لقاء عابر

لقاء عابر

عندما‭ ‬التقيا‭ ‬مصادفة،‭ ‬بدت‭ ‬مرتبكة‭ ‬وهي‭ ‬تمدّ‭ ‬يدها‭ ‬تصافحه،‭ ‬سرت‭ ‬في‭ ‬جسده‭ ‬رعشة‭ ‬بسبب‭ ‬البرودة‭ ‬المفاجئة،‭ ‬أحسّ‭ ‬بها‭ ‬تنشع‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬قفازين‭ ‬من‭ ‬جلد‭ ‬رقيق‭ ‬وشفاف‭ ‬يغطيان‭ ‬كفّيها،‭ ‬وطاف‭ ‬بذهنه‭ ‬سؤال‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬وجود‭ ‬الدفء‭ ‬القديم،‭ ‬الضائع‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬المسافة‭ ‬بينهما،‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬رئتيه‭ ‬هواء‭ ‬جاف،‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬بصوت‭ ‬خفيض‭: ‬‮«‬أفتقدك‭ ‬كثيرًا‮»‬،‭ ‬فسألته‭ ‬ربّما‭ ‬لتذكّره‭ ‬بعدد‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬انقضت‭ ‬بعدما‭ ‬افترقا؛‭ ‬منذ‭ ‬متى‭ ‬لم‭ ‬يتقابلا‭...‬؟‭! ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬عددها،‭ ‬عندما‭ ‬ابتلعته‭ ‬دوامة‭ ‬العمل‭ ‬وسحقته‭ ‬الضغوط‭ ‬كان‭ ‬يواصل‭ ‬المحاولات‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬دوامة‭ ‬أشد‭ ‬ضراوة‭.‬

الفقر‭ ‬عدوه‭ ‬المقيم،‭ ‬تعطلت‭ ‬بسببه‭ ‬المشاعر‭ ‬وأُجّلت‭ ‬أحلام‭. ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬ينوي‭ ‬محادثتها‭ ‬على‭ ‬الهاتف‭ ‬لكي‭ ‬يزفّ‭ ‬الأخبار‭ ‬السارة،‭ ‬مرّت‭ ‬الأيام‭ ‬الصعبة،‭ ‬وما‭ ‬تبقى‭ ‬قليل،‭ ‬ثم‭ ‬يتشاركان‭ ‬حياة‭ ‬واحدة‭ ‬لطالما‭ ‬حلم‭ ‬بها‭ ‬الاثنان،‭ ‬ولحُسن‭ ‬الطالع‭ ‬تقابلا‭ ‬هنا،‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬‮«‬كافيه‮»‬‭ ‬يعرفان‭ ‬تفاصيله،‭ ‬أعادته‭ ‬هذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬إلى‭ ‬أول‭ ‬لقاء‭ ‬لهما،‭ ‬فكّر‭ ‬سريعًا،‭ ‬يجلسان‭ ‬بالداخل،‭ ‬يتناولان‭ ‬مشروبهما‭ ‬المفضل‭ ‬ويتحدثان،‭ ‬وغمرته‭ ‬دفقة‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬صادقة،‭ ‬فبرغم‭ ‬الظروف‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬القلب‭ ‬مفتوحًا،‭ ‬وممتلئًا‭ ‬بكلام‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬والعتب‭ ‬أيضًا،‭ ‬ثم‭ ‬انتبه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬منذ‭ ‬أسابيع‭ ‬شبه‭ ‬مغلق‭. ‬

‭- ‬نتكلم‭ ‬ونحن‭ ‬سائرين‭. ‬قال،‭ ‬لكنها‭ ‬اعتذرت‭ ‬لضيق‭ ‬الوقت،‭ ‬جذبها‭ ‬من‭ ‬يدها‭ ‬برفق‭: ‬

‭- ‬طريقنا‭ ‬واحد‭. ‬

تسمّرت‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬قدماها،‭ ‬واعتذرت‭ ‬مجددًا‭: ‬اقتربت‭ ‬ساعة‭ ‬الحظر‭.‬

كانت‭ ‬شجرة‭ ‬خلفهما‭ ‬تهتز،‭ ‬وتتساقط‭ ‬أوراقها‭ ‬كلما‭ ‬ضربتها‭ ‬الرياح،‭ ‬سادت‭ ‬صمت‭ ‬متبادل،‭ ‬صار‭ ‬ثقيلًا‭ ‬ببرودة‭ ‬اللقاء،‭ ‬قطعته‭ ‬بقولها‭:‬

‭- ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬لقضاء‭ ‬بعض‭ ‬الأمور‭ ‬الخاصة‭.‬

وأضافت‭ ‬أعذارًا‭ ‬أخرى‭ ‬لم‭ ‬يسمعها‭ ‬بوضوح‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الكمامة‭ ‬التي‭ ‬تغطي‭ ‬فمها‭ ‬وأنفها،‭ ‬وراقب‭ ‬بصرها‭ ‬حين‭ ‬ارتفع‭ ‬عاليًا‭ ‬إلى‭ ‬الأبراج‭ ‬السكنية‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬باطن‭ ‬الأرض‭ ‬قبل‭ ‬ظهور‭ ‬الوباء‭ ‬بوقت‭ ‬قصير،‭ ‬وتعالت‭ ‬نحو‭ ‬السماء،‭ ‬اصطفت‭ ‬كالشياطين‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬الطريق‭.‬

ثارت‭ ‬الرياح‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وتركزت‭ ‬في‭ ‬محيطهما،‭ ‬أحدثت‭ ‬فوضى‭ ‬بشعرها‭ ‬ثم‭ ‬هدأت‭ ‬وتلاشت،‭ ‬مرت‭ ‬بأنفه‭ ‬سريعًا‭ ‬رائحة‭ ‬الياسمين‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬شهور‭ ‬خلت،‭ ‬يتذكر‭ ‬ذلك‭ ‬جيدًا‭ ‬كأنه‭ ‬حدث‭ ‬بالأمس،‭ ‬إذ‭ ‬تطايرت‭ ‬مع‭ ‬العطر‭ ‬خصلات‭ ‬من‭ ‬شعرها‭ ‬وتراقصت‭ ‬حول‭ ‬الوجنتين،‭ ‬تأمّل‭ ‬في‭ ‬ولهٍ‭ ‬ملامحها‭ ‬والخصلات‭ ‬تضرب‭ ‬العينين‭ ‬برفق،‭ ‬وخفق‭ ‬قلبه‭ ‬وقتها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬المعتاد‭.‬

‭- ‬الجو‭ ‬متقلّب،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭.‬

أعاده‭ ‬إلى‭ ‬الوعي‭ ‬صوتها‭ ‬الحبيس‭ ‬خلف‭ ‬الكمامة‭. ‬‮«‬لا‭ ‬فائدة‭ ‬من‭ ‬التمسّك‭ ‬بحلم‭ ‬موءود‮»‬‭ ‬قال‭ ‬لنفسه‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬تتخطاه‭ ‬مرحلة‭ ‬الشباب،‭ ‬وفتاة‭ ‬احتملت‭ ‬العيش‭ ‬تحت‭ ‬رحمة‭ ‬زوجة‭ ‬أبيها‭ ‬حتى‭ ‬يأتيها‭ ‬المخلّص‭ ‬ومعه‭ ‬طوق‭ ‬النجاة،‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬بك‭ ‬الخلاص،‭ ‬فبيتك‭ ‬آيل‭ ‬للسقوط‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكتمل‭ ‬بناؤه‮»‬‭. ‬

تذكّر‭ ‬فجأة‭ ‬المسافة‭ ‬الآمنة،‭ ‬فتراجع‭ ‬للخلف‭ ‬خطوات‭. ‬

‭- ‬المسافات‭ ‬تميت‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭.‬

‭- ‬واليأس‭ ‬أيضًا‭. ‬عقبت‭ ‬واجتازت‭ ‬من‭ ‬أمامه،‭ ‬فقال‭ ‬كمن‭ ‬يُدلي‭ ‬باعتراف‭ ‬أخير‭: ‬والألم‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الحياة‭.‬

والتفت‭ ‬حوله،‭ ‬العالم‭ ‬مغلق‭ ‬وصامت،‭ ‬باستثناء‭ ‬هبّة‭ ‬ريح‭ ‬مباغتة‭ ‬لطمت‭ ‬خدّه،‭ ‬وذلك‭ ‬الإيقاع‭ ‬المنتظم‭ ‬لكعب‭ ‬حذائها‭ ‬على‭ ‬الأسفلت،‭ ‬أدار‭ ‬وجهه‭ ‬لكيلا‭ ‬يراها‭ ‬وهي‭ ‬تبتعد‭ ‬وتتسارع‭ ‬خطواتها،‭ ‬ثم‭ ‬توقّفت‭ ‬هناك‭ ‬عند‭ ‬مفترق‭ ‬طرق،‭ ‬عبرت‭ ‬الشارع‭ ‬حيث‭ ‬يقف‭ ‬الآخر‭ ‬بانتظارها،‭ ‬واختفى‭ ‬الاثنان‭ ‬داخل‭ ‬أحد‭ ‬الأبراج‭ ‬السكنية‭ ‬التي‭ ‬انتشرت‭ ‬أخيرًا‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬■