إدغار موران: الفرد أولاً أم المجتمع؟

إدغار موران: الفرد أولاً أم المجتمع؟

يعد‭ ‬الفيلسوف‭ ‬وعالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الفرنسي‭ ‬إدغار‭ ‬موران‭ (‬1921‭) ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المفكرين‭ ‬الشموليين‭ ‬الذين‭ ‬تناولوا‭ ‬مختلف‭ ‬مشاكل‭ ‬العصر،‭ ‬بروح‭ ‬نقدية‭ ‬إصلاحية‭. ‬وهو‭ ‬يكرر‭ ‬دائمًا‭ ‬أننا‭ ‬نسير‭ ‬باتجاه‭ ‬الهاوية‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬نغير‭ ‬في‭ ‬الأسس‭ ‬التي‭ ‬بنيت‭ ‬عليها‭ ‬الدول‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والتعليم‭ ‬والعلم‭ ‬الحديث،‭ ‬لأن‭ ‬علة‭ ‬عصرنا‭ ‬وأمراضه‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬تعود‭ ‬أساسًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬الحديثة‭ ‬تنظم‭ ‬المجتمعات‭ ‬بشكل‭ ‬جيد‭ ‬ولكنها‭ ‬حوّلت‭ ‬نفسها‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬للتسلط‭ ‬والظلم،‭ ‬وأن‭ ‬العلم‭ ‬الحديث‭ ‬حقق‭ ‬قفزات‭ ‬نوعية‭ ‬كبيرة‭ ‬وساعده‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مشاكلنا،‭ ‬ولكنه‭ ‬أصبح‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الأدوات‭ ‬خطرًا‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الشر،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬اقترانه‭ ‬بالتكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬وصناعة‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية‭. ‬أما‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬فهو‭ ‬مزدهر‭ ‬ولكن‭ ‬أعداد‭ ‬الفقراء‭ ‬تزداد‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬أيضًا‭. ‬

‭ ‬وتعود‭ ‬قساوة‭ ‬نقد‭ ‬موران‭ ‬لحضارتنا‭ ‬المعاصرة‭ ‬إلى‭ ‬اعتقاده‭ ‬بأنه‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التقدم‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحديثة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التفكك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ومشاكل‭ ‬المراهقين‭ ‬وصراع‭ ‬الأجيال‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭.‬‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الجديد‭ ‬حقق‭ ‬استقرارًا‭ ‬مقبولًا‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الصراعات‭ ‬والحروب‭ ‬تنتشر‭ ‬انتشار‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬الهشيم‭. ‬ومثلما‭ ‬هناك‭ ‬نمو‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الاقتصادي‭ ‬العالمي‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الأزمات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬تطل‭ ‬برأسها‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬لآخر‭ ‬مخلّفة‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬العالمي‭. ‬

مخاوف‭ ‬موران‭ ‬هذه‭ ‬تعود‭ ‬أساسًا‭ ‬إلى‭ ‬ملاحظته‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬أساطير‭ ‬الحداثة‭ ‬الثلاث‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬أسطورة‭ ‬أن‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬سيجلب‭ ‬السعادة‭ ‬للجميع،‭ ‬وأسطورة‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬سيتحكم‭ ‬بالكون‭ ‬بشكل‭ ‬كامل،‭ ‬وأسطورة‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬يتقدم‭ ‬بالضرورة‭ ‬نحو‭ ‬الأفضل،‭ ‬أخذت‭ ‬بالتلاشي‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭. ‬فالتقدم‭ ‬العلمي‭ ‬اليوم‭ ‬أصبح‭ ‬بيد‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬به‭ ‬وتستغله‭ ‬ضد‭ ‬من‭ ‬يخالفها،‭ ‬مثلما‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬بالكون‭ ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬جائحة‭ ‬‮«‬كورونا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أودت‭ ‬بحياة‭ ‬ملايين‭ ‬البشر‭. ‬أما‭ ‬السعادة‭ ‬فقد‭ ‬ضاعت‭ ‬وسط‭ ‬الإحصاءات‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬الارتفاع‭ ‬الرهيب‭ ‬في‭ ‬أعداد‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬وبؤس،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬تراجع‭ ‬التضامن‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والشعور‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬الأخلاقية‭. ‬

