من رمزيات يوسف إدريس (2) أكان لا بدّ «يا لي لي» أن تُضيئي النور؟!

من رمزيات يوسف إدريس (2) أكان لا بدّ «يا لي لي» أن تُضيئي النور؟!

لا أذكرُ عدد المرات التي قرأتُ فيها هذه القصة القصيرة الطويلة ليوسف إدريس، فهي واحدةٌ من أهم روائعه التي ينبغي وضعها في الاعتبار حين نُعدّد مظاهر التميّز والإبداع في كتابته. 
فالقصة غير عاديةٍ، وغير قابلة للتصديق إلّا عندما نترك للخيال العنان ونضع أنفسنا في حال من القراءة التي لا تُجاوز الخيال إلّا إلى التخييل، ولا تُفارق المجاز إلا إلى عالمٍ من الاستعارات والكنايات التي تجعلنا نرى في الواقع ما لا يحدث في الواقع، ونعرفُ من الشخصيات ما لا نكاد نُصدق أنه موجودٌ، ونرى من الأحداث ما لا يُمكن أن نتخيّله أو يقبله العقل.

  ‬تجذبنا‭ ‬تخييلات‭ ‬القصة‭ ‬التي‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬الطول‭ ‬والقصر،‭ ‬وتخلط‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والفانتازيا،‭ ‬إلى‭ ‬عالمها،‭ ‬وتضعنا‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬تخييلاتها،‭ ‬وتُنسينا‭ ‬الحقيقة‭ ‬لكيلا‭ ‬نرى‭ ‬سوى‭ ‬المجازات‭ ‬المُتخيلة‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬كأنها‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬يجعلنا‭ ‬نبدأ‭ ‬من‭ ‬نقطةٍ‭ ‬لا‭ ‬نتباعد‭ ‬عنها‭ ‬إلّا‭ ‬لكي‭ ‬نعود‭ ‬إليها‭. ‬فكما‭ ‬يقول‭ ‬الراوي‭: ‬‮«‬كان‭ ‬الأصل‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬النكتة،‭ ‬والنهاية‭ ‬هي‭ ‬نكتة‮»‬‭. ‬

هذه‭ ‬الجملة‭ ‬هي‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬عتبة‭ ‬القصة‭ ‬ومفتاحها‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬وسواء‭ ‬أخذنا‭ ‬الجملة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬عتبة‭ ‬أم‭ ‬مفتاح،‭ ‬فإنها‭ ‬توجِّهنا‭ ‬إلى‭ ‬أننا‭ ‬سوف‭ ‬ندخل‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬فانتازي‭ ‬غير‭ ‬حقيقي‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عالم‭ ‬مساطيل‭ ‬أو‭ ‬حشّاشين‭.‬

ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فالحيّ‭ ‬الذي‭ ‬نشهد‭ ‬أحداثه‭ ‬هو‭ ‬حي‭ ‬‮«‬الباطنية‮»‬‭ ‬العامر‭ ‬بكل‭ ‬أنواع‭ ‬المخدرات،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يُغيب‭ ‬العقل،‭ ‬ويبعث‭ ‬على‭ ‬انطلاق‭ ‬الخيال‭ ‬حُرًّا‭ ‬بلا‭ ‬حدود،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فنحن‭ ‬عندما‭ ‬ندخل‭ ‬عالَم‭ ‬النكتة‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬القصة،‭ ‬ندخل‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬التخييلات‭ ‬التي‭ ‬تتكاثف‭ ‬وتتراتب‭ ‬لكي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬واقعٍ‭ ‬وتنطقه‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬ينطق‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬أو‭ ‬تنطق‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬فيه‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الكلام‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬أيضًا‭. ‬أيعني‭ ‬هذا‭ ‬أننا‭ ‬دخلنا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السياسة؟‭ ‬نعم،‭ ‬ولأننا‭ ‬قد‭ ‬دخلنا‭ ‬في‭ ‬عالَم‭ ‬السياسة،‭ ‬فلا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬الكناية‭ ‬والتخييل‭ ‬والفانتازيا‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬فهذه‭ ‬هي‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬يضمن‭ ‬بها‭ ‬الكاتب‭ ‬سلامته،‭ ‬كما‭ ‬يضمن‭ ‬بها‭ ‬إنطاق‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬غير‭ ‬المباح‭. ‬وفعلًا‭ ‬فموضوع‭ ‬القصة‭ ‬موضوع‭ ‬شائك‭ ‬ظاهريًّا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الديني،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يقصد‭ ‬إلى‭ ‬الدين‭ ‬بشكلٍ‭ ‬مباشر‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭.‬

