ‬أدبي‭ ‬أفنى‭ ‬كاتبه‭ ‬جزءًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬وقته‭ ‬في‭ ‬إنجازه‭ ‬ويعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬أنتج‭ ‬تحفة‭ ‬الدهر،‭ ‬ولا‭ ‬يتصور‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬الناقد‭ ‬ببساطة‭ ‬حتى‭ ‬يهيل‭ ‬عليه‭ ‬التراب‭. ‬الحنق‭ ‬والغضب‭ ‬هو‭ ‬أقل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬بهما‭ ‬الكاتب،‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬يغضب‭ ‬الناقد‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬أحيانًا‭ ‬عندما‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬عاجزًا‭ ‬عن‭ ‬قول‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة،‭ ‬وعلى‭ ‬أي‭ ‬حال‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬حقيقة‭ ‬مطلقة،‭ ‬وفي‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ ‬يجد‭ ‬الناقد‭ ‬نفسه‭ ‬معتمدًا‭ ‬على‭ ‬انطباعاته‭ ‬الأولية،‭ ‬ومهما‭ ‬تسلح‭ ‬بالنظريات‭ ‬النقدية‭ ‬الحديثة‭ ‬كالبنيوية‭ ‬والتفكيكية‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬النظريات‭ ‬النقدية،‭ ‬وكلها‭ ‬محاولات‭ ‬لإبعاد‭ ‬الطابع‭ ‬الشخصي‭ ‬عن‭ ‬النقد‭ ‬وإكسابه‭ ‬هالة‭ ‬من‭ ‬الموضوعية،‭ ‬فالناقد‭ ‬يستخدم‭ ‬فكره‭ ‬وثقافته‭ ‬المكتسبة‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية،‭ ‬وإبراز‭ ‬مواطن‭ ‬الجمال‭ ‬التي‭ ‬نجح‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬تصويرها‭ ‬والتعبير‭ ‬عنها،‭ ‬والمواطن‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬فشل‭ ‬فيها،‭ ‬وعرضها‭ ‬بشكل‭ ‬خافت‭ ‬وسطحي،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬التفسير‭ ‬يضع‭ ‬تقييمه‭ ‬للعمل،‭ ‬لكن‭ ‬مشكلة‭ ‬الناقد‭ ‬وحزنه‭ ‬الحقيقي،‭ ‬كما‭ ‬أعتقد،‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الإبداع‭ ‬دائمًا‭ ‬يسبق‭ ‬عمله،‭ ‬ومهما‭ ‬كانت‭ ‬ثقافة‭ ‬الناقد‭ ‬عالية‭ ‬وموسوعية‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬رغمًا‭ ‬عنه‭ ‬يضعها‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬المبدع‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬أقل‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الثقافي،‭ ‬فوجود‭ ‬الأعمال‭ ‬الإبداعية‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬قصة‭ ‬أو‭ ‬شعرًا‭ ‬أمر‭ ‬ضروري‭ ‬حتى‭ ‬يمارس‭ ‬الناقد‭ ‬عمله‭.‬

