ابن النبيه المصري «أَفْديه إن حفظ الهوى أو ضَيَّعا»
العصر عصر حرب وقتال وأَنَفةٍ واعتزاز على تَغَلُّب المسلمين على الغرب الطامعين في الاستيلاء على فلسطين، بما فيها بيت المقدس، وينسب التاريخ الفضل إلى صلاح الدين الأيوبي وأُسْرته الحربية الذين حموا ذمار المواطن الإسلامية من غارات الصليبيين، وكان عصرهم عصر نضال ونزال، إذ خرج المسلمون منتصرين ظافرين على أيدي ملوك مصر الأشدَّاء... عاش الشاعر ابن النَّبيه المصري زمن الأيوبيين في مصر والشام.
هو علي بن محمد بن النَّبيه، الذي عاصر الفترة بين القرنين السادس والسابع الهجري، ولد في مصر نحو سنة 560 هـ (1165 م) ونشأ فيها، وعُرف عن حياته أنه اتصل بالقاضي الفاضل، وبالملك الأيوبي العادل نحو سنة 590 هـ (1194 م).
ابن النبيه شاعر رقيق في بنائه الشعري، مُحكم السَّبك، جميل الديباجة، حَسَن صياغة الوزن والقافية، في شعره غزل عذب، أكثر من نظم شعر المديح والرثاء والمناظرات الشعرية، ونظم في النَّسيب الذي يتَّسِم بالرقّة والعذوبة، رغم قلّته.
وقد تهافت المغنون والمنشدون على قصيدته «أفديه إن حفظ الهوى» التي فاقت شهرة صاحبها، ولما شاعت في مصر، تساءل الناس عن صاحبها، حتى فَرضَتْ القصيدة نَفْسها على مشاعر المغنين دون أن يَعْرفُوا قائلها، حتى قيل إن الفنانة الكبيرة أم كلثوم اشتهرت بها عند انطلاقاتها الفنية الأولى. لم يغادر ابن النبيه وطنه للتكسّب بشعره، كما عمل كثيرون من الشعراء في الجاهلية والإسلام، واشتهرت رائعته «أفديه إن حفظ الهوى»، وانتشرت بين المغنين في المشرق العربي وغربه:
أَفْديهِ إِنْ حِفَظَ الهوى أو ضَيَّعا
مَلَكَ الفُؤادَ، فما عسى أنْ أَصْنَعا
من لم يّذُق ظَلَم الحبيب كَظَلْمه
حُلْوًا فقد جَهِلَ المحبةَ وادّعى
يا أيُّها الوجه الجميُل تَداَرَكَ الـ
صّبَر الجميَل، فقد عَفَا وتضعضعا
هل في فُؤادِك رحمةُ لُمتَّيمٍ
ضَمَّتْ جَوانحُه فُؤادًا مُوجعا؟
هل من سبيلٍ أن أَبُثَّ صَبَابتي
أو أَشْتكي بَلْوايَ، أو أَتَوجَّعا؟
إني لأسْتَحِيي كما عَوَدتَني
بِسِوى رضاكَ إليك أن أَتَشَفّعا
زامل ابن النبيه شاعرين مصريين، هما ابن سناء الملك المتوفى سنة 608 للهجرة، والبهاء زهير المتوفى سنَة 656 («معجم الأُدباء» لياقوت الحموي، 265-002 وفي «وَفَيات الأعيان» لابن خلكان 2/18).
دوافع نفسية
لابن النبيه فلسفة في الحياة لا تستقر على حال، تتقلبُ حسبَ دوافع نفسية فهي تتقلب من صفاء إلى عُسر.
يقول في اقتناص لذائذ العيش:
خُذ من زمانك ما أعطاك مُغْتنمًا
وأنت ناه لهذا الدهر آمر
فالعُمر كالكـــأس تُسْتحلى أوائله
لكــنّه ربــــمـــا مَـــــــجَّـــتْ أواخـــــر
واجْسر على فُرصِ اللذات محتقرًا
عظيم ذنبــــك، إن الله غـــافرُ
ويُشغل ابن النبيه نفسه بالخمرة، ليتجلّى بها ويُبعد عن واقعهِ وحياة يحياها.