أما‭ ‬سبب‭ ‬تلك‭ ‬الأزمات‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬لا‭ ‬يسير‭ ‬إلى‭ ‬التقدم‭ ‬والسلام‭ ‬والرخاء‭ ‬بالضرورة،‭ ‬كما‭ ‬يعتقد‭ ‬غالبية‭ ‬البشر،‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬صراعات‮»‬‭ ‬كبرى‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحرك‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭: ‬الصراعات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬العالمية،‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والفرد،‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع،‭ ‬صراع‭ ‬الهويات‭ ‬والقوميات،‭ ‬الصراعات‭ ‬بين‭ ‬الدول،‭ ‬تنمر‭ ‬الدول‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬على‭ ‬شعوبها‭. ‬وعلى‭ ‬ذلك،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬كيف‭ ‬يدير‭ ‬تلك‭ ‬الصراعات‭ ‬ويسخرها‭ ‬لخدمة‭ ‬مصالحه‭ ‬الكبرى‭ ‬فإن‭ ‬المستقبل‭ ‬سيبقى‭ ‬غامضًا،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬لأي‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬المستقبليات‭ ‬أن‭ ‬يتكهن‭ ‬بما‭ ‬سيكون‭ ‬عليه‭ ‬الكون‭ ‬بعد‭ ‬عدة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمن‭. ‬

إحدى‭ ‬أهم‭ ‬طرق‭ ‬اكتشاف‭ ‬الصراعات‭ ‬داخل‭ ‬المجتمعات‭ ‬عند‭ ‬موران‭ ‬هي‭ ‬‮«‬تحليل‭ ‬المفاهيم‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬لاكتشاف‭ ‬التناقضات‭ ‬داخلها،‭ ‬فهو‭ ‬يحلل‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الحرية‭ ‬الفردية‮»‬‭ - ‬مثلاً‭ - ‬لدى‭ ‬الغرب‭ ‬ليجد‭ ‬أنه‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الحرية‭ ‬قد‭ ‬جلبت‭ ‬الحياة‭ ‬المستقلة‭ ‬واحترمت‭ ‬الخصوصيات‭ ‬وحدّت‭ ‬من‭ ‬استغلال‭ ‬البشر‭ ‬لبعضهم،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬جلبت‭ ‬للإنسان‭ ‬الغربي‭ ‬العزلة‭ ‬والتفكك‭ ‬الأسري‭ ‬أيضًا،‭ ‬مثلما‭ ‬جعلته‭ ‬أكثر‭ ‬أنانية‭ ‬وكائنًا‭ ‬باردًا‭ ‬اجتماعيًا‭. ‬وعندما‭ ‬يحلل‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬المساواة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يُعدّ‭ ‬أحد‭ ‬أعمدة‭ ‬الحداثة‭ ‬الثلاثة‭ (‬الحرية،‭ ‬المساواة،‭ ‬التآخي‭)‬،‭ ‬يجد‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬يريدها‭ ‬لنفسه‭ ‬وشعوبه‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يريدها‭ ‬للشعوب‭ ‬الأخرى‭. ‬ولذلك‭ ‬يتوصل‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬‮«‬البديهيات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تربيّنا‭ ‬عليها‭ ‬وتعلمناها‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬والجامعات‭ ‬لكي‭ ‬نواجه‭ ‬أزمة‭ ‬‮«‬الوجود‭ ‬الإنساني‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الحب‭ ‬والتضامن‭ ‬والشعور‭ ‬بالمسؤولية،‭ ‬وحيث‭ ‬يعاني‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬الوحدة‭ ‬والضغوط‭ ‬النفسية‭ ‬و«القلق‭ ‬العام‮»‬‭ ‬والشعور‭ ‬بالريبة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬به،‭ ‬وحيث‭ ‬معاناة‭ ‬الفئات‭ ‬المهمّشة‭ ‬مستمرة‭. ‬وموران‭ ‬يعطي‭ ‬تلك‭ ‬المشكلات‭ ‬أولوية‭ ‬في‭ ‬تفكيره‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يعتبرها‭ ‬هامشية‭ ‬فهو‭ ‬يكرر‭ ‬دائمًا‭ ‬أن‭ ‬مشاكل‭ ‬العوائل‭ ‬والمراهقين‭ ‬والمهمّشين‭ ‬وسكان‭ ‬الأرياف‭ ‬والمدن‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬داخلهم‭ ‬بشكل‭ ‬مركّز‭ ‬‮«‬مشاكل‭ ‬حضاراتنا‮»‬‭.‬