 

تنكيت‭ ‬سياسي

  ‬فالمقصد‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هو‭ ‬التنكيت‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يمارس‭ ‬في‭ ‬تلفّظه‭ ‬بخطاب‭ ‬مقموع‭ ‬يقول‭ ‬غير‭ ‬المباح‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬مُباح،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬فإنّ‭ ‬قارئ‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يتنقل‭ ‬من‭ ‬الحَكي‭ ‬المباشر‭ ‬إلى‭ ‬الإيحاء‭ ‬غير‭ ‬المباشر،‭ ‬ومن‭ ‬المُصرَّح‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬المُصرح‭ ‬به‭. ‬

نحن‭ ‬إذن‭ ‬إزاء‭ ‬لغة‭ ‬الكناية‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تتوسل‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬الذهن‭ ‬لتقيس‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬قريب،‭ ‬فتضع‭ ‬المُباح‭ ‬محلّ‭ ‬غير‭ ‬المباح،‭ ‬والفانتازي‭ ‬محل‭ ‬الواقعي،‭ ‬والمعقول‭ ‬محل‭ ‬اللا‭ ‬معقول‭. ‬وحتى‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬على‭ ‬السرد‭ ‬من‭ ‬غرابة‭ ‬تدفع‭ ‬المُتلقِّي‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬التصديق،‭ ‬فإنّها‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬الضحك‭ ‬أو‭ ‬الابتسام‭.‬

وما‭ ‬بين‭ ‬البداية‭ ‬والنهاية،‭ ‬تمتد‭ ‬أحداث‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬تخييلات‭ ‬غير‭ ‬قابلةٍ‭ ‬للتصديق‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬السطح،‭ ‬لكنّها‭ ‬قابلة‭ ‬لمعاني‭ ‬الاحتمال‭ ‬والضرورة‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬أرسطو‭. ‬فالقصة‭ ‬رغم‭ ‬تخييلاتها‭ ‬المُستحيلة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الظاهر،‭ ‬مُمكنة‭ ‬الحدوث‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الدلالة،‭ ‬ومُمكنة‭ ‬الوقوع‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المغزى‭. ‬فهي‭ ‬أحداث‭ ‬تقع‭ ‬بين‭ ‬بشرٍ،‭ ‬لكنّها‭ ‬أحداث‭ ‬غير‭ ‬عاديةٍ‭ ‬ولا‭ ‬تقع‭ ‬بين‭ ‬بشرٍ‭ ‬عاديين،‭ ‬وإنّما‭ ‬بشر‭ ‬غير‭ ‬عاديين‭ ‬هم‭ ‬نماذج‭ ‬نادرة،‭ ‬لكن‭ ‬رغم‭ ‬ندرتها‭ ‬فإنها‭ ‬نماذج‭ ‬بشرية‭ ‬مُمكنة‭ ‬الحدوث‭ ‬وقابلة‭ ‬للوجود،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬قابلة‭ ‬للوجود‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬إمكانية‭ ‬أبعادها‭ ‬التخييلية‭ ‬أو‭ ‬المقاصد‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬مجازيتها‭.‬

 

