ثلاثون عامًا على التحرير
ها هي الأيام تمضي، والسنون والصفحات تنطوي فوق بعضها البعض، لتحلّ علينا الذكرى الثلاثون لتحرير دولة الكويت من الاحتلال العراقي الغاشم، وتسبقها بيوم واحد مناسبة أخرى عزيزة، هي الذكرى الستون لإعلان استقلال دولة الكويت. وقد شاءت الأقدار أن يعقب يوم التحرير 26 فبراير 1991م يوم الاستقلال، ليتلو الفرح بالفرح والفخر بالفخر، ولتبدأ الكويت كتابة صفحة جديدة في تاريخها المعاصر، لتواصل دورها التاريخي في تبنّي ودعم قضايا التعاون العربي والسّلم العالمي ودورها الحضاري في نشر الثقافة الرصينة، وأخيرًا دورها الإنساني في التخفيف من آثار الحروب والكوارث الطبيعية في كل مكان بالعالم.
بعد ثلاثين سنة على ذكرى تحرير دولة الكويت من الاحتلال، تبثّ وسائل الإعلام الخبر التالي: «تسلّمت سفارة دولة الكويت في بغداد من الحكومة العراقية رفات 21 مفقودًا، يُعتقد أنها لأسرى كويتيين خلال الغزو العراقي للكويت عام 1990، وتمّ نقل الرفات إلى الكويت عبر طائرة خاصة، وجرت مراسيم تسليم الرفات قرب مطار بغداد الدولي، بحضور ممثلين عن وزارة الدفاع العراقية، ومنظمة الصليب الأحمر الدولية، ومكتب الأمم المتحدة لمساعدة العراق».
ونقلت وكالة الأنباء الكويتية (كونا) عن القائم بالأعمال بالإنابة في سفارة الكويت، محمد الوقيان، قوله إن «تسليم الرفات جاء في إطار مواصلة الجهود المبذولة في ملف الأسرى والمفقودين الكويتيين ورعايا الدول الأخرى»، وأضاف الوقيان أنه «يعتقد - وفقًا للمؤشرات الأولية - أن الرفات تعود لأسرى ومفقودين كويتيين، عُثر عليهم في بادية السماوة جنوبي العراق».
ولفت إلى أنه «سيتم إجراء عمليات الفحص الجيني لبقايا الجثث والرفات في الكويت عبر الإدارة العامة للأدلة الجنائية، لمطابقة النتائج مع قاعدة بيانات الأسرى والمفقودين ورعايا الدول الأخرى».
وفي بداية العام الحالي، أي في الشهر الماضي، أعلنت الكويت التعرُّف إلى هوية 13 من رفات الأشخاص الذين فٌقدوا أثناء الغزو العراقي للبلاد قبل 30 عامًا.
وقال رئيس لجنة شؤون الأسرى والمفقودين بوزارة الخارجية الكويتية، ربيع العدساني، إن «تحديد مصير الشهداء، جاء من خلال التحليل الجيني للبصمة الوراثية بعد جلب رفاتهم من العراق»، موضحًا أن «هؤلاء الأسرى اعتقلوا أثناء الغزو العراقي الغاشم على الكويت عام 1990».
إنّ مثل هذه الأخبار وغيرها الكثير، تبدو مألوفة ومفهومة لمن عاصر فترة الاحتلال والمراحل التي تلتها، مثل أخبار إطفاء آبار النفط، وهي الجريمة البيئية التي ارتكبها جيش الاحتلال قبل اندحاره، لأنّها تسير وفق سياق أحداث متسلسلة، لكنّها تبدو غريبة ومشحونة بعشرات الأسئلة المتلاحقة للأجيال الجديدة التي وُلدت بعد وقوع تلك الأحداث، لتعرف كيف تطورت العلاقة بين البلدين الشقيقين الكويت والعراق إلى أفضل حال.
من الحروب إلى تبادل المصالح
هذا الوضع المُربك ليس خاصًا بالكويت وحدها، بل هو حلقة في سلسلة التاريخ والعلاقات الدولية المعاصرة، بين دول تخاصمت وتحاربت، مثل ألمانيا النازية وبريطانيا العظمي وفرنسا واليابان وأمريكا خلال الحرب العالمية الثانية، التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الجنود والمدنيين الأبرياء، وبعد الحرب تحولت العلاقة بين تلك الدول إلى تعاون وتحالف.
إذًا، ما الذي تبدّل مع الكويـت؟ ولماذا تبدو تجربتها مع الاحتلال والتحـرير مختلفة؟، إن الجواب يتمحور حول نقطة وحيدة، هي أن البعض يستكثر دومًا على الكويت استذكار تاريخها مع الغزو العراقــي الغاشم وتضحيات شهدائها وفرحتها السنوية بالتحرير، وذلك البعض يختزل تطوُّر علاقات الكويت الدولية بشيء واحد يتمثّل بنزع صفحة الاحتلال من كتاب التاريخ الذي اشتركت في تدوينه أكثر من ثلاثيــن دولة ساهمت في عملية «عاصفة الصحراء»، أو حرب تحرير دولة الكويت.
إن الدول الرابحة والخاسرة في الحرب العالمية الثانية لا تزال تستذكر في مناسبات سنوية معارك وأحداث تلك الحرب الدامية، وتأخذ تلك المناسبات في مسار منفصل عن مسار تطور علاقاتها ومصالحها الدولية، خاصة مع الدول التي حاربتها في الماضي، وهذا بالضبط ما فعلته وتفعله الكويت التي دخلت مع جارتها العراق في مرحلة جديدة من التعاون المزدهر والتواصل الدائم، توّجتها استضافة الكويت مؤتمر إعادة إعمار العراق، وفي الوقت نفسه واصلت إحياء ذكرى الاحتلال والتحرير والبحث عن رفات من تبقى أسراها ومفقوديها.
القراءة الخاطئة والردّ الحاسم
لم تكن السياسة الخارجية لدولة الكويت قبل الاحتلال تتسم بالاندفاع، فيما عدا انحيازها للقضايا العربية وخصوصًا القضية الفلسطينية، وقد انتهجت سياسة منفتحة متوازنة في خضمّ الحرب الباردة والعواصف التي كانت قد مرّت على العالم العربي، لذلك نجحت في دور الوسيط بأكثر من مناسبة، واستضافت على أرضها لقاءات التباحث والمصالحات.
وعندما وقعت كارثة الغزو العراقي، كان العالم يقف على أعتاب مرحلة جديدة تقترب من نهاية مرحلة ثنائية القطبية وبداية تفرُّد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم، وقد انطلقت الشرارة بعد سقوط حائط برلين عام 1989م، ثم تهاوي المعاقل الشيوعية في أوربا الشرقية الواحد تلو الآخر.
العالم الجديد كان بحاجة إلى اختبار يكشف اتجاهات موازين القوى العالمية بعد نهاية الحرب الباردة، وهنا أتت القراءة الخاطئة لطاغية بغداد الذي أقدم على مغامرة غزو الكويت، ودخل في حالة إنكار عميقة، إلى أن يشنّ التحالف الدولي حربًا لإخراجه من الكويت، وهذا ما حصل في النهاية، فتلقّى هو وجيشه هزيمة نكراء، وفي النهاية جاء الردّ الحاسم بشأن من سيحكم العالم والطريقة التي سيتم التعامل بها مع المغامرات الطائشة كمغامرة طاغية بغداد.
دروس وثبات ووفاء
لقد وُلدت الكويت من جديد في عالَم لا يزال يتشكّل من جديد بوجود قوة وحيدة متفردة، وكل النظريات التي درست لفهم مسار العلاقات الدولية بوجود قطبين أو أكثر، احتاجت إلى عملية إعادة بناء ووضع فرضيات تحاكي الأوضاع المستجدة بكل تبعاتها السياسية والاقتصادية والثقافية ومنظومة العالم الرأسمالي الفكرية.
وبقدر ما شكّلته صدمة الاحتلال في الوجدان الكويتي، إلّا أن ضميرها لم يتأثر تجاه القضايا العربية، وظلت وفيّة لكل ما آمنت به، رغم خذلان بعض الأطراف العربية لقضيتها العادلة، وكانت عملية الاستفادة من دروس الغزو والاحتلال هي الشغل الشاغل للكويت، بعد أن تخلّصت من أنياب الوحش، وكان أوّلها وضع وجودها على رأس سلَّم أولوياتها، فمادامت حدود الدول قابلة لـ «المسح» بين يوم وليلة، فمن حقّ الدول الصغيرة المساحة، مثل الكويت، أن تحمي حدودها عبر تعزيز علاقاتها الدولية وعقد الشراكات مع أقوى الحلفاء.
كم كنّا نعيش في الوهم!
لا أزال أتذكر كلمات المفكر الراحل د. فؤاد زكريا، (1927 - 2010)، يرحمه الله، في مقدّمة كتابه «الثقافة العربية وأزمة الخليج»، عندما تحدّث عن التكوين الفكري للمثقف العربي الذي فضحته أزمة الخليج «فقد ظللنا طويلًا نضفي على ذلك المثقف كل صفات السمو الأخلاقي والوعي العقلي ولا نراه إلّا ضحية لسلطة غاشمة، ثم جاءت كارثة الثاني من أغسطس، فأدركنا كم كنّا نعيش في الوهم»!
ويواصل زكريا بألم «غير أن الحقيقة المذهلة التي كشفت عنها أحداث ذلك الصيف الأليم هي أن الشريحة المؤيدة للعدوان، بالكلمة الصريحة أو بالمساندة المكتوبة على استحياء، لم تكن تقلّ عددًا وانتشارًا في أرجاء عالمنا العربي كافة عن تلك التي تصدّت لهذا العدوان، مستجيبةً لما تمليه عليها قيمُها الأخلاقية والعقلية».
إن الذاكرة تعود بي إلى كتاب د. زكريا، كلما حضرت ذكريات الغزو والتحرير، وكلما دخل المثقفون العرب في دوامة جديدة من الخلاف والاختلاف حول القضايا المستجدة، وحتى تلك التي تعتبر مركزية أجد المشهد المحزن يتكرر، لأعود إلى النتيجـة نفسها التي توصّل إليها زكريا وعبارته المضيئة «كم كنّا نعيش في الوهم»!
وإذا كان الجدال في السابق يتمّ عبر وسائل الإعلام التقليدية، فهو يشتعل اليوم بالسرعة الفائقة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتكسّر النصال على النصال.
وفي الختام، نتوقف عند شاعر كبير من الشريحة التي تصدّت للعدوان وكتبت بمناسبة تحرير دولة الكويت قصيدة خالدة بعنوان «أغنية العودة» للشاعر د. غازي القصيبي، (1940 - 2010)، يرحمه الله.
وها هو ذا الآن وجهك يبرُق عبر الدخان
كلؤلؤة في ظلام المحارة تشهق
أضواؤها في ظنون نواخذة المركب المُتعبين
أجيئك متشحًا بالخليج الذي داهمته قراصنة البحر
في ليلة الغدر والغادرين
أجيئك متشحًا بالصحارَى التي
باغتتها قراصنة البرّ وهي
تسوق القوافل خلف الربيع الضنين
أجيئك مؤتزرًا بالشراع
بصوت الحداء... الحزين... الحزين
أقصُّ عليك عجائب هذا الزمان
وأتلو على وجهك الحلو
ما كنتُ أكتب في أمسيات الحنين
إذن، فاشهدي
أنني لم أخُنك مع الخائنين
ولم أتبرأ من العشق حين
إذن فاشهدي كنت في الشمس أجري
ولم أتّبع الظل كالخائفين
وما بيننا كان جيش يموج من الشامتين
يقولون غبتِ ولا ترجعين
وأقسمت لحظتها ترجعين
تعودين ما بقيت كلمتان
وما سكنت قلمي لفظتان
إذن، فاشهدي، كنت أحمل شعري سلاحًا وأبرز لأفعوان
إذن، فاشهدي قد كسبت الرهان
أحبك حتى تشيب النوارس
وهي تطارد أفق الأمان
أحبك حتى تملّ الصواري ظهور السفين
وحتى تجفّ دموع الغيوم
وحتى تغيب شموع النجوم
أحبك ما اعتنقت نخلتان
وما خفقت في الصبا خيمتان
وما ارتعشت أضلع الليل وهي تردد أغنية العائدين
أحبك ما دام هذا الخليج بهذا المكان .