 

العلاقة‭ ‬المركبة‭ ‬بين‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭ ‬

في‭ ‬تحليله‭ ‬لعلاقة‭ ‬الفرد‭ ‬بالمجتمع‭ ‬يقف‭ ‬موران‭ ‬ضد‭ ‬النزعة‭ ‬الفردية‭ ‬الغربية‭ ‬المفرطة‭ ‬التي‭ ‬تحوّل‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬خادم‭ ‬للفرد‭ ‬وحام‭ ‬لحرياته‭ ‬الشخصية،‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تقدير‭ ‬لدور‭ ‬المجتمع‭ ‬وقيمه‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬موران‭ ‬أيضًا‭ ‬ضد‭ ‬النزعة‭ ‬الجماعية‭ ‬التي‭ ‬تبالغ‭ ‬في‭ ‬احترام‭ ‬وتبجيل‭ ‬المجتمع،‭ ‬ودعم‭ ‬سيطرته‭ ‬على‭ ‬الأفراد‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭ ‬لينتهي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬للفرد‭ ‬حريات‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ينالها‭ ‬كاملة،‭ ‬وحياة‭ ‬خاصة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تحترم،‭ ‬ولكن‭ ‬للمجتمع‭ ‬أيضًا‭ ‬دورًا‭ ‬ومكانة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكونا‭ ‬حاضرين‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭ ‬ولكن‭ ‬كيف‭ ‬يتم‭ ‬ذلك؟‭ ‬

مشكلة‭ ‬الفردية‭ ‬المفرطة‭ ‬أنها‭ ‬أوقعت‭ ‬الفرد‭ ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬الأنانية‭ ‬والتمركز‭ ‬حول‭ ‬الذات‭ ‬ومتطلباتها‭. ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الفرد‭ ‬المعاصر‭ ‬أصبح‭ ‬لا‭ ‬يفكر‭ ‬سوى‭ ‬بنفسه‭ ‬وحاجاته‭ ‬ومستوى‭ ‬معيشته‭. ‬وهذا‭ ‬أدى‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬‮«‬قلق‭ ‬العيش‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬الناس،‭ ‬والذي‭ ‬يعني‭ ‬التفكير‭ ‬الدائم‭ ‬برفع‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة‭ ‬وترفيه‭ ‬الذات‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬درجة‭ ‬ممكنة‭. ‬أما‭ ‬أهم‭ ‬مشكلة‭ ‬تسببت‭ ‬بها‭ ‬الفردية‭ ‬المفرطة‭ ‬فهي‭ ‬تراجع‭ ‬شعور‭ ‬الأفراد‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬تجاه‭ ‬مجتمعاتهم،‭ ‬وضمور‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬تراجع‭ ‬الأخلاق‭ ‬العامة‭. ‬

