الثورة الصناعية الرابعة والمجتمع الخامس

 الثورة الصناعية الرابعة والمجتمع الخامس

يعيش عالمنا اليوم ثورةً صناعيةً غير مسبوقةٍ، اصطُلح على تسميتها بـ «الثّورة الصّناعية الرّابعة» وتُعرف اختصارًا بالإنجليزية IR4، وهي التّسمية الأكثر انتشارًا وتداولًا من الأخريات مثل «الإنترنت الصّناعي» أو «المَصنع الرّقمي» أو «الصّناعة الذّكية».  وتقوم هذه الثّورة النّوعية العملاقة على الصّناعة في طورها الرّابع؛ أي الصّناعة المعتمدة على الاستخدام الكثيف لتقنيات التكنولوجيا الحديثة التي لم يسبق أن سمعنا بها من قبل، مثل: الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والطّابعة الثلاثية الأبعاد، وتحليل البيانات الهائلة وتشفيرها، والخوارزميات المتقدّمة، والتّفاعل المتعدد المستويات مع العملاء، والتفاعل المتطور بين الإنسان والآلة، وسلاسل الكُتل، وتكنولوجيا النّانو، وما إلى ذلك مـن التّقنيـات الرّقمية الباهرة.

‬تُعرَّف‭ ‬الثّورة‭ ‬الصّناعية‭ ‬الرّابعة،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬تُعرَّف‭ ‬به،‭ ‬بأنّها‭ ‬منظومة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الاستخدام‭ ‬المُكثَّف‭ ‬للأدوات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الحديثة‭ ‬وللتقنيات‭ ‬الرّقمية‭ ‬المتطوّرة‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬التّصنيع‭ ‬المعتمِدة‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬الذّكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬ومنصّات‭ ‬إنترنت‭ ‬الأشياء‭ ‬والحوسبة‭ ‬السحابية‭ ‬والروبوتات‭ ‬الذكية‭ ‬وغيرها،‭ ‬وذلك‭ ‬تأسيسًا‭ ‬لما‭ ‬يُسمّى‭ ‬بالمصنع‭ ‬الذّكي،‭ ‬الذي‭ ‬بفضله‭ ‬أصبحنا‭ ‬نسمع‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬بطائراتٍ‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬طيّار‭ ‬ومَرْكبات‭ ‬ذاتية‭ ‬القيادة‭ ‬وخوارزميات‭ ‬الحاسوب‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬التّنبّؤ،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الخوارزميات‭ ‬الحاسوبية‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تمّ‭ ‬تطويرها‭ ‬لاكتشاف‭ ‬أدوية‭ ‬جديدة‭ ‬وموادّ‭ ‬جديدة‭ ‬ومعطيات‭ ‬وتطبيقات‭ ‬وبرامج‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭.‬

وقد‭ ‬ورد‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الثّورة‭ ‬الصّناعية‭ ‬الرّابعة‭  (‬Industry 4.0‭) ‬لأوّل‭ ‬مرّةٍ،‭ ‬ضمن‭ ‬خطّة‭ ‬الحكومة‭ ‬الألمانية‭ ‬لسنة‭ ‬2011،‭ ‬ثم‭ ‬شاع‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬منذ‭ ‬اعتماده‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المنتدى‭ ‬الاقتصادي‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬دافوس‭ ‬السّويسرية‭ ‬عام‭ ‬2016‭ (‬وهو‭ ‬المنتدى‭ ‬الذي‭ ‬يرأسُه‭ ‬مُؤسِّسه‭: ‬عالِم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الألماني‭ ‬الشّهير،‭ ‬كلاوس‭ ‬شواب،‭ ‬والذي‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬سوى‭ ‬واجهة‭ ‬للقوى‭ ‬النّيُوليبرالية‭ ‬في‭ ‬العالم‭).‬

