المرأة... الكتابة... وتفّاحة الغواية

المرأة... الكتابة... وتفّاحة الغواية

   لنتفق أولاً أنّ في الكتابة يستوي الرّجل والمرأة معًا، لا أفضلية لأحدهما على الآخر إلا بقوة النص ومتانة المُنجز نثرًا كان أو شعرًا أو نقدًا. غير أنّ ما يُحدث الفارق في هذا المجال وجهات النظر في تقبّل ما تكتبه المرأة المبدعة، والتي تقوم في أغلبها على تقييم انحيازي ذكوري، ومحاصصة «جنسانية» تقوم على أساس الذّكر الفاعل، والذكر الأكثر قدرة على الإبداع والخلق. فأن يكون مقاس التقييم بمنطق العنصرية الجنسانية يفرض ذلك إعادة النظر في وعي مجتمعي وإدراك جماعي قائم على التمييز والأفضلية في الكتابة الإبداعية يعيدنا إلى ثنائية المرأة والرّجل، الذكر والأنثى، وهذه المراجعة لما هو بنيوي متجذّر في اللاوعي الجماعي والبناء النفسي للمشهد الثقافي العربي، ومن بينه تونس، غير متاح ولا ممكن، لما ندركه جميعًا من أن تغيير الوعي الجماعي هو بمنزلة الحرث في البحر، أو اقتلاع زيتونة بمشبك شعر.

أمام‭ ‬هذا‭ ‬الرفض‭ ‬النفسي‭ ‬لدور‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬الفعل‭ ‬الإبداعي‭ ‬وتحجيم‭ ‬حضورها‭ ‬والإصرار‭ ‬على‭ ‬تقزيمها،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تقف‭ ‬بأطراف‭ ‬مشلولة‭ ‬وألّا‭ ‬تقوم‭ ‬بمحاولات‭ ‬لتحريك‭ ‬مفتاح‭ ‬الأقفال‭ ‬المغلقة‭. ‬فمن‭ ‬حقّها‭ ‬أن‭ ‬تضمن‭ ‬لها‭ ‬موضع‭ ‬قدم‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الإبداعي‭ ‬وتكون‭ ‬فاعلة‭ ‬فيه،‭ ‬ومن‭ ‬واجبها‭ ‬أن‭ ‬تتجرأ‭ ‬على‭ ‬كسر‭ ‬حاجز‭ ‬الصمت،‭ ‬وتطرق‭ ‬الأبواب‭ ‬الموصدة‭ ‬وتدخل‭ ‬قلاع‭ ‬الرّجل‭.‬

من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬تتولّد‭ ‬أحقية‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬ذاتها‭ ‬المبدعة،‭ ‬وتعبّر‭ ‬عن‭ ‬مشاغلها‭ ‬ومشاغل‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المدار‭ ‬الشاسع،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬العين‭ ‬الثالثة‭ ‬في‭ ‬التقاط‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمثّل‭ ‬مادة‭ ‬تعبيرية‭ ‬تعيد‭ ‬كتابة‭ ‬الإنسان‭ ‬بجزئياته‭ ‬الكبيرة‭ ‬والصغيرة،‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬حالاته‭ ‬ووضعياته‭ ‬ومواقعه‭ ‬ومواقفه‭ ‬ومآزقه‭ ‬وانفراجه‭. ‬بما‭ ‬يجعل‭ ‬المشاغل‭ ‬والصعوبات‭ ‬قابلة‭ ‬للمعالجة‭ ‬والحلول‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التحقّق‭.‬

وهي‭ ‬بهذا‭ ‬الدّور‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الفضفضة‭ ‬اللغوية،‭ ‬أو‭ ‬الكتابة‭ ‬التزويقية،‭ ‬وكتابة‭ ‬الحالة،‭ ‬لتدخل‭ ‬منطقة‭ ‬المبدع‭ ‬الفاعل،‭ ‬والمؤثّر‭ ‬والحامل‭ ‬لأعباء‭ ‬الإنسان‭ ‬بشمولية‭ ‬مفهوم‭ ‬الإنسانية‭. ‬وتقدّر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬التموقع‮»‬‭ ‬الإيجابي‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬تصويب‭ ‬البوصلة،‭ ‬وتعديل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تعديله،‭ ‬أو‭ ‬رتق‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬رتقه‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الجمعيّ‭ ‬المصرّ‭ ‬على‭ ‬‮«‬تدجينها‮»‬‭ ‬كذات‭ ‬مبدعة‭ ‬أولًا،‭ ‬وكذات‭ ‬فاعلة‭ ‬ثانيًا،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬يتطلب‭ ‬طول‭ ‬نَفَس‭. ‬

بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الإرادة،‭ ‬اخترقت‭ ‬المرأة‭ ‬المبدعة‭ ‬منطقة‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬وأشهرت‭ ‬السيف‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬شهريار،‭ ‬ونبشت‭ ‬في‭ ‬جراحها‭ ‬الكثيرة،‭ ‬واختار‭ ‬الشقّ‭ ‬المتسلّح‭ ‬منها‭ ‬بالجرأة،‭ ‬التمرّد‭ ‬على‭ ‬سجّاد‭ ‬الطاعة‭ ‬وتخطّي‭ ‬سقف‭ ‬الممنوع،‭ ‬وتحويل‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬بدونية‭ ‬إلى‭ ‬عجينة‭ ‬تشكّلها‭ ‬سردًا‭ ‬وشعرًا‭ ‬وبحثًا‭ ‬ونقدًا‭. ‬ولم‭ ‬تكتفِ‭ ‬بذلك،‭ ‬بل‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬توجيه‭ ‬أنظار‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العطب‭ ‬الجوهري‭ ‬العلائقي‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬علاقة‭ ‬الذكر‭ ‬بالأنثى‭ ‬غير‭ ‬العادلة،‭ ‬ويشكّل‭ ‬على‭ ‬ضوئه‭ ‬علاقة‭ ‬المبدع‭ ‬بالمبدعة،‭ ‬وخلقت‭ ‬منها‭ ‬قضية‭ ‬باتت‭ ‬تتحلّق‭ ‬حولها‭ ‬الأقلام‭ ‬الصاعدة،‭ ‬والهاوية‭ ‬والمحترفة،‭ ‬كلّ‭ ‬يفتح‭ ‬بابًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المتاهة،‭ ‬ويوجِد‭ ‬فيها‭ ‬حقلًا‭ ‬للإخصاب‭ ‬بأساليب‭ ‬وطرق‭ ‬مختلة‭. ‬

ولئن‭ ‬نجحت‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬كسب‭ ‬رهان‭ ‬التموقع‭ ‬بالمشهد‭ ‬الإبداعي،‭ ‬وتحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬مشروع‭ ‬مكتمل‭ ‬بإشادة‭ ‬الكتّاب‭ ‬والنقاد،‭ ‬فإنّ‭ ‬أغلب‭ ‬المبدعات‭ ‬لم‭ ‬يتخطين‭ ‬بعد‭ ‬عقدة‭ ‬المضطَهَد،‭ ‬وظلت‭ ‬عديد‭ ‬الأقلام‭ ‬تعيد‭ ‬صياغة‭ ‬الفكر‭ ‬الذكوري،‭ ‬وتنتج‭ ‬الأخطاء‭ ‬نفسها،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أشدّ‭ ‬قسوة‭ ‬من‭ ‬الذكور‭ ‬على‭ ‬شقيقاتها‭ ‬من‭ ‬بنات‭ ‬حواء‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نصطلح‭ ‬عليه‭ ‬بالكتابة‭ ‬بمنطق‭ ‬الترسّب‭ (‬ما‭ ‬يرسب‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬وأعطاب‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬العُقدة‭. ‬وذلك‭ ‬لأسباب‭ ‬عديدة،‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬بالتنشئة‭ ‬الأولى‭ ‬الموسومة‭ ‬بالمنع‭ ‬والرفض‭ ‬والأفضلية،‭ ‬مما‭ ‬يعطّل‭ ‬عملية‭ ‬التطهير‭ ‬الداخلي‭ ‬للمرأة،‭ ‬رغم‭ ‬اقتناعها‭ ‬بأهمية‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬كمصعد‭ ‬ثقافي‭. ‬وأيضًا‭ ‬بسبب‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬بجرأة،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬تُخضع‭ ‬أفكارها‭ ‬وقناعاتها‭ ‬ومشاغلها‭ ‬واهتماماتها‭ ‬لعملية‭ ‬غرْبلَة‭ ‬مسبقة،‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬ردّة‭ ‬فعل‭ ‬المجتمع‭ ‬المحكومة‭ ‬بالذكورة،‭ ‬وأيضًا‭ ‬المبدع‭ ‬المتشبّع‭ ‬بسلطة‭ ‬ذكورية‭ ‬تعاقب‭ ‬كلّ‭ ‬مَن‭ ‬تتخطى‭ ‬سقف‭ ‬الجرأة‭ ‬وتقفز‭ ‬على‭ ‬الحبل‭ ‬الأحمر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤثر‭ ‬على‭ ‬منجزها‭ ‬الإبداعي‭ ‬بالسطحية،‭ ‬والتخشّب،‭ ‬والازدواجية‭.‬

والمتحدّث‭ ‬عن‭ ‬العقاب‭ ‬الذكوري‭ ‬السلطوي‭ ‬يستحضر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬طريقة،‭ ‬كالإقصاء،‭ ‬والتغييب،‭ ‬أو‭ ‬الاستغلال‭ ‬والابتزاز‭ ‬الجسدي‭ ‬مقابل‭ ‬توفير‭ ‬فرص‭ ‬النجاح‭ ‬والظهور،‭ ‬تتعدّى‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬المساعدة‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬أو‭ ‬الكتابة‭ ‬لتؤشّر‭ ‬باسمها‭ ‬وتكتفي‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬مجرّد‭ ‬رحم‭ ‬حاضن‭ ‬لجنين‭ ‬لقيط‭.‬

وفي‭ ‬كل‭ ‬الحالات‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬تدفع‭ ‬ثمن‭ ‬تشبّعها‭ ‬بحريّة‭ ‬دخول‭ ‬عالم‭ ‬الإبداع،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الأقلام‭ ‬تكتب‭ ‬لها،‭ ‬ففي‭ ‬ذلك‭ ‬إقصاء‭ ‬مغلّف‭ ‬وإصرار‭ ‬على‭ ‬‮«‬التشييء‮»‬‭ ‬ومصادرة‭ ‬لرأيها‭ ‬واعتبارها‭ ‬دمية‭ ‬للزينة‭.‬

‭ ‬وإن‭ ‬ركبت‭ ‬جرأتها‭ ‬واخترقت‭ ‬السقف‭ ‬وأحرجت‭ ‬الذكورة‭ ‬وعرَّت‭ ‬أعطابها‭ ‬وأوجاعها،‭ ‬فإنّها‭ ‬تسقط‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬ردة‭ ‬الفعل‭ ‬العقابية‭ ‬وتنعت‭ ‬بأبشع‭ ‬النعوت،‭ ‬وتُوصم‭ ‬بالعار‭ ‬والانحلال‭ ‬والتميّع،‭ ‬وتكون‭ ‬حديث‭ ‬المقاهي‭ ‬والمجالس‭ ‬ومحور‭ ‬النميمة‭ ‬الخسيسة‭. ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الأقلام‭ ‬الصاعدة،‭ ‬الباحثة‭ ‬عن‭ ‬فرصة‭ ‬للظهور،‭ ‬فإنها‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬بمنزلة‭ ‬الأرنب‭ ‬في‭ ‬فَم‭ ‬الذئب،‭ ‬عرضةً‭ ‬للاستغلال‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭.‬

إذن‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬قارئ‭ ‬يحاكم‭ ‬فكرها‭ ‬ومواقفها‭ ‬وخطّ‭ ‬جرأتها‭. ‬تلاقي‭ ‬نفس‭ ‬ردة‭ ‬الفعل‭ ‬من‭ ‬كاتب‭ ‬رجل‭ ‬يتحرّك‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الحقل‭ ‬الإبداعي،‭ ‬وناقد‭ ‬رجل‭ ‬يسلّط‭ ‬عليها‭ ‬سلطة‭ ‬ذكورته،‭ ‬ورجل‭ ‬حبيب‭ ‬أو‭ ‬زوج‭ ‬يغيّر‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬معادلات‭ ‬التفهّم‭. ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الحالات‭ ‬تدفع‭ ‬ثمن‭ ‬دخولها‭ ‬عالم‭ ‬الكتابة،‭ ‬القلعة‭ ‬الممنوعة،‭ ‬بل‭ ‬تصبح‭ ‬الكتابة‭ ‬تفاحة‭ ‬الغواية‭ ‬والخطيئة‭ ‬التي‭ ‬تُخرجها‭ ‬بأيّ‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬من‭ ‬جنة‭ ‬الرجل‭ ‬■