أما‭ ‬مشكلة‭ ‬المجتمع،‭ ‬الذي‭ ‬شكّل‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬التاريخ‭ ‬‮«‬كيانًا‭ ‬مستقلاً‮»‬‭ ‬عن‭ ‬الفرد،‭ ‬فتعود‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬يحاول‭ ‬فرض‭ ‬مصالحه‭ ‬ومعاييره‭ ‬على‭ ‬الفرد‭ ‬بشكل‭ ‬شبه‭ ‬قسري‭. ‬فمع‭ ‬الأيام‭ ‬أصبحت‭ ‬للمجتمعات‭ ‬حسابات‭ ‬ومصالح‭ ‬لا‭ ‬تتوافق‭ ‬مع‭ ‬مصالح‭ ‬الأفراد‭ ‬وحساباتهم،‭ ‬لأن‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬لا‭ ‬يهتم‭ ‬بمصالح‭ ‬أفراده‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يهتم‭ ‬بمصالح‭ ‬الفئات‭ ‬ذات‭ ‬النفوذ‭ ‬والمكانة‭ ‬التي‭ ‬تتحكّم‭ ‬به‭. ‬وبالتالي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تحول‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬لتجاهل‭ ‬مصالح‭ ‬الأفراد‭ ‬وحقوقهم‭. ‬ولذلك‭ ‬يرى‭ ‬موران‭ ‬أن‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬التاريخ‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬‮«‬صراع‭ ‬دائم‮»‬،‭ ‬يحاول‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬المجتمع‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬الفرد،‭ ‬ويحاول‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬مواجهة‭ ‬المجتمع‭ ‬وسطوة‭ ‬الفئات‭ ‬التي‭ ‬تديره‭. ‬

ومع‭ ‬ترسخ‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬موازين‭ ‬القوة‭ ‬أصبحت‭ ‬تميل‭ ‬لصالح‭ ‬المجتمع‭ ‬أكثر‭. ‬فالدول‭ ‬اليوم‭ ‬تدعم‭ ‬المجتمع‭ ‬وتستخدمه‭ ‬لضبط‭ ‬الأفراد،‭ ‬مثلما‭ ‬أن‭ ‬قدرة‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬نفسه‭ ‬أصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬مرونة‭. ‬ولذلك‭ ‬يعتقد‭ ‬موران‭ ‬أن‭ ‬المجتمع‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬الفرد‭ ‬وعمره‭ ‬أطول،‭ ‬لأن‭ ‬الأفراد‭ ‬يموتون،‭ ‬ولكن‭ ‬المجتمع‭ ‬يبقى‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬يجدد‭ ‬قوته‭ ‬ويعيد‭ ‬تأهيل‭ ‬نفسه‭. ‬ولذلك‭ ‬يصف‭ ‬موران‭ ‬المجتمع‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬وحش‭ ‬عملاق‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬تشبيه‭ ‬يستعيره‭ ‬من‭ ‬الفيلسوف‭ ‬البريطاني‭ ‬هوبز‭.‬

 

دور‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحديثة‭ ‬

أما‭ ‬أكثر‭ ‬وسيلتين‭ ‬يحاول‭ ‬من‭ ‬خلالهما‭ ‬المجتمع‭ ‬أن‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬الأفراد‭ ‬ويحدّ‭ ‬من‭ ‬حرياتهم‭ ‬ومصالحهم‭ ‬فهما‭: ‬الشعور‭ ‬بالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬الهويّة‭ ‬والنزعة‭ ‬الاستهلاكية‭. ‬

تعود‭ ‬قضية‭ ‬الهويّة‭ ‬ودورها‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭ ‬إلى‭ ‬سبب‭ ‬بسيط‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هويّة‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬داخلها‭ ‬ميولًا‭ ‬تساعد‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الفرد‭ ‬والتحكّم‭ ‬بحرياته‭ ‬الخاصة‭.‬‭ ‬وتتعقد‭ ‬المشكلة‭ ‬إذا‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬غالبية‭ ‬الدول‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الأفراد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المجتمع،‭ ‬مستغلة‭ ‬حاجات‭ ‬الإنسان‭ ‬النفسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والروحية‭ ‬إلى‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬هويّة‭ ‬يشعر‭ ‬بها‭.‬