ومن‭ ‬المعلوم‭ ‬أنّ‭ ‬العالم‭ ‬المتحضّر‭ ‬مرّ‭ ‬بثلاث‭ ‬ثوراتٍ‭ ‬صناعيةٍ‭ ‬قبل‭ ‬الثّورة‭ ‬الرّابعة‭ ‬الحالية؛‭ ‬كانت‭ ‬الأولى‭ ‬بين‭ ‬القرنين‭ ‬18‭ ‬و19،‭ ‬وكان‭ ‬المُميِّز‭ ‬الرّئيس‭ ‬لها‭ ‬هو‭ ‬الطّاقة‭ ‬البخارية؛‭ ‬ثم‭ ‬تلتها‭ ‬الثورة‭ ‬الثانية‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬19‭ ‬حتى‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬20،‭ ‬وقامت‭ ‬على‭ ‬الطاقة‭ ‬الكهربائية؛‭ ‬أما‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الثالثة‭ ‬فبدأت‭ ‬منذ‭ ‬ستّينيات‭ ‬القرن‭ ‬20‭ ‬حتى‭ ‬العقد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬21،‭ ‬وقادها‭ ‬الكمبيوتر،‭ ‬واشتهرت‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الثّورة‭ ‬الرّقمية‮»‬‭.‬

 

مجتمع‭ ‬جديد

  ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬أيّ‭ ‬اختراعٍ‭ ‬مُستجدٍّ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬وجودٌ‭ ‬خلال‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الثالثة‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬إنجازات‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الرابعة‭: ‬مثل‭ ‬الطابعة‭ ‬الثلاثية‭ ‬الأبعاد،‭ ‬والتّعديل‭ ‬الجيني،‭ ‬وتقنية‭ ‬النّانو،‭ ‬وتقنية‭ ‬تخزين‭ ‬البيانات‭ ‬وتشفيرها،‭ ‬وتحويل‭ ‬الأموال‭ (‬مثل‭ ‬تقنية‭ ‬البلوكتشين‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تسجيل‭ ‬المعاملات‭ ‬المالية‭ ‬بالعملات‭ ‬الرقمية‭ ‬الافتراضية،‭ ‬ومن‭ ‬أكبر‭ ‬تطبيقاتها‭ ‬عملة‭ ‬بتكوين‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬المواد‭ ‬الجديدة‭ ‬مثل‭ ‬المايكرولاتس‭ ‬والجرافين‭ ‬وغيرهما‭.‬

وممّا‭ ‬لا‭ ‬شكّ‭ ‬فيه‭ ‬أنّ‭ ‬الثّورة‭ ‬الصّناعية‭ ‬الرّابعة‭ - ‬حسب‭ ‬الباحثين‭ ‬والمختصّين‭ ‬مثل‭ ‬البروفيسور‭ ‬كلاوس‭ ‬شواب‭ - ‬سوف‭ ‬تُعمِّق‭ ‬التّغيير،‭ ‬الذي‭ ‬ألحقَتْه‭ ‬بأُسُس‭ ‬التّصنيع‭ ‬والإنتاج‭ ‬والاقتصاد‭ ‬الجزئي‭ ‬والكلّي‭ ‬ووسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬والتواصل‭ ‬وموازين‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬بتغييرٍ‭ ‬أكبر‭ ‬وأشمل‭ ‬يجعل‭ ‬الآلة‭ ‬تقوم،‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر،‭ ‬بدور‭ ‬الإنسان‭ ‬وتحلّ‭ ‬محلّه‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المجالات،‭ ‬بحيث‭ ‬يتداخل‭ ‬فيها‭ ‬الدّماغ‭ ‬البشري‭ ‬مع‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬والرّوبوت‭ ‬والآلة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيعمل،‭ ‬لا‭ ‬محالة،‭ ‬على‭ ‬ظهور‭ ‬مجتمعٍ‭ ‬من‭ ‬نوعٍ‭ ‬جديدٍ،‭ ‬يتفوّق‭ ‬فيه‭ ‬الذّكاء‭ ‬الآلي‭ ‬على‭ ‬الذّكاء‭ ‬البشري،‭ ‬وتتسيّد‭ ‬فيه‭ ‬الآلةُ‭ ‬الذّكية‭ ‬الحياةَ‭ ‬اليوميةَ‭ ‬للإنسان؛‭ ‬إذ‭ ‬ستكون‭ ‬قادرةً‭ ‬على‭ ‬التّعلّم‭ ‬والتّنبّؤ‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرار‭.‬

‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬سيُجرد‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬ميزته‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬يتميّز‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬المادّة،‭ ‬وسيُسقط‭ ‬بالتّالي‭ ‬الحواجز‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مادّي‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬إنساني،‭ ‬ويتمّ‭ ‬في‭ ‬النّهاية‭ ‬تجاوز‭ ‬ما‭ ‬يُسمّى‭ ‬حاليًا‭ ‬بمجتمع‭ ‬المعلومات،‭ ‬لفسح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬بروز‭ ‬مجتمـع‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬المعلومات‭.‬

 

أنظمة‭ ‬راقية‭ ‬ومعقّدة

لكن‭ ‬قبل‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬الجديد،‭ ‬وهو‭ ‬المجتمع‭ ‬الخامس،‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭ ‬مجتمعات‭ ‬الصيد‭ ‬والزراعة‭ ‬والصناعــة‭ ‬والمعلومات،‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬من‭ ‬التعرّف،‭ ‬ولو‭ ‬بإيجاز،‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬أهمّ‭ ‬مظاهر‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الرابعة،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬الذّكاء‭ ‬الاصطناعي‭: ‬أي‭ ‬الذّكاء‭ ‬الذي‭ ‬يسعى،‭ ‬بواسطة‭ ‬أنظمة‭ ‬رقمية‭ ‬راقية‭ ‬جدًّا‭ ‬ومعقّدة،‭ ‬إلى‭ ‬تقمُّص‭ ‬ذكاء‭ ‬الإنسان‭ ‬وتقليد‭ ‬سلوكه‭ ‬وطريقة‭ ‬تفكيره‭ ‬وكيفية‭ ‬اتّخاذ‭ ‬قراراته‭ ‬ورسْم‭ ‬توقُّعاته‭. ‬وهي‭ ‬أنظمةٌ‭ ‬تتطوّر‭ ‬في‭ ‬أدائها‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬وتتعلّم‭ ‬من‭ ‬خبرتها‭ ‬وتقوم‭ ‬بمهامّها،‭ ‬في‭ ‬النّهاية،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتوقّف‭ ‬على‭ ‬تعليمات‭ ‬الإنسان،‭ ‬وتُستخدم‭ ‬حاليًا‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬كافّة‭ ‬مثل‭: ‬التّصنيع‭ ‬والطّبّ‭ ‬وأحوال‭ ‬الطّقس‭ ‬والبرامج‭ ‬الإشهارية‭ ‬والإعلانات‭ ‬والاستشارات‭ ‬القانونية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والبُورْصَوِيّة‭ ‬وغيرها؛‭ ‬وستتمكّن‭ ‬برامج‭ ‬الكمبيوتر،‭ ‬بفضل‭ ‬هذا‭ ‬الذّكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬من‭ ‬تشخيص‭ ‬الأمراض‭ ‬بدقّةٍ‭ ‬بالغةٍ؛‭ ‬كما‭ ‬ستُجري‭ ‬الرّوبوتات‭ ‬العمليات‭ ‬الجراحية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تدخّل‭ ‬الأطبّاء؛‭ ‬وستقوم‭ ‬الآلات‭ ‬الذّكية‭ ‬برسم‭ ‬لوحات‭ ‬فنّيةٍ‭ ‬وعزف‭ ‬قطعٍ‭ ‬موسيقيةٍ،‭ ‬ووضع‭ ‬تصاميم‭ ‬لأبنيةٍ‭ ‬وقناطر‭ ‬وإنشائها‭ ‬بدقّةٍ‭ ‬وسرعةٍ‭ ‬يفوقان‭ ‬بكثيرٍ‭ ‬دقّة‭ ‬وسرعة‭ ‬الكائن‭ ‬البشري‭... ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬والمهام‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يتصوّرها‭ ‬الإنسان‭ ‬حاليًا‭.‬

هذا،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬أنظمة‭ ‬رقمية‭ ‬جديدة‭ - ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬طور‭ ‬التّجربة‭ - ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬الخارق‭ ‬للعادة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬أفكار‭ ‬البشر‭ ‬وتصرفاتهم‭ ‬وانفعالاتهم‭ ‬المؤثرة‭ ‬على‭ ‬سلوكهم،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تمتلك‭ ‬هذه‭ ‬الأنظمة‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التنبؤ‭ ‬بمشاعر‭ ‬الإنسان‭ ‬ومواقفه،‭ ‬للتعامل‭ ‬معها‭ ‬وفق‭ ‬مقتضيات‭ ‬الحال‭ (‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الجيل‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الآلات‭ ‬والحواسيب‭ ‬الفائقة‭ ‬الذّكاء‭ ‬والإحساس‭).‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬للذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬هذه‭ ‬المميزات‭ ‬الإيجابية‭ ‬وغيرها،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬سلبياتٍ‭ ‬قد‭ ‬تجرّ‭ ‬الدّمار‭ ‬على‭ ‬البشرية،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استُعمل‭ ‬مثلًا‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬العسكري‭: ‬كالطائرات‭ ‬الحربية‭ ‬الذاتية‭ ‬القيادة،‭ ‬والصواريخ‭ ‬الموجهة،‭ ‬والأسلحة‭ ‬الفتاكة‭ ‬المصنوعة‭ ‬بواسطة‭ ‬الطابعة‭ ‬الثلاثية‭ ‬الأبعاد؛‭ ‬هذه‭ ‬الطابعة‭ ‬التي‭ ‬سيتمّ‭ ‬التعرّض‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬مقاربة‭ ‬أحد‭ ‬أكبر‭ ‬مظاهر‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الرابعة،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬إنترنت‭ ‬الأشياء،‭ ‬بحُكم‭ ‬ارتباطه‭ ‬المباشر‭ ‬بحياة‭ ‬النّاس‭ ‬واحتياجاتهم‭ ‬ومحيطهم‭ ‬الخاص‭ ‬والعام‭.‬

 

إنترنت‭ ‬الأشياء

إنترنت‭ ‬الأشياء‭ ‬هو‭ ‬تّقنية‭ ‬رقمية‭ ‬يتمّ‭ ‬بواسطتها‭ ‬ربط‭ ‬الأشياء‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬بواسطة‭ ‬شبكة‭ ‬المعلومات‭ ‬الدّولية‭ (‬الإنترنت‭) ‬وبواسطة‭ ‬تقنية‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول‭ ‬ومنصّات‭ ‬البيانات‭ ‬الهائلة،‭ ‬حيث‭ ‬تصبح‭ ‬أجهزة‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭ ‬كافّة‭ - ‬مثلًا‭ - ‬في‭ ‬المطبخ‭ ‬والمنزل‭ ‬والمكتب‭ ‬والمصنع‭ ‬والسّيّارة‭... ‬إلخ،‭ ‬خاضعة‭ ‬لأجهزةٍ‭ ‬ذكيّةٍ‭ ‬تواكب‭ ‬تطلّعات‭ ‬واحتياجات‭ ‬محيطها؛‭ ‬فيُمكن‭ ‬مثلًا‭ ‬للأضواء‭ ‬والأبواب‭ ‬أن‭ ‬تُفتح‭ ‬تلقائيًا‭ ‬أو‭ ‬تُغلق‭ ‬بمجرد‭ ‬دخول‭ ‬المنزل‭ ‬والمكتب‭ ‬أو‭ ‬مغادرتهما،‭ ‬ويمكن‭ ‬للغسّالات‭ ‬وأجهزة‭ ‬التبريد‭ ‬والتكييف‭ ‬أن‭ ‬تُنذر‭ ‬صاحبها‭ ‬بنقصٍ‭ ‬مَّا‭ ‬أو‭ ‬بعطبٍ‭ ‬مُحتملٍ‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تطبيقات‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول،‭ ‬بل‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬تتواصل‭ ‬الأجهزة‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تدخّل‭ ‬صاحبها؛‭ ‬فالثلاجة‭ ‬مثلًا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬ترسل‭ ‬له‭ ‬تنبيهًا‭ ‬إلى‭ ‬هاتفه‭ ‬بشأن‭ ‬اللوازم‭ ‬النّاقصة‭ ‬من‭ ‬مأكولاتٍ‭ ‬ومشروباتٍ،‭ ‬ثم‭ ‬يُحال‭ ‬التنبيه‭ ‬مباشرةً‭ ‬إلى‭ ‬صاحب‭ ‬المتجر‭ ‬لكي‭ ‬يرسل‭ ‬تلك‭ ‬اللوازم‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬تلقائيًا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تدخّل‭ ‬صاحبه،‭ ‬وقد‭ ‬تُحمَل‭ ‬إليه‭ ‬بواسطة‭ ‬طائرةٍ‭ ‬مُسيَّرةٍ‭ (‬الدرون‭)‬؛‭ ‬والشّيء‭ ‬نفسه‭ ‬ينطبق‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬أجهزة‭ ‬مراقبة‭ ‬حركة‭ ‬المرور‭ ‬وشبكات‭ ‬الكهرباء‭ ‬وشبكات‭ ‬البنية‭ ‬التّحتية‭ ‬داخل‭ ‬المدن،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الآلات‭ ‬في‭ ‬المصنع،‭ ‬أو‭ ‬حتّى‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬الأمن‭ ‬المنزلي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التحكم‭ ‬عن‭ ‬بُعد‭ ‬في‭ ‬الأقفال‭ ‬والأبواب‭ ‬والنّوافذ‭ ‬ونظام‭ ‬الحرارة‭ ‬والتّبريد؛‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬أجهزة‭ ‬المراقبة‭ ‬في‭ ‬الطرق‭ ‬السّيّارة‭ ‬والموانئ‭ ‬والمطارات‭ ‬ومحطات‭ ‬السّكك‭ ‬الحديدية‭ ‬وداخل‭ ‬الطائرات‭ ‬والقطارات‭ ‬والبواخر‭.‬

ولعلّ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬استعمالات‭ ‬إنترنت‭ ‬الأشياء،‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬طرافةٍ‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬الطائرات‭ ‬الذكية‭ ‬المُسَيَّرة،‭ ‬إذ‭ ‬ستقوم‭ ‬هذه‭ ‬الطّائرات‭ ‬بتوصيل‭ ‬السّلع‭ ‬والمقتنيات‭ ‬إلى‭ ‬المنازل،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬الوعرة؛‭ ‬وستتكفّل‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬العمليات‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن،‭ ‬مثل‭ ‬تنظيم‭ ‬حركة‭ ‬المرور،‭ ‬وملاحقة‭ ‬المجرمين،‭ ‬وإطفاء‭ ‬الحرائق،‭ ‬ورشّ‭ ‬المحاصيل‭ ‬الزراعية‭... ‬إلخ،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬التصوير‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬السينمائي‭ ‬والرياضي‭ ‬والترفيهي،‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الاستعمالات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الحدّ‭.‬

 

مجسّمات‭ ‬عالية‭ ‬الدقة

أمّا‭ ‬فيما‭ ‬يخصّ‭ ‬الطابعة‭ ‬الثلاثية‭ ‬الأبعاد،‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬الإشارة‭ ‬إليها‭ ‬آنفًا‭ ‬والتي‭ ‬تُعتبر‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الابتكارات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بها‭ ‬الثورة‭ ‬الصّناعية‭ ‬الرّابعة‭ (‬باعتبارها‭ ‬أيقونة‭ ‬هذه‭ ‬الثّورة‭)‬،‭ ‬فهي‭ ‬تُمكّن‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬مُجسّمات‭ ‬عالية‭ ‬الدّقّة‭ ‬والتّعقيد‭ ‬تفوق‭ ‬بكثير‭ ‬تلك‭ ‬المُصنّعة‭ ‬تقليديًا،‭ ‬إنْ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الجودة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الاقتصاد‭ ‬في‭ ‬المواد‭ ‬المستعملة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التّصنيع‭. ‬وتعتمد‭ ‬هذه‭ ‬الطّابعة‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬البرامج‭ ‬الحاسوبية‭ ‬لتصميم‭ ‬المُجسّمات‭ ‬رقميًّا‭ ‬قصْد‭ ‬تجميعها‭ ‬في‭ ‬نماذج‭ ‬ثلاثية‭ ‬الأبعاد،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬إطارها‭ ‬الرّقمي‭ ‬وتصبح‭ ‬شيئًا‭ ‬ملموسًا‭ ‬باستخدام‭ ‬الطّابعة‭ ‬الثلاثية‭ ‬الأبعاد،‭ ‬التي‭ ‬تتمّ‭ ‬فيها‭ ‬عملية‭ ‬الطّباعة‭ ‬بتقنية‭ ‬رصّ‭ ‬الطّبقات‭ ‬الخامة‭ ‬فوق‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬حتّى‭ ‬يكتمل‭ ‬شكل‭ ‬المجسّمات‭ ‬المطلوبة‭. ‬ويُلجأ‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الطبّاعة‭ ‬لصنع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المنتجات؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬النقل‭ ‬البرّي‭ ‬والبحري‭ ‬والجوّي‭ ‬والفضائي،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬البناء‭ ‬لتشييد‭ ‬المنشآت‭ ‬والأبنية،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬صناعة‭ ‬الأسلحة‭ ‬بمختلف‭ ‬أنواعها،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الصّيدلة‭ ‬لتصنيع‭ ‬الأدوية‭ ‬ومواد‭ ‬التجميل،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الطّب،‭ ‬حيث‭ ‬ستتمّ‭ ‬طباعة‭ ‬جميع‭ ‬الأعضاء‭ ‬البشرية‭ ‬القابلة‭ ‬للزّرع،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الكبد‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬يكاد‭ ‬يُجمع‭ ‬الباحثون‭ ‬بشأنها‭ ‬على‭ ‬أنّها‭ ‬ستصنَع‭ ‬بتقنية‭ ‬الطّباعة‭ ‬الثلاثية‭ ‬الأبعاد‭ ‬وتكون‭ ‬قابلة‭ ‬للزّرع‭ ‬في‭ ‬الجسم‭ ‬البشري‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬2025‭.‬

لكنْ‭ ‬على‭ ‬الرّغم‭ ‬من‭ ‬الأهمّية‭ ‬القصوى‭ ‬والمتزايدة‭ ‬التي‭ ‬تكتسيها‭ ‬الطّباعة‭ ‬الثلاثية‭ ‬الأبعاد،‭ ‬بما‭ ‬تقدّمه‭ ‬من‭ ‬خدمات‭ ‬جليلة‭ ‬للإنسان،‭ ‬إلّا‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬مخاطر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه؛‭ ‬إذ‭ ‬قد‭ ‬يُلجأ‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الأشخاص‭ ‬العاديين‭ ‬والإرهابيين‭ ‬لصناعة‭ ‬الأسلحة‭ ‬والمتفجّرات‭ ‬الفتاكة‭ ‬بالبشر،‭ ‬وقد‭ ‬تُستعمل‭ ‬أيضًا‭ ‬لصناعة‭ ‬المخدرات‭ ‬ولانتهاك‭ ‬حقوق‭ ‬الملكية،‭ ‬بتقليد‭ ‬منتجات‭ ‬لماركات‭ ‬معروفة‭ ‬أو‭ ‬بنسخ‭ ‬تُحَفٍ‭ ‬أثريةٍ‭ ‬ولوحاتٍ‭ ‬فنّيةٍ‭ ‬للنّصب‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬سيقتنيها‭.‬

 

مجال‭ ‬خامس

ختامًا،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأنّ‭ ‬الثّورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الرابعة‭ - ‬وبالرّغم‭ ‬من‭ ‬أنّها‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭ - ‬فقد‭ ‬مكّنت‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬اتخاذ‭ ‬الفضاء‭ ‬الإلكتروني‭ ‬مجالًا‭ ‬خامسًا‭ ‬لها؛‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬استغلاله‭ ‬بكثافةٍ‭ ‬بعـد‭ ‬استغلالها‭ ‬للمجالات‭ ‬الأربعة‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الأرض‭ ‬والبحـر‭ ‬والجـو‭ ‬والفضـاء‭ ‬الخارجي‭. ‬

الأمر‭ ‬الذي‭ ‬سيُلحق‭ ‬تغييرًا‭ ‬جذريًا‭ ‬بالحياة‭ ‬على‭ ‬كوكبنا،‭ ‬إنْ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تغيير‭ ‬نمط‭ ‬حياة‭ ‬النّاس‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تغيير‭ ‬طريقة‭ ‬إدارة‭ ‬شؤونهم‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الحكومات‭ ‬والمؤسّسات،‭ ‬التي‭ ‬ستعرف‭ ‬بدورها‭ ‬صراعــاتٍ‭ ‬وحروبًا‭ ‬محكومةً‭ ‬بتقنيـاتٍ‭ ‬تفوق‭ ‬ذكاء‭ ‬الإنسان‭ ‬وقدراته‭ ‬حسبما‭ ‬سلف‭ ‬الذّكر‭.‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نُنهي‭ ‬الموضوع‭ ‬دون‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬التّقنيات‭ ‬الذّكية‭ ‬الفريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها،‭ ‬التي‭ ‬أتت‭ ‬بها‭ ‬هذه‭ ‬الثّورة‭ ‬الصّناعية‭ ‬الجديدة،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحنا‭ ‬نرى‭ ‬منصّات‭ ‬إلكترونية‭ ‬عملاقة‭ ‬تدير‭ ‬رؤوس‭ ‬أموال‭ ‬هائلة‭ ‬بمليارات‭ ‬الدولارات،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المليارات؛‭ ‬فنجد‭ ‬مثلًا‭ ‬شركة‭ ‬أوبر،‭ ‬وهي‭ ‬أكبر‭ ‬شركة‭ ‬سيارات‭ ‬أجرة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬أيّ‭ ‬سيارة‭ ‬على‭ ‬الإطلاق؛‭ ‬ونجد‭ ‬كذلك‭ ‬موقع‭ ‬علي‭ ‬بابا،‭ ‬وهو‭ ‬أهمّ‭ ‬موقعٍ‭ ‬للبيع‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت،‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬أي‭ ‬مصنع؛‭ ‬ونجد‭ ‬أيضًا‭ ‬‮«‬فيسبوك‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬أشهر‭ ‬منصّة‭ ‬إعلامية‭ ‬ـ‭ ‬لا‭ ‬تُنشئ‭ ‬أيّ‭ ‬محتوى؛‭ ‬والشّيء‭ ‬نفسه‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬شركة‭ ‬airbnb،‭ ‬وهي‭ ‬أكبر‭ ‬موفّر‭ ‬لخدمات‭ ‬الإسكان،‭ ‬لا‭ ‬تمتلك‭ ‬أيّ‭ ‬عقار؛‭ ‬وهكذا‭ ‬دواليك‭ ‬مع‭ ‬‮«‬بوكين‮»‬‭ ‬للتّرويج‭ ‬الفندقي،‭ ‬وموقع‭ ‬أمازون‭ ‬الشّهير،‭ ‬وغيرهما‭ ‬■