‭ ‬

سطوة‭ ‬السياسة‭ ‬على‭ ‬الثقافة

تأتي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬مشكلة‭ ‬الناقد‭ ‬الثانية،‭ ‬وهي‭ ‬محاولة‭ ‬إقناعنا‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬هو‭ ‬الصواب،‭ ‬وأن‭ ‬أحكامه‭ ‬نهائية‭ ‬تستند‭ ‬للمنطق،‭ ‬وبالطبع‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬شيء‭ ‬نهائياً‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬وفي‭ ‬الحياة‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬فهناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المناهج‭ ‬النقدية‭ ‬وتعبر‭ ‬عن‭ ‬اختلاف‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭. ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬زادت‭ ‬سطوة‭ ‬السياسة‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬الثقافية‭ ‬وتغيرت‭ ‬المفاهيم‭ ‬مع‭ ‬تغير‭ ‬النظم‭ ‬السياسية،‭ ‬فمع‭ ‬سيادة‭ ‬الأنظمة‭ ‬الاشتراكية‭ ‬كانت‭ ‬الواقعية‭ ‬هي‭ ‬الاتجاه‭ ‬المفضل،‭ ‬وكان‭ ‬النقاد‭ ‬يعلون‭ ‬دائمًا‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الأدب‭ ‬الذي‭ ‬يعكس‭ ‬الصور‭ ‬المختلفة‭ ‬للحياة‭ ‬وخاصة‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الطبقات،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬ضعف‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬بدأ‭ ‬النقاد‭ ‬يركزون‭ ‬على‭ ‬تجارب‭ ‬أخرى‭ ‬تبتعد‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬وتحاول‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬أغوار‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬انتابتها‭ ‬مسحة‭ ‬من‭ ‬الغموض،‭ ‬وعلى‭ ‬النقاد‭ ‬دائمًا‭ ‬تفسير‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭. ‬المشكلة‭ ‬الثالثة‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬الناقد‭ ‬برأيي‭ ‬هي‭ ‬محاولته‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬موضوعيًا،‭ ‬وأن‭ ‬يكبح‭ ‬أهواءه‭ ‬الشخصية‭ ‬من‭ ‬حب‭ ‬أو‭ ‬كره،‭ ‬وأن‭ ‬يستعين‭ ‬بخبرته‭ ‬على‭ ‬درس‭ ‬الأساليب‭ ‬الأدبية‭ ‬المختلفة،‭ ‬والنفاذ‭ ‬إلى‭ ‬عمق‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي،‭ ‬ولن‭ ‬يتأتى‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الناقد‭ ‬يمتلك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأدوات،‭ ‬مثل‭ ‬الحس‭ ‬المرهف‭ ‬والفهم‭ ‬العميق،‭ ‬وقدرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬والثقافة‭ ‬اللتين‭ ‬تؤهلانه‭ ‬لإصدار‭ ‬أحكام‭ ‬صائبة‭.‬

 

الاتجاه‭ ‬التكميلي

تطورت‭ ‬أدوات‭ ‬النقد‭ ‬ومدارسه‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الأحكام‭ ‬الشفوية‭ ‬والانطباعية،‭ ‬أصبح‭ ‬له‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الاتجاهات‭ ‬المحددة،‭ ‬فاهتمام‭ ‬الناقد‭ ‬الأول‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ينصب‭ ‬على‭ ‬العناصر‭ ‬الفنية‭ ‬المكونة‭ ‬للعمل‭ ‬الأدبي،‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬وحبكة‭ ‬وتخيل‭ ‬ورسم‭ ‬ملامح‭ ‬الشخصيات‭ ‬والبيئة‭ ‬المحيطة‭ ‬بها،‭ ‬ويستعين‭ ‬الناقد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بالعوامل‭ ‬النفسية‭ ‬والتاريخية،‭ ‬ودراسة‭ ‬مدى‭ ‬تأثير‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬على‭ ‬الأديب‭ ‬كاتب‭ ‬النص،‭ ‬وتهتم‭ ‬بعض‭ ‬الدراسات‭ ‬بالنشأة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والبيئة‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬منها‭ ‬الكاتب‭ ‬وتأثيرها‭ ‬على‭ ‬أعماله،‭ ‬ودراسات‭ ‬أخرى‭ ‬تهتم‭ ‬بتأثير‭ ‬الجانب‭ ‬النفسي‭ ‬والحالة‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬الأديب‭ ‬وهو‭ ‬يقوم‭ ‬بالكتابة،‭ ‬وهذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬لا‭ ‬يلتفت‭ ‬كثيرًا‭ ‬للقيمة‭ ‬الفنية‭ ‬ويعتمد‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬على‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬ومدى‭ ‬الصحة‭ ‬العقلية‭ ‬التي‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬الكاتب،‭ ‬ولكن‭ ‬الغالب‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬الاتجاه‭ ‬التكميلي‭ ‬الذي‭ ‬يوازن‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬وينظر‭ ‬للعمل‭ ‬الأدبي‭ ‬بشكل‭ ‬شامل‭.‬

 

أين‭ ‬المعارك‭ ‬الورقية؟

من‭ ‬نتائج‭ ‬اختفاء‭ ‬النقد‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الصحافة‭ ‬الورقية،‭ ‬اختفاء‭ ‬المعارك‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدور‭ ‬بين‭ ‬النقاد‭ ‬وبقية‭ ‬المثقفين،‭ ‬ولفظ‭ ‬المعارك‭ ‬هنا‭ ‬يبدو‭ ‬مبالغًا‭ ‬فيه‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬فلا‭ ‬توجد‭ ‬فيها‭ ‬أسلحة‭ ‬ولا‭ ‬ضحايا،‭ ‬لكنها‭ ‬مجرد‭ ‬خلافات‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ ‬تدور‭ ‬بين‭ ‬مثقفين‭ ‬وأدباء‭ ‬يستعين‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬بأدواته‭ ‬المعرفية‭ ‬والنقدية‭ ‬لإثبات‭ ‬وجهة‭ ‬نظره،‭ ‬وقد‭ ‬فجرت‭ ‬هذه‭ ‬المعارك‭ ‬قضايا‭ ‬مهمة،‭ ‬مثل‭ ‬صراع‭ ‬الفصحى‭ ‬والعامية‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬أو‭ ‬أفضلية‭ ‬التيارات‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬يتبعها‭ ‬الكتَّاب،‭ ‬والصراع‭ ‬بين‭ ‬الثقافتين‭ ‬العربية‭ ‬والغربية‭ ‬وخاصة‭ ‬الفرنكوفونية،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬والمغرب،‭ ‬وامتدت‭ ‬إلى‭ ‬نقد‭ ‬الأعمال‭ ‬الشعرية‭ ‬والروائية،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬فئة‭ ‬تتعصب‭ ‬لكاتب‭ ‬ضد‭ ‬آخر،‭ ‬وكانت‭ ‬المعارك‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬يبدأها‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬والرافعي‭ ‬والعقاد‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يشترك‭ ‬فيها‭ ‬آخرون،‭ ‬ولا‭ ‬تنحدر‭ ‬أبدًا‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬السباب،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬المقالات‭ ‬التي‭ ‬تنشر‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الجرائد‭ ‬كانت‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬النقدي‭ ‬والفكري‭ ‬لدى‭ ‬القراء،‭ ‬كانت‭ ‬صخبًا‭ ‬لا‭ ‬يهدأ‭. ‬وهناك‭ ‬معارك‭ ‬لا‭ ‬تنسى،‭ ‬مثل‭ ‬المعركة‭ ‬التي‭ ‬أثارها‭ ‬العقاد‭ ‬ضد‭ ‬تتويج‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬بلقب‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء،‭ ‬وكذلك‭ ‬المعارك‭ ‬التي‭ ‬اشتعلت‭ ‬بين‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬والعقاد،‭ ‬وبين‭ ‬العقاد‭ ‬والشعراء‭ ‬الجدد‭ ‬حول‭ ‬الشعر‭ ‬الحر،‭ ‬وتلك‭ ‬المعركة‭ ‬اللغوية‭ ‬التي‭ ‬ثارت‭ ‬بين‭ ‬عبدالقدوس‭ ‬الأنصاري‭ ‬وحمد‭ ‬الجاسر‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬المنهل،‭ ‬حول‭ ‬النطق‭ ‬الصحيح‭ ‬لأسماء‭ ‬المدن‭ ‬السعودية،‭ ‬ومعركة‭ ‬الشاعرين‭ ‬العراقيين‭ ‬الرصافي‭ ‬والزهاوي‭ ‬حول‭ ‬الخلاف‭ ‬في‭ ‬الولاء‭ ‬السياسي‭ ‬للوجود‭ ‬العثماني‭ ‬الراحل‭ ‬أو‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإنجليزي‭ ‬القادم،‭ ‬ومعارك‭ ‬أنيس‭ ‬منصور‭ ‬حول‭ ‬اتهامه‭ ‬بالتطبيع‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وكذلك‭ ‬خلافاته‭ ‬مع‭ ‬التيارات‭ ‬الدينية،‭ ‬والمعركة‭ ‬الحامية‭ ‬الوطيس‭ ‬التي‭ ‬عانى‭ ‬منها‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬عندما‭ ‬أصدر‭ ‬كتابه‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬وانتهى‭ ‬الأمر‭ ‬بمصادرة‭ ‬الكتاب،‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المعارك‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬الاختفاء،‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬عاد‭ ‬البعض‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬منصات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬كانت‭ ‬باهتة‭ ‬وبلا‭ ‬أفكار‭ ‬عميقة،‭ ‬بل‭ ‬دون‭ ‬وازع‭ ‬أخلاقي‭ ‬أيضًا‭. ‬نحن‭ ‬نواجه‭ ‬الآن‭ ‬أجيالًا‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬لا‭ ‬يتناقشون‭ ‬طويلًا،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يتبادلون‭ ‬السباب‭ ‬والشتائم‭ ‬واتهام‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬بالسرقات‭ ‬الأدبية،‭ ‬ومعاركهم‭ ‬تشتعل‭ ‬وتنطفئ‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬أثرًا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭.‬

 

الهواء‭ ‬الأسود

المعركة‭ ‬الأكبر‭ ‬والتي‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬لقب‭ ‬فضيحة‭ ‬النقاد،‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬الستينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬فقد‭ ‬تعرض‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬النقاد‭ ‬للخداع‭ ‬وتم‭ ‬التغرير‭ ‬بهم،‭ ‬ففي‭ ‬فضيحة‭ ‬‮«‬الهواء‭ ‬الأسود‮»‬،‭ ‬تبين‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬النقاد‭ ‬لا‭ ‬يعانون‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬سطحية‭ ‬الأفكار‭ ‬بل‭ ‬ومن‭ ‬عقدة‭ ‬الخواجة‭ ‬أيضًا،‭ ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬الأمر‭ ‬كمقلب‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الكاتب‭ ‬الساخر‭ ‬أحمد‭ ‬رجب،‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬مسرحية‭ ‬قصيرة‭ ‬مليئة‭ ‬بالتخاريف،‭ ‬يقلد‭ ‬فيها‭ ‬مسرحيات‭ ‬العبث‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وعلى‭ ‬حد‭ ‬قوله‭ ‬لم‭ ‬يستغرق‭ ‬كتابتها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬ساعة،‭ ‬واتفق‭ ‬مع‭ ‬أنيس‭ ‬منصور‭ ‬على‭ ‬الادعاء‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬العبثية‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬الكاتب‭ ‬الألماني‭ ‬فريدريك‭ ‬دورنيمات‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قام‭ ‬بزيارة‭ ‬للقاهرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت،‭ ‬وقاما‭ ‬بإرسال‭ ‬المسرحية‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬أشهَر‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬يطلبان‭ ‬منهم‭ ‬تقييمها،‭ ‬وعلى‭ ‬الفور‭ ‬تبارى‭ ‬هؤلاء‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬المسرحية‭ ‬والإشادة‭ ‬المبالغ‭ ‬فيها‭ ‬واعتبروها‭ ‬تجربة‭ ‬جديدة‭ ‬تحمل‭ ‬أبعادًا‭ ‬فكرية‭ ‬مبتكرة،‭ ‬وبعد‭ ‬نشر‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬ظهر‭ ‬أحمد‭ ‬رجب‭ ‬معلناً‭ ‬أن‭ ‬المسرحية‭ ‬من‭ ‬تأليفه،‭ ‬وأنها‭ ‬مجرد‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التخاريف،‭ ‬وأوسع‭ ‬النقاد‭ ‬المشاركين‭ ‬بانتقادات‭ ‬من‭ ‬لسانه‭ ‬اللاذع،‭ ‬وكان‭ ‬الأمر‭ ‬محرجًا‭ ‬للجميع،‭ ‬فقد‭ ‬سخر‭ ‬منهم‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وتوفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬والعقاد‭ ‬وانهالت‭ ‬رسائل‭ ‬القراء‭ ‬الساخرة،‭ ‬وكانت‭ ‬صدمة‭ ‬مجموعة‭ ‬النقاد‭ ‬كبيرة،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬تراجع‭ ‬واعترف‭ ‬بالخدعة‭ ‬وأعلن‭ ‬أنه‭ ‬سيكف‭ ‬عن‭ ‬الكتابة،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬أصرّ‭ ‬على‭ ‬رأيه‭ ‬وكتب‭ ‬الدراسات‭ ‬الطويلة‭ ‬ليثبت‭ ‬صواب‭ ‬رأيه،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬هاجم‭ ‬أحمد‭ ‬رجب‭ ‬بضراوة،‭ ‬ولكن‭ ‬الغطاء‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬انكشف‭ ‬عن‭ ‬الجميع‭.‬

مهما‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬فالنقد‭ ‬عملية‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬تؤخذ‭ ‬بالجدية‭ ‬اللازمة‭ ‬والكف‭ ‬عن‭ ‬حصاره‭ ‬وإفساح‭ ‬المجال‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬النشر،‭ ‬ولا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتركه‭ ‬يحتضر،‭ ‬فهو‭ ‬لازم‭ ‬لترقية‭ ‬عملية‭ ‬الإبداع،‭ ‬وبوجه‭ ‬عام‭ ‬فكل‭ ‬الدراسات‭ ‬التربوية‭ ‬الحديثة‭ ‬تسعى‭ ‬لخلق‭ ‬ملكة‭ ‬النقد‭ ‬عند‭ ‬الأطفال،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬فقط‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجالات،‭ ‬وهو‭ ‬عملية‭ ‬جادة‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تخضع‭ ‬للذوق‭ ‬الشخصي‭ ‬فقط‭ ‬ولا‭ ‬يتم‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنها‭ ‬أيضًا■