حتى‭ ‬أن‭ ‬غالبية‭ ‬الدول‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬تستثمر‭ ‬في‭ ‬تأجيج‭ ‬الهويّات‭ ‬لفرض‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬الأفراد‭ ‬والتحكّم‭ ‬بهم،‭ ‬ويعود‭ ‬ذلك‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬تأجيج‭ ‬الهويّات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والدينية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬إمكانية‭ ‬تحكّم‭ ‬السياسيين‭ ‬والحكّام‭ ‬بالمجال‭ ‬العام‭ ‬تصبح‭ ‬أكبر،‭ ‬وقدرتهم‭ ‬على‭ ‬توجيه‭ ‬الناس‭ ‬تصبح‭ ‬أسهل،‭ ‬لأن‭ ‬الخوف‭ ‬على‭ ‬الهويّة‭ ‬يدفع‭ ‬الأفراد‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬تنازلات‭ ‬لصالح‭ ‬الدولة،‭ ‬التي‭ ‬توهمهم‭ ‬على‭ ‬أية‭ ‬حال‭ ‬بأنها‭ ‬حامية‭ ‬لهوياتهم‭. ‬

ومع‭ ‬ظهور‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬دولة‭ ‬الأمة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬الحديثة،‭ ‬ارتفعت‭ ‬وتيرة‭ ‬تسخير‭ ‬الانتماء‭ ‬للهويّة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فرض‭ ‬طاعة‭ ‬الفرد‭ ‬للمجتمع‭. ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬بالغت‭ ‬في‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬وجود‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وبين‭ ‬تفانيه‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬وطنه‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬أي‭ ‬تحويل‭ ‬وجود‭ ‬الفرد‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬تابعة‭ ‬للوطن‭.‬‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬شعوبًا‭ ‬بأكملها‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬آلةٍ‭ ‬تخدم‭ ‬الفئات‭ ‬المتحكّمة‭ ‬بالوطن،‭ ‬وهي‭ ‬راضية،‭ ‬متوهمةً‭ ‬أنها‭ ‬بذلك‭ ‬تخدم‭ ‬أوطانها‭. ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬موران‭ ‬يحّمل‭ ‬مسألة‭ ‬تأجيج‭ ‬الهويات‭ ‬مسؤولية‭ ‬جر‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬حروب‭ ‬وصراعات‭ ‬دموية‭ ‬ذهب‭ ‬ضحيتها‭ ‬ملايين‭ ‬البشر‭. ‬

المشكلة‭ ‬تتعقد‭ ‬اليوم‭ ‬لأن‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر‭ ‬يشهد‭ ‬تحالف‭ ‬دول‭ ‬كبرى‭ ‬عبر‭ ‬العولمة،‭ ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬العولمة‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تلجأ،‭ ‬بحكم‭ ‬طبيعتها،‭ ‬إلى‭ ‬إغراق‭ ‬الأفراد‭ ‬في‭ ‬نزعة‭ ‬استهلاكية‭ ‬مفرطة،‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الفرد‭ ‬مستلبًا‭ ‬لحياته‭ ‬المادية‭ ‬وتأمين‭ ‬حاجته‭ ‬المتنامية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يصبح‭ ‬وضع‭ ‬الفرد‭ ‬ضعيفًا،‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬لأن‭ ‬المتحكّم‭ ‬به‭ ‬هنا‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة‭ ‬أيضًا،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الشركات‭ ‬التجارية‭ ‬الكبرى‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭. ‬

ولكن،‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الدول‭ ‬الديكتاتورية‭ ‬تستخدم‭ ‬تأجيج‭ ‬الهويّات‭ ‬كوسيلة‭ ‬لكي‭ ‬تفرض‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬شعوبها،‭ ‬فإن‭ ‬الدول‭ ‬الديمقراطية‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثية،‭ ‬لا‭ ‬تهتم‭ ‬كثيرًا‭ ‬بالاستثمار‭ ‬في‭ ‬الهويّات،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تهتم‭ ‬بتحويل‭ ‬الفرد‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬كائن‭ ‬استهلاكي‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬صفة‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬المجتمعات‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬أنها‭ ‬تبعد‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬انتماءاته‭ ‬وهويّاته‭ ‬وتنوعه‭ ‬الثقافي،‭ ‬وتختزل‭ ‬حياته‭ ‬إلى‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الماديات‭. ‬

وهذا‭ ‬يعني،‭ ‬بالنسبة‭ ‬لموران،‭ ‬أن‭ ‬معالجة‭ ‬قضية‭ ‬الهويّة‭ ‬تتم‭ ‬بطرق‭ ‬مختلفة،‭ ‬بحيث‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نعمل‭ ‬على‭ ‬تخفيف‭ ‬حِدّة‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الهويّات‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تسيطر‭ ‬عليها‭ ‬الأنظمة‭ ‬الديكتاتورية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تجذير‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬الهويّة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تسيطر‭ ‬عليها‭ ‬الأنظمة‭ ‬الديمقراطية‭. ‬

وهنا‭ ‬يطرح‭ ‬موران‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الهوية‭ ‬الإنسانية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أن‭ ‬يحتفظ‭ ‬الأفراد‭ ‬بهوياتهم‭ ‬الوطنية‭ ‬والدينية‭ ‬والقبلية،‭ ‬ولكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬الهويات‭ ‬ضمن‭ ‬أفق‭ ‬إنساني،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬التعصب‭ ‬والعنصرية‭ ‬وتأجيج‭ ‬مشاعر‭ ‬الفوقية،‭ ‬لأن‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬يشكلون‭ ‬أسرة‭ ‬كونية‭ ‬واحدة،‭ ‬وأن‭ ‬اختلافهم‭ ‬في‭ ‬الهويات‭ ‬والثقافات‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عامل‭ ‬إغناء‭ ‬وليس‭ ‬عامل‭ ‬صراع‭. ‬

 

المجتمع‭ ‬أقوى‭ ‬ولكن‭ ‬الأفراد‭ ‬هم‭ ‬الأساس‭ ‬

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الصورة‭ ‬السابقة‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والمجتمعات‭ ‬تعطي‭ ‬الدور‭ ‬الأكبر‭ ‬للمجتمع،‭ ‬وكذلك‭ ‬للدولة‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬من‭ ‬ورائه،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬موران‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬دفة‭ ‬العلاقة‭ ‬يديرها‭ ‬الفرد‭ ‬وليس‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭. ‬وهو‭ ‬يلتقي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬مع‭ ‬أعلام‭ ‬مدرسة‭ ‬فرانكفورت‭ ‬الذين‭ ‬بدورهم‭ ‬يحذرون‭ ‬من‭ ‬التهام‭ ‬الدولة‭ ‬المعاصرة‭ ‬للإنسان‭ ‬المدني‭ ‬الحديث،‭ ‬ولكنهم‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬تلك‭ ‬الدولة،‭ ‬والقوى‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬من‭ ‬ورائها‭. ‬

‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬موران‭ ‬مؤمن‭ ‬بأن‭ ‬للفرد‭ ‬أيضًا‭ ‬عناصر‭ ‬قوة‭ ‬يستطيع‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أن‭ ‬يقاوم‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭. ‬وأول‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الوعي‮»‬‭ ‬لأن‭ ‬الإنسان،‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬هو‭ ‬مركز‭ ‬الوعي‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬المجتمع‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬مشكلة‭ ‬الإنسان‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬أوضاعه‭ ‬ومصائبه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬متأخر‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬علاقة‭ ‬الفرد‭ ‬بالمجتمع‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬تداخل‭ ‬وتضاد‭ ‬وتكامل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬والتداخل‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الفرد‭ ‬يعيش‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع،‭ ‬ولكن‭ ‬المجتمع‭ ‬يعيش‭ ‬أيضًا‭ ‬داخل‭ ‬الفرد،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬لدى‭ ‬الفرد‭ ‬حرية‭ ‬فردية‭ ‬تجاه‭ ‬المجتمع‭ ‬لكن‭ ‬المجتمع‭ ‬يشكل‭ ‬أيضًا‭ ‬كلًا‭ ‬منظمًا‭ ‬تؤثر‭ ‬خصائصه‭ ‬المنبثقة‭ ‬رجعيًا‭ ‬في‭ ‬الفرد‭. ‬وبذلك‭ ‬‮«‬ينتج‭ ‬الأفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬بدوره‭ ‬ينتج‭ ‬الأفراد‮»‬‭ ‬أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للتضاد‭ ‬فيعني‭ ‬أن‭ ‬المجتمع‭ ‬يقمع‭ ‬اندفاعات‭ ‬ورغبات‭ ‬وآمال‭ ‬الفرد‭ ‬التي‭ ‬تميل‭ ‬بدورها‭ ‬إلى‭ ‬مقاومة‭ ‬ضغوط‭ ‬المجتمع‭ ‬وممنوعاته‭. ‬وفيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالتكاملية‭ ‬فتعني‭ ‬أن‭ ‬علاقة‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭ ‬علاقة‭ ‬‮«‬مزدوجة‮»‬،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭ ‬جمعية‭ ‬وتنافسية،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬الأفراد‭ ‬يتنافسون‭ ‬مع‭ ‬المجتمع‭ ‬مثلما‭ ‬تتصارع‭ ‬المصالح،‭ ‬ولكن‭ ‬المجتمع‭ ‬أيضًا‭ ‬يجمعهم،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬وقت‭ ‬الحروب‭ ‬ونائبات‭ ‬الدهر‭. ‬هكذا‭ ‬لا‭ ‬يميل‭ ‬موران‭ ‬إلى‭ ‬إلغاء‭ ‬طرف‭ ‬لحساب‭ ‬آخر،‭ ‬لأنه‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الآخر،‭ ‬ولذلك‭ ‬نجده‭ ‬يجاهد‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬طرفي‭ ‬المعادلة،‭ ‬مع‭ ‬إعطاء‭ ‬المبادرة‭ ‬للأفراد‭ ‬لأن‭ ‬المجتمع‭ ‬هو‭ ‬الأقوى‭ ‬في‭ ‬النهاية‭. ‬

 

لا‭ ‬بديل‭ ‬عن‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬الحداثة

حل‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬المشاكل‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬التي‭ ‬تحدثنا‭ ‬عنها‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ - ‬بحسب‭ ‬موران‭ - ‬إلا‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬الحداثة‭ ‬الثلاث‭ (‬الحرية،‭ ‬المساواة،‭ ‬التآخي‭)‬،‭ ‬وإعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬لكونية‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬أن‭ ‬تعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬أوطانها‭ ‬وخصوصياتها‭ ‬ولكن‭ ‬بنفس‭ ‬الوقت‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لهذا‭ ‬الإعلاء‭ ‬بأن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬انغلاق‭ ‬وطني‮»‬‭ ‬وعنصرية‭ ‬ضد‭ ‬الغير‭. ‬وبنفس‭ ‬الوقت‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬أن‭ ‬تُعلي‭ ‬من‭ ‬شعورها‭ ‬بـالمسؤولية‭ ‬الأخلاقية‭ ‬تجاه‭ ‬شعوبها‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وتجاه‭ ‬‮«‬أزماتنا‭ ‬الكونية‮»‬‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭. ‬مثلما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬للأفراد‭ ‬عن‭ ‬المجتمعات،‭ ‬ولكن‭ ‬العلاقة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الاحترام‭ ‬المتبادل‭ ‬للحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬والخصوصيات‭ ‬الثقافية،‭ ‬وأن‭ ‬يعمل‭ ‬الأفراد‭ ‬على‭ ‬تخفيف‭ ‬تسلط‭ ‬الفئات‭ ‬المتنفذة‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬تلك‭ ‬الفئات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوانى‭ ‬عن‭ ‬تسخير‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬خدمة‭ ‬مصالحها‭ ‬■