تــــأمـــل كـــؤوس عتـــيــق الـــرَّحـــيق
ترى الماء يجمد والخمر ذائبْ
لها في الزجاجةِ رقص الشباب
ومفــرقها أشمــط اللّـــون شــائــب
وتــــــــــرعـــــــد غــــيـــــــظًـــــا إذا أُبــــــــــــــرزت
من الدٌّن كالمحصنات الكواعب
كــــــــأن الـــحُبــــــاب عــــــــلـــى رأســــهـــــا
جواهـــر قـــد كُلّلــت في عصــائب
ويصف حاله بين الخمرة وساقيها:
رقّ الزجـــاج وراق كـــأس مدامــهـــا
ورضاب ساقيــها الأغــــنّ الأهـــيف
فمــــزجـــتُ ذاك بهـــذه وشــربــتُــها
ولثـــــمـــتُـــه، وضـــمــمتُه بتــطـــلّــــف
وجنيت من جناته لمّـــا استـــحى
وردًا بغير رضـــا بــنا لـــم يُــقْـــطف
ورنــــــا إلـــيَّ بـــطــــــرفـــه فـــــكــــأنــمـــا
أهدى السقام لمدنف من مدنف
بِتـنا وقـــد لــفَّ العــناق جسومنا
فــــــي بُـــرْدتـــيـــن: تـــكَّـــرُّمٍ وتعـــفُّــف
ويشغل نفسه بالخمرة وساقيها:
ســـاق كـــأن جــبـــيــنـــه فــــي شــعـــره
قمـــر تــبلّــج في الـــليــالي السّـــود
غصــنُ تـــرنّـــح خصـــره فـــي ردفـــه
فعجبت للمعدوم في الموجود
إيـــــــاك والأتـــــــراك إنّ لبــعـــــضــهـــم
أشخـــاص غـــزلان وفــعـــل أســـــود
أجــــســـــامـــهــم كالــمـــــــاء إلّا أنـــــهـــــا
حملت قلوبًا من صفا الجلمود
وينتقل من حُبّه للخمرة إلى سُقاتها:
الرّاحُ روحي فكيف أهجرها
منــظـــرهـــا طـــيّــب ومــخــبــرها
راحٌ إذا مـــا الــفــقير صــافحها
أغــــنــاه ياقــُــــوتـــــها وجــوهــرهــا
ويلتفت ابن النبيه إلى جمال خلق الله في الطبيعة من خضرة وزُروع:
قِسْ بالسماء، الأرضَ تعلم أنها
بكواكب الأزهار أحسن زُخرف
أحداق نرجسها لخدّ شقيقها
مبهوتة بجماله لم تطرف
والطُّل في زهر الأُقاحِ كأنه
ظَلْمُ ترقرق في ثنايا مُرشف
ويرى الشاعر ابن النبيه بديع خلق الله في الأرض والسماء:
بــرزنا إلى اللــهو فـــي حــلبـــة
حسان الوجوه خفاف المراكب
فتلك لها طائر في السماء
وهذي لها طــائر القلب واجب
تــطــــيــــر بـــــه أربــــع كـــــالــــــريــاح
ويفتر عن مرهقات قواضب
ومجالس الأنس بين الرياض، حيث الماء والخضرة والأزهار والوجوه الحِسان:
نحن في روضة وزهر ونهر
ومدام كالشمس من كفِّ بدر
ومغن قد راسلته الشحارير
فأغنت عن جسّ عود وزمر
أنت روح ونحن جسم فانٍ
عبت، فإن القلوب تكوى بجمر
الشعر والحكام
لم يكن ابن النبيه مّداحًا للحكام والرؤساء، لكنه رأى في أقطاب الأيّوبيين أبطالًا أشّداء حامين للذمار، وأسودًا على المغتصبين لفلسطين وبيت المقدس، حيث قهروا الصليبييّن. وقد تجول المداحون من الشعراء في أقطار عديدة لمدح ممدوحيهم. وذكر د. عبده بدوي في كتابه «دراسات تطبيقية في الشعر العربي»، الذي طبعته جامعة الكويت سنة 1988، ما يلي:
«يرتبط الشعر العربي عادة بالقصور والحكام، وقد وُجدتْ طائفة من الشعراء لها صلة وثيقة بالحكام، إلّا أنها لم تذُب فيهم تمامًا، فقد كانوا يحافظون إلى حدٍ ما على شخصيتهم نحو ما نعرف من سلسلة طويلة يلمع فيها أبو تمام والبحتري والمتنبي... كانوا يقتربون من قصور الحكام على اختلاف أحوالهم، لكن كان لهم عالَمهم الخاص».
وفي باب «ابن النبيه المصري» (صفحة 261)، اختار بدوي قصيدة له منها:
بدر تّمّ له من الشعر هالهْ
مــن رآه مــن المـــحبين هالــه
قصر الليل حين ولَّى ولا غَرْ
وَ، غزالُ عارتْ عليه الغزالة
يا نسيم الصَّبا عساك تحَّملت
لـنــا من سكــان نــجــد رســالــة
وكتب الأستاذ عمر الأسعد مقالة في مجلة العربي (العدد 157 - ديسمبر 1971 - صفحة 163/ 167)، فقال إن لابن النّبيه منهجًا في نظم الشعر في صفحات ديوانه كثيرًا من المصطلحات، وقد أشار في قصيدة إلى تضمين من سورة المزّمل حينما قال:
قُمتُ ليل الصدود إلّا قليلًا
ثــــم رتَّلــــتُ ذكــــركــــم تــرتــيــلا
ووصلت السهاد قُبِّح وصلًا
وهجرت الرقاد هجرًا جميلًا
مُسْمعُ كلَّ عن كلام عذولي
حين ألقى عليه قولًا ثقيلًا
وفؤادُ، قد كان بين ضلوعي
أخَــذته الأحـباب أخــذًا وبـيـلا
قُل لراقي الجفون إن لجفني
في بحار الدموع سبحًا طويلا
بان عني فصحتُ في أثر العِيْس
ارحمونــي، وأمــهلــوهم قليلا
ولابن النبيه مرتبة، رثى بها أحد أبناء الخليفة الناصر:
الناس للموت كخيل الطِّراد
فالسابق، السابق منها الجواد
والـــــلــــه لا يـــدعـــــــو إلــــى داره
إلّا من استصلح من ذي العباد
ثم يلتفت إلى مخاطبة الخليفة والد المرثي فيهدئ من روعه:
خليفة الله اصطبْر واحتسب
فما وَهَى البيتُ وأنت العماد
في العلم والحلم بكم يُقتدى
إذا دجا الخطب وضلَّ الرشاد
وأنت لُجُّ البحر، وما ضرّهُ
إن سال من بعض نواحيه وادْ
ومضى د. بدوي في دراسته عن ابن النبيه، حتى اختتم مقولته بأنّ القضية الجوهرية في الشعر ليست في أن يعلو الشاعر الكلام، أو يعلو الكلام الشاعر، فالقضية ليست قضية كلام هنا وكلام هناك، وإنّما هي في الصميم قضية خلق، أو إعادة خلق برؤية جديدة ■