مصدر‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬مُظلمٍ

والبداية‭ ‬هي‭ ‬نكتة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الراوي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬من‭ ‬هو‭. ‬والنكتة‭ ‬أن‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬المُصلين‭ ‬في‭ ‬زاويةٍ‭ ‬صغيرةٍ‭ ‬من‭ ‬زوايا‭ ‬حي‭ ‬الباطنية‭ (‬وكر‭ ‬الحشيش‭ ‬والأفيون‭ ‬والسيكونال،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬المخدرات‭) ‬كانوا‭ ‬يؤدون‭ ‬صلاة‭ ‬الفجر،‭ ‬فصلّوا‭ ‬الركعة‭ ‬الأولى‭ ‬وكذلك‭ ‬الثانية،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬باقيًا‭ ‬على‭ ‬انتهاء‭ ‬ركعتي‭ ‬الفجر‭ ‬إلّا‭ ‬السجدة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬ثم‭ ‬قراءة‭ ‬التحيات‭ ‬والتشهّد‭ ‬والتسليم،‭ ‬أما‭ ‬السجود‭ ‬فقد‭ ‬سجدوا،‭ ‬لكنّهم‭ ‬لم‭ ‬يسمعوا‭ ‬‮«‬الله‭ ‬أكبر‮»‬‭ ‬من‭ ‬الإمام‭ ‬إيذانًا‭ ‬بنهاية‭ ‬السجدة‭. ‬وفجأة‭ ‬اختفى‭ ‬صوت‭ ‬الإمام‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬يسمعه‭ ‬وهو‭ ‬يبدأ‭ ‬التكبيرات‭ ‬التي‭ ‬تُنهي‭ ‬صلاة‭ ‬الفجر‭. ‬فقد‭ ‬استبدل‭ ‬الإمام‭ ‬النطق‭ ‬بالصمت‭ ‬أو‭ ‬الحضور‭ ‬بالغياب‭. ‬وعندما‭ ‬لاحظ‭ ‬السجود‭ ‬غيابه‭ ‬بوصفه‭ ‬صوتًا،‭ ‬بدأوا‭ ‬السؤال‭ ‬البديهي‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬النهاية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالصلاة،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬لحظة‭ ‬البداية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالأحداث‭ ‬التي‭ ‬تندرج‭ ‬فيها‭ ‬سياقات‭ ‬الصلاة‭ ‬التخييلية‭ ‬التي‭ ‬يتصدرّها‭ ‬الإمام‭ (‬الشيخ‭ ‬عبدالعال‭ ‬إمام‭ ‬مسجد‭ ‬الشبكشي‭ ‬في‭ ‬الباطنية‭) ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬شخص‭ ‬غير‭ ‬عادي‭ ‬بمقاييس‭ ‬أقرانه،‭ ‬فهو‭ ‬شابٌ‭ ‬يافع‭ ‬تخرَّج‭ ‬في‭ ‬الأزهر‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬له‭ ‬مكانًا‭ ‬يعمل‭ ‬فيه‭ ‬بوزارة‭ ‬الأوقاف‭ ‬إلّا‭ ‬هذا‭ ‬المسجد‭ ‬الصغير‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬الباطنية‭. ‬

