أنا القاتلة

قررت أن أقتله.
أنا المرأة الهادئة الوديعة الحالمة، الجالسة أمام بلّور النافذة، تنساب عليها خيوط الأمطار المتراكضة.
قررت أن أقتله.
هكذا، بغتةً، خطرت الفكرة، وقصف الرعد يرجّ السماء والأرض، عاليًا، غاضبًا، مرعبًا.
بزغت الفكرة. قصفت هدوئي الصباحي وصمتي الهادر، على حافّة انفجار مبهم.
بزغت كالقصف المصمّ لرعد هذا الصباح المنفلت من صيف يحتضر.
أشعل البرق مكتبي واختفى... ألهب الفكرة الطارئة التي أصبحت ملحّة، صارخة، كهذا الطقس الذي تحوّل خارج الزمن، وأغرق الأرض في ضباب السحاب الكثيف الماطر.
سأقتله...
قبل نهاية هذا الصباح... أستمد بعضًا من قوّة العاصفة، قبل أن يرتاب، وقبل أن يقرأ في عيني جريمتي المنذرة... أو قبل أن يمكُر بي ضعفي، ويثنيني عن قراري، بحركة يتقنها لاستعادة هدوئي ورضاي... حركة طالما أربكتني وأعادتني إليه، بعد جفاء، طيلة أحداث قصتنا معًا... يطرقُ بابي خفيفًا، يقترب على مهل، يأتيني من خلف مقعدي، ترفع يده الكبيرة، بتؤدة، خصلات شعري المنسدل على كتفي وتلامس شفتاه الممتلئتان جسدي العاري المقشعرّ تحت أنفاسه الساخنة، قبل أن يترك على ورقي حبّات لوز وفستق، ويغيب صامتًا.
مع ذلك، سأقتله.
لن أكشف أسباب الجريمة، فتلك قصة أخرى.
ولن أدعو لسان دفاع.
ولكن حكايتي معه لا بدّ أن تنتهي، فما عاد الهدوء والرضا ممكنًا...
لا بدّ أن تنتهي، مع عصف هذا الصيف المحتضر... هكذا قررت.
عليّ، قبل كل شيء، أن أتدبر وسيلة لا تخيب...
ترى، هل تكفي قطرات سُمّ في كأس شاي الظهيرة؟... أم ستكون طريقة بدائية ساذجة، سريعًا ما يفضحها التحليل المؤكد، بعد ثبوت الموت المفاجئ الغريب؟
أم هو سكين عيد الأضحى الحادّ الشفرة، الأمضى في البيت، ينغرس سريعًا وعميقًا في الصدر، في لحظات غفوة، مع سرقة دفتر مالي، إشارة إلى لصّ مارق، هرب؟
أم، لعلّه الأجدى توكيل محترف خبير، يتقن دوره ويختفي بعد أن يقبض الثمن؟
تذكّرت فجأة الكاتبة أغاثا كريستي ورواياتها البوليسية القديمة لديّ. قد أجد هناك طرقًا أخرى أفضل، في أكثر الجرائم إتقانًا وبُعدًا عن الشبهات...
فكرت، لعلّ نهاية غرائبية، سريالية، تكون أفضل، تريحني من وزر جريمة تقليدية فاضحة.
تسارع نبض عروقي واشتدت حماستي... تصلّبت أصابعي... ذراعاي... رجلاي... وكل عضو فيّ، إلى حد الوجع، والقرار يستبد... فزّ الجسد المرتبك يحاول الخلاص من كلابات الوجع الطارئ، يطلب قرص دواء وإرواء عطش جارح أنشب أنيابه في الحلق... رفعت كأس الماء المترعة في المطبخ، أشربها مرة واحدة، وأبتلع القرص.
قصف الرعد من جديد، والبرق يشقّ السماء، قبل أن تدوي صاعقة مفزعة، جذبها البحر القريب إليه، ارتجّت معها كل نوافذ البيت المغلقة... ارتعش فنجان القهوة الذي جهّزت في يدي... اندلقت قطرات منه على الأرض، وأنا أمضي بقهوتي الحارقة في الرواق، وفي رأسي بروق تومض وتتصارع، تسرع بي إلى مفترق ينتظر قرار التنفيذ، ونشوة نهاية قريبة تخطها يدي.
ما إن فتحت باب مكتبي، حتى هالني ما رأيت.
ما عدت المرأة الوديعة الحالمة ولا الكاتبة الهادئة الصبور، لأجلس من جديد أمام مكتبي، أشتغل بشغف على ورقي وأكمل قصتي...
لا أدري، كيف رميت - مفجوعةً - الفنجان من يدي، وأنا أشاهد النافذة وقد انفتحت على مصراعيها، والأمطار المتهاطلة تهجم من هناك، تُغرق الأوراق وتغمر المكتب.
كانت الجريمة تسيح في الماء - على مكتبي - وبطلي، الرجل «القتيل القادم»، الذي تركته حانقًا ينتظرني، يجرفه ماء فيضانات الأرض الغاضبة، بين الأوراق التي بعثرتها الريح العاصفة.
رميت فنجاني، لتتناثر شظاياه... وركضت إليه، أنا القاتلة القادمة، أقاوم غرقه، أشدّ يده، أمسح وجهًا بدأت تتلاشى ملامحه، أدفع عنه سهام السماء الغاضبة... أدعوه ليحيا، قليلًا فقط، ليعود يحدق فيَّ بعينيه البرّاقتين اللتين أحببت يومًا، المترعتين بأحداث قصة زاخرة عشناها معًا،... أدعوه، ليحيا، قليلًا فقط، حتى أنقذ ما ساح حبره في الماء... أنقذ الجريمة التي لم تكتمل، قبل أن أشرب نخب النهاية ■