والإمام‭ ‬الشاب‭ ‬يمتلئ‭ ‬وعيًا‭ ‬برسالته‭ ‬لتغيير‭ ‬حياة‭ ‬الناس،‭ ‬والانتقال‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬الاستسلام‭ ‬إلى‭ ‬شروط‭ ‬عالم‭ ‬الضرورة‭ ‬للدخول‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الحرية،‭ ‬غايتهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هي‭ ‬المقاومة‭ ‬التي‭ ‬يتجاوزون‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬مفاسد‭ ‬حياتهم،‭ ‬وأداته‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬صوته‭ ‬الجميل‭ ‬البالغ‭ ‬العذوبة‭ ‬الذي‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬شيءٍ‭ ‬من‭ ‬السِّحر،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬‮«‬مزامير‭ ‬داوود‮»‬،‭ ‬فيخترق‭ ‬بسحره‭ ‬القلوب‭ ‬والأذهان‭ ‬والعقول،‭ ‬وينقلها‭ ‬من‭ ‬حالٍ‭ ‬إلى‭ ‬حال،‭ ‬ويجذبها‭ ‬من‭ ‬وهاد‭ ‬الضرورة‭ ‬إلى‭ ‬ذُرَى‭ ‬الحريّة‭ ‬المُقترنة‭ ‬بالمتعة‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬صوته‭ ‬في‭ ‬الصلاة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ترتيل‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬هو‭ ‬أداته‭ ‬الساحرة‭ ‬التي‭ ‬يوقع‭ ‬بها‭ ‬تخييله‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬المُستمعين‭ ‬الذين‭ ‬تلهيهم‭ ‬مفاسد‭ ‬عالَمهم‭ ‬الدنيوية‭ ‬عن‭ ‬ذِكر‭ ‬الله،‭ ‬هكذا‭ ‬ينجح‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬في‭ ‬اجتذاب‭ ‬جمهورٍ‭ ‬صغيرٍ‭ ‬إلى‭ ‬مسجده‭ ‬الصغير‭ (‬مسجد‭ ‬الشبكشي‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬تسلَّمه‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬الأوقاف‭ ‬وصار‭ ‬إمامًا‭ ‬له،‭ ‬يُحافظ‭ ‬على‭ ‬مَن‭ ‬يُصلّون‭ ‬فيه‭ ‬ومن‭ ‬يقودهم‭ ‬إليه‭ ‬بسِحر‭ ‬صوته،‭ ‬ويجذبهم‭ ‬إلى‭ ‬المسجد‭ ‬بعذوبة‭ ‬تلاوته‭. ‬ويبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الإمام‭ ‬عبدالعال‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬مُظلمٍ،‭ ‬أو‭ ‬أصل‭ ‬الخير‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬فاسدٍ‭ ‬يُقاوم‭ ‬الخير‭ ‬حتى‭ ‬يحيله‭ ‬إلى‭ ‬شرٍّ‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬جنس‭ ‬ما‭ ‬انبنى‭ ‬عليه‭.‬

 

علاقة‭ ‬متوترة

ما‭ ‬بين‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬والمُصلين،‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬لي‭ ‬لي‮»‬،‭ ‬الشخصية‭ ‬التخييلية‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬منطوية‭ ‬على‭ ‬الشيء‭ ‬ونقيضه،‭ ‬فهي‭ ‬منجذبة‭ ‬إلى‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬لعذوبة‭ ‬صوته،‭ ‬وللخير‭ ‬الذي‭ ‬يشعّ‭ ‬من‭ ‬وجهه،‭ ‬ونورانية‭ ‬الهداية‭ ‬التي‭ ‬يبثّها‭ ‬صوته‭. ‬و«لي‭ ‬لي‮»‬‭ ‬كاسمها،‭ ‬مصرية‭ ‬وغير‭ ‬مصرية،‭ ‬فهي‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬حضورها‭ ‬المادي‭ ‬والواقعي‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬الشيء‭ ‬ونقيضه،‭ ‬فهي‭ ‬ثمرة‭ ‬زواج‭ ‬دام‭ ‬أسبوعًا‭ ‬بين‭ ‬أم‭ ‬مصرية‭ ‬هي‭ ‬بديعة‭ (‬إحدى‭ ‬عاهرات‭ ‬الباطنية‭)‬،‭ ‬وبين‭ ‬عسكري‭ ‬إنجليزي‭ ‬اسمه‭ ‬جوني،‭ ‬الذي‭ ‬سافر‭ ‬بعدها‭ ‬ولم‭ ‬يعُد،‭ ‬فقد‭ ‬مات‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬لتصبح‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬رعايا‭ ‬الدولة‭ ‬البريطانية‭. ‬وفي‭ ‬الحي‭ ‬نشأت‭ ‬ليلى‭ ‬كما‭ ‬سمَّتها‭ ‬أمها،‭ ‬و«لي‭ ‬لي‮»‬‭ ‬كما‭ ‬نادتها‭ ‬جدّتها‭ ‬لأبيها‭ ‬وجدها‭ (‬حين‭ ‬حضرا‭ ‬من‭ ‬إنجلترا‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬خصيصًا‭ ‬ليريا‭ ‬حفيدتهما‭)‬،‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬الفرانكفوني‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬صاحبته‭ ‬بالمصريين‭ ‬ويبعدها‭ ‬عنهم‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

‭ ‬وهكذا‭ ‬تعيش‭ ‬‮«‬لي‭ ‬لي‮»‬،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬أمها،‭ ‬كالغواية‭ ‬المشرعة‭ ‬تفتح‭ ‬أجنحة‭ ‬الدنس‭ ‬والشر‭ ‬والإثم‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يريد‭. ‬لكنّها‭ ‬تنجذب‭ ‬إلى‭ ‬صوت‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬سحره‭ ‬أو‭ ‬آيته‭ ‬كأنه‭ ‬مزامير‭ ‬داوود،‭ ‬وينجذب‭ ‬إليها‭ ‬الإمام‭ ‬أيضًا‭.‬

وتتوتّر‭ ‬العلاقة‭ ‬التخييلية‭ ‬التي‭ ‬نراها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الوهم‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الإمام‭ ‬ولي‭ ‬لي‭. ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬غواية‭ ‬لي‭ ‬لي،‭ ‬فهي‭ ‬تجذب‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬وتُوقعه‭ ‬في‭ ‬أسرها،‭ ‬بحجّة‭ ‬أنها‭ ‬تحتاج‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬لغتها‭ ‬العربية‭. ‬ويمضي‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬ذروة‭ ‬المُخايلة‭ ‬أو‭ ‬التخييل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بحدودٍ‭ ‬للزمان‭ ‬أو‭ ‬المكان،‭ ‬فنرى‭ - ‬بعين‭ ‬الوهم‭ - ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬وهو‭ ‬يترك‭ ‬الصلاة‭ ‬ليعود‭ ‬إليها،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬شيئًا‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭. ‬

ويعاود‭ ‬الفعل‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬الواقعة‭ - ‬أو‭ ‬لحظة‭ ‬التنوير‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الدارسون‭ ‬التقليديون‭ ‬للقصة‭ ‬القصيرة‭ - ‬فتذهب‭ ‬إليه‭ ‬لي‭ ‬لي‭ ‬طالبة‭ ‬منه‭ ‬الوصل‭ ‬فيما‭ ‬خُيل‭ ‬إليه،‭ ‬أو‭ ‬فيما‭ ‬توهَّم،‭ ‬لكنّه‭ ‬فجأة‭ ‬يفيق‭ ‬من‭ ‬الوهم‭ ‬في‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬الصدمة‭ ‬التي‭ ‬تنقله‭ ‬من‭ ‬الحلم‭ ‬إلى‭ ‬الواقع،‭ ‬ومن‭ ‬الخيال‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬ماءً‭ ‬باردًا‭ ‬قد‭ ‬صُبّ‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬فأيقظه‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الوهم‭ ‬السحري‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الحقيقة‭ ‬الخشنة‭ ‬والباردة‭. ‬وعندما‭ ‬يطالبها‭ ‬بالوصل‭ ‬ترفضه،‭ ‬بدعوى‭ ‬أنها‭ ‬اشترت‭ ‬شرائط‭ ‬كاسيت‭ ‬كي‭ ‬تتعلم‭ ‬بها‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬دون‭ ‬حاجة‭ ‬إليه‭.‬

 

لحظة‭ ‬اليقظة

  ‬تأتي‭ ‬الصدمة‭ ‬كخنجرٍ‭ ‬قاتلٍ‭ ‬أو‭ ‬كزلزال‭ ‬ينقل‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬المسكين‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الوهم‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الحقيقة‭ ‬فيفيق،‭ ‬لكنّه‭ ‬لم‭ ‬يفق‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالآخرين‭ ‬الذين‭ ‬يُصلِّي‭ ‬بهم‭ ‬ويؤمّهم‭ ‬في‭ ‬الصلاة،‭ ‬بل‭ ‬يفيق‭ ‬على‭ ‬عالمٍ‭ ‬يمتد‭ ‬زمنيًّا‭ ‬في‭ ‬سجدة‭ ‬الصلاة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تنتهِ،‭ ‬بل‭ ‬تمتد‭ ‬لا‭ ‬تتكرر‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬الجملة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬الإدانة‭ ‬أو‭ ‬العتاب‭ ‬أو‭ ‬اللوم‭ ‬أو‭ ‬إلقاء‭ ‬الذنب،‭ ‬وردَّ‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬كله‭ ‬إلى‭ ‬مُخاتلة‭ ‬لي‭ ‬لي‭ ‬أو‭ ‬مُخايلتها،‭ ‬فلولا‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬للإمام‭ ‬الشاب‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬ليوسف‭ (‬النبي‭) ‬ولم‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬الغواية‭.‬

‭ ‬والمُفارقة‭ ‬أن‭ ‬النبي‭ ‬يوسف‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬كان‭ ‬لديه‭ ‬ربّه‭ ‬لينقذه،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬نبوّته،‭ ‬أما‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬عنده‭ ‬ما‭ ‬ينقذه،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬شبابه‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬احتمالات‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬شراك‭ ‬الغواية،‭ ‬ولذلك‭ ‬تتكرر‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرةٍ‭ ‬جملة‭: ‬‮«‬أكان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬يا‭ ‬لي‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬تُضيئي‭ ‬النور؟‭!‬‮»‬‭ ‬وتصل‭ ‬الذروة‭ ‬إلى‭ ‬لحظة‭ ‬اليقظة،‭ ‬وهي‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬يؤم‭ ‬المصلين‭ ‬في‭ ‬صلاة‭ ‬الفجر،‭ ‬فيتركهم‭ ‬مُرددًا‭ ‬جملته‭ ‬التعجبية‭: ‬‮«‬أكان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬يا‭ ‬لي‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬تُضيئي‭ ‬النور»؟‭!‬

ويترك‭ ‬المُصلين‭ ‬في‭ ‬صلاتهم،‭ ‬لكنّنا‭ ‬نحن‭ ‬القراء‭ ‬لا‭ ‬ننسى‭ ‬الجملة‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬ترن‭ ‬في‭ ‬آذاننا‭ ‬ونسمع‭ ‬صوت‭ ‬لي‭ ‬لي‭ ‬وهي‭ ‬تبرر‭ ‬رفضها‭ ‬المفاجئ‭ ‬له‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬اشتريت‭ ‬الأسطوانة‭ ‬الإنجليزي‭ ‬اللي‭ ‬بتعلِّم‭ ‬الصلاة،‭ ‬لقيتني‭ ‬أفهمها‭ ‬أكتر،‭ ‬مُتأسفة‭. ‬وأطفأت‭ ‬النور‮»‬‭.‬

وهكذا‭ ‬تختفي‭ ‬لي‭ ‬لى‭ ‬من‭ ‬أمام‭ ‬عيني‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬يترك‭ ‬المصلين‭ ‬وراءه‭ ‬ساجدين،‭ ‬ويترك‭ ‬المسجد‭ ‬كله‭ ‬إلى‭ ‬عالمٍ‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يعرف‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬يتوجه‭ ‬فيه،‭ ‬فكل‭ ‬شيءٍ‭ ‬قد‭ ‬انقلب‭ ‬رأسًا‭ ‬على‭ ‬عقب،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬يظنه‭ ‬حقًّا‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬باطلًا،‭ ‬والذين‭ ‬وثقوا‭ ‬فيه‭ ‬خانهم‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬صَدَّق‭ ‬لي‭ ‬لي‭ ‬ووقع‭ ‬في‭ ‬شراك‭ ‬نورها‭ ‬أو‭ ‬الضوء‭ ‬الذي‭ ‬يشعّ‭ ‬من‭ ‬جسدها‭ ‬الساحر‭.‬

 

دلالات‭ ‬القصة

تنتهي‭ ‬القصة،‭ ‬لكن‭ ‬تتصاعد‭ ‬في‭ ‬أذهاننا‭ ‬عشرات‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬عن‭ ‬لي‭ ‬لي‭ ‬وماهيتها‭ ‬وعن‭ ‬الإمام‭ ‬وعن‭ ‬المُصلين‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬طبعًا‭ ‬يسهل‭ ‬أن‭ ‬نردَّ‭ ‬دلالات‭ ‬القصة‭ ‬إلى‭ ‬دلالات‭ ‬قصص‭ ‬الغواية‭ ‬كقصة‭ ‬يوسف‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬لكنّ‭ ‬الأمر‭ ‬هنا‭ ‬مُختلف،‭ ‬والعالم‭ ‬الأرضي‭ ‬يشدُّ‭ ‬تخييلات‭ ‬نور‭ ‬لي‭ ‬لي‭ ‬إليه‭ ‬بما‭ ‬يجذبنا‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬متذكرين‭ ‬دائمًا‭ ‬جملة‭: ‬‮«‬أكان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬يا‭ ‬لي‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬تضيئي‭ ‬النور؟‭!‬‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬معنى‭ ‬اللوم‭ ‬والندم‭ ‬معًا‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬فنبحث‭ ‬عن‭ ‬دلالات‭ ‬أخرى‭ ‬مُغايرة‭ ‬لدوال‭ ‬المُخايلة‭.‬

ولن‭ ‬يتباعد‭ ‬بنا‭ ‬الأمر‭ ‬كثيرًا‭ ‬أو‭ ‬طويلًا،‭ ‬فالسياسة‭ ‬هي‭ ‬الدائرة‭ ‬الدلالية‭ ‬التي‭ ‬تجذب‭ ‬إليها‭ ‬تخييلات‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬غامضة‭ ‬بلا‭ ‬مدلولٍ‭ ‬واضحٍ‭ ‬أو‭ ‬قريبٍ‭. ‬وندرك‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬نوازي‭ ‬بين‭ ‬التخييلات‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬والإشارات‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الزمني‭ ‬الذي‭ ‬كُتبت‭ ‬فيه‭ ‬القصة‭. ‬

وهنا‭ ‬نعثر‭ ‬على‭ ‬مفتاح‭ ‬التفسير،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬القصة‭ ‬كُتبت‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬قَبِل‭ ‬فيها‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬‮«‬مبادرة‭ ‬روجرز‮»‬‭ ‬التي‭ ‬قدَّمتها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬5‭ ‬يونيو‭ ‬1970‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬وزير‭ ‬خارجيتها‭ ‬وليام‭ ‬روجرز،‭ ‬والتي‭ ‬وُضِعت‭ ‬موضع‭ ‬التنفيذ‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬الواحدة‭ ‬من‭ ‬صباح‭ ‬السبت‭ ‬8‭ ‬أغسطس‭ ‬1970‭ ‬لمدة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬منطق‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬قبول‭ ‬هذه‭ ‬المبادرة‭ ‬بسيطًا‭ ‬جدًّا،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرفه‭ ‬الكثيرون‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬أشدّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬هدنةٍ‭ ‬زمنيةٍ‭ ‬يتمكن‭ ‬معها‭ ‬من‭ ‬إيقاف‭ ‬القتال؛‭ ‬لكي‭ ‬يعطي‭ ‬قواته‭ ‬المُسلحة‭ ‬الفرصة‭ ‬لكي‭ ‬تنتهي‭ ‬من‭ ‬بناء‭ ‬حائط‭ ‬الصواريخ،‭ ‬فاضطر‭ ‬إلى‭ ‬قبول‭ ‬المُبادرة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُعلن‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬قبوله‭ ‬لها‭. ‬لكنّنا‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬هذا‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬تصوَّرنا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التنازل‭ ‬إزاء‭ ‬العدو‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬والأمريكي‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬فهجنا‭ ‬وثُرنا‭ ‬على‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬وكتب‭ ‬إدريس‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬التي‭ ‬جعل‭ ‬فيها‭ ‬شخصية‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬موازية‭ ‬لشخصية‭ ‬عبدالناصر‭ (‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الدكتور‭ ‬أدهم،‭ ‬الجراح‭ ‬العظيم،‭ ‬موازيًا‭ ‬لشخصية‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬العملية‭ ‬الكبرى‭).‬

 

  فك‭ ‬الشفرات‭ ‬الرمزية

  ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬‮«‬العملية‭ ‬الكبرى‮»‬‭ ‬من‭ ‬نتيجةٍ‭ ‬كارثيةٍ،‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬نتيجة‭ ‬مشابهة‭ ‬مع‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬لكن‭ ‬لحُسن‭ ‬الحظ‭ ‬كان‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬مثلنا‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬عبدالناصر‭ ‬قد‭ ‬نجح‭ - ‬بفضل‭ ‬قبول‭ ‬‮«‬مبادرة‭ ‬روجرز‮»‬‭ - ‬في‭ ‬إكمال‭ ‬حائط‭ ‬الصواريخ،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬استكمال‭ ‬قوة‭ ‬الجيش‭ ‬المصري،‭ ‬وأن‭ ‬يردّ‭ ‬على‭ ‬العدو‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وأن‭ ‬يسترجع‭ ‬منه‭ ‬الأرض‭ ‬السليبة،‭ ‬وأن‭ ‬يحقق‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الواقع‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يردده‭ ‬عبدالناصر‭ ‬بالشعارات‭: ‬‮«‬إنَّ‭ ‬ما‭ ‬أُخِذ‭ ‬بالقوة‭ ‬لا‭ ‬يُسترد‭ ‬إلا‭ ‬بالقوة‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬بالفعل‭ ‬ما‭ ‬تحقق‭ ‬في‭ ‬خطة‭ ‬العبور‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬فرغ‭ ‬منها‭ ‬عبدالناصر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يموت،‭ ‬والتي‭ ‬حققها‭ ‬السادات‭ ‬بالفعل‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973‭.‬

وهكذا‭ ‬عرفنا‭ ‬أن‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬كان‭ ‬عنده‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نعرفه‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬لقبول‭ ‬لي‭ ‬لي،‭ ‬لكنّنا‭ ‬كنا‭ ‬مثل‭ ‬إدريس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬المعرفة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬ننتظر‭ ‬طوال‭ ‬حرب‭ ‬الاستنزاف‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ ‬وتتحرر‭ ‬الأرض‭ ‬السليبة‭ ‬ويُضِيءُ‭ ‬النور،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬لكيلا‭ ‬نقع‭ ‬في‭ ‬غواية‭ ‬لي‭ ‬لي،‭ ‬وإنما‭ ‬لكي‭ ‬نتحرر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الغواية،‭ ‬ولا‭ ‬يغادرنا‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ (‬عبدالناصر‭) ‬في‭ ‬فعل‭ ‬السجود،‭ ‬بل‭ ‬ينهي‭ ‬معنا‭ ‬الإمام‭ ‬اللاحق‭ (‬السادات‭) ‬فعل‭ ‬الصلاة‭ ‬وختامها‭.‬

قصة‭ ‬‮«‬أكان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬يا‭ ‬لي‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬تضيئي‭ ‬النور؟‭!‬‮»‬‭ ‬قصة‭ ‬صعبة‭ ‬الفهم‭ ‬في‭ ‬زمنها،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬قرأها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬نشرها،‭ ‬وكان‭ ‬معارضًا‭ ‬مثلي‭ ‬لقبول‭ ‬‮«‬مبادرة‭ ‬روجرز‮»‬،‭ ‬نظر‭ ‬إليها‭ ‬بالمنطق‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬إدريس‭ ‬إلى‭ ‬كتابتها،‭ ‬وفك‭ ‬الشفرات‭ ‬الرمزية‭ ‬لكي‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬المعاني‭ ‬الواقعية‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬إليها‭ ‬الشفرات‭ ‬التخييلية‭ ‬والمجازية‭ ‬في‭ ‬آن‭. ‬

وهكذا‭ ‬تكشَّفت‭ ‬الحكاية‭ ‬الرمزية‭ ‬الصعبة،‭ ‬وانحلّت‭ ‬التخييلات‭ ‬المُعتمة‭ ‬نسبيًّا‭ ‬لحكاية‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬ولي‭ ‬لي‭ ‬المصرية‭/ ‬الإنجليزية‭ ‬التي‭ ‬تغويه‭ ‬كما‭ ‬حاولت‭ ‬زوجة‭ ‬عزيز‭ ‬مصر‭ ‬أن‭ ‬تغوي‭ ‬النبي‭ ‬يوسف‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬فلم‭ ‬يستجب‭ ‬لها‭ ‬وأنقذه‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬الإمام‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬مَن‭ ‬ينقذه،‭ ‬فوقع‭ ‬في‭ ‬غوايةٍ‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬غواية‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬■