قضايا الهامش في الإبداع الأدبي

قضايا الهامش في الإبداع الأدبي

  إن الانحياز للهامش يستدعي مفاهيم الاختلاف والتعارض، والتعدّد والمنظورية، والتوافق والقلق، والحدود والنهايات. لكن في كلّ الوضعيات تبقى العلاقة بالهامش والمركز مرتبطة بالقلق؛ حيث كثيرًا ما يشتكي الكائن البشري «القائم» في مكان ما، هامشيًا كان أم مركزيًا، من وضعية انتمائه. لهذا، قد تتحوّل الإقامة في المكان مفتوحة على إنتاج القلق؛ لأنّ المقيم بالهامش يشعر بالضجر من فداحته وبُعده، والمقيمُ بالمركز يحسُّ بالتبرّم، الذي لا يخلو من مُضمر الفخر، من «ثقله» المتعدّد الامتدادات.

لهذا،‭ ‬فإنّ‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الهامش‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تُصاحبه‭ ‬مشاعر‭ ‬القلق‭ ‬والسّخط‭ ‬والألم‭ ‬والأسى‭ ‬والحزن‭ ‬والضياع،‭ ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬يدعمُ‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬‮«‬المأزق‮»‬‭ ‬يقينًا‭ ‬وحقيقة،‭ ‬لكن‭ ‬بمجرّد‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬فضاء‭ ‬الهامش‭ ‬حتّى‭ ‬يصير‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بمشاعر‭ ‬الفرح‭ ‬والرضى‭ ‬والأمل‭ ‬والغبطة،‭ ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬يتّصل‭ ‬بمعجم‭ ‬القبول‭ ‬بهذا‭ ‬الفضاء،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬الإشادة‭ ‬به‭ ‬عَبْر‭ ‬تنويعات‭ ‬دال‭ ‬الفخر‭ (‬فخر‭ ‬الانتماء‭). ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬ليس‭ ‬الهامش‭ ‬أو‭ ‬المركز‭ ‬إشكاليًا‭ ‬في‭ ‬كينونته‭ ‬ووجوده،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مثارُ‭ ‬إشكال‭ ‬في‭ ‬رؤيته‭ ‬وتمثله،‭ ‬والوعي‭ ‬بطبيعته‭.‬

لا‭ ‬يمكنُ‭ ‬أن‭ ‬نفصل‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬الهامش،‭ ‬والإبداع‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬قضيته‭ ‬متّصلة‭ ‬بالهامش،‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬المبدع‭ ‬وتصوّره‭ ‬للفضاء‭ ‬والوجود‭ ‬والعالم،‭ ‬وعن‭ ‬الافتراضات‭ ‬المؤطّرة‭ ‬لأفق‭ ‬الإنجاز‭ ‬بفعل‭ ‬ذلك‭ ‬التّصوّر‭. ‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬فإنّ‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الإبداع،‭ ‬والإبداع‭ ‬في‭ ‬الهامش،‭ ‬يمثّل‭ ‬موقفًا‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬والعالم‭ ‬والذات‭ ‬داخله،‭ ‬ويشير‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬فلسفة‮»‬‭ ‬وجود؛‭ ‬وبين‭ ‬الموقف‭ ‬والفلسفة‭ ‬يتحقَّقُ‭ ‬إبداعٌ‭ ‬توجّهه‭ ‬هندسة‭ ‬الاختلاف‭.‬

‭ ‬لهذا،‭ ‬فإنّ‭ ‬علاقة‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬بالهامش‭ ‬لا‭ ‬تتحقّق‭ ‬بمدَى‭ ‬بُعْده‭ ‬عن‭ ‬المركز،‭ ‬أو‭ ‬بمستوى‭ ‬حدَّة‭ ‬هشاشة‭ ‬الهامش،‭ ‬بل‭ ‬بجملة‭ ‬من‭ ‬‮«‬القدرات‮»‬‭ ‬الإبداعية‭ ‬والمعرفية‭ ‬التي‭ ‬تمكّن‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬الهامش‭. ‬إنّ‭ ‬ذلك‭ ‬يصيِّرهُ‭ ‬رافدًا‭ ‬لتكوّن‭ ‬الإبداع،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعني‭ ‬تميّزه‭ ‬النوعيّ‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يحقق‭ ‬انتماءً‭ ‬فعليًا‭ ‬لمجال‭ ‬الإبداع،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬إمكانية‭ ‬إنتاج‭ ‬فني‭ ‬يحتفي‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬موضوع‮»‬‭ ‬الهامش‭ ‬وقضاياه‭ ‬المتنوعة‭ ‬والمختلفة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المبدع‭ ‬مقيمًا‭ ‬فيه،‭ ‬بل‭ ‬بوصفه‭ ‬مبدعًا‭ ‬ممتلكًا‭ ‬رؤية‭ ‬خاصة‭ ‬للعالم‭ ‬مكّنته‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬إبداع‭ ‬موضوعه‭ ‬الهامش‭.‬

يظهر‭ ‬أنّ‭ ‬علاقة‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبّي‭ ‬بالهامش‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬الفضاء‭ ‬المحفِّز‭ ‬بوصفه‭ ‬وجودًا‭ ‬واسع‭ ‬المكونات‭ ‬والدلالة،‭ ‬وبين‭ ‬الفضاء‭ ‬‮«‬الموضوع‮»‬‭ ‬بصفته‭ ‬وجودًا‭ ‬يؤمِّن‭ ‬قضايا‭ ‬غير‭ ‬مطروقة‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭. ‬لهذا،‭ ‬تتطلّب‭ ‬العلاقتان‭ ‬معًا‭ ‬نجاعةً‭ ‬فكريةً،‭ ‬ووعيًا‭ ‬ينتصر‭ ‬للإبداعية‭ ‬برؤية‭ ‬أسُّها‭ ‬التجديد‭ ‬والإضافة‭.‬

 

احتفاء‭ ‬بالهامش

بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬فإنّ‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالهامش‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي،‭ ‬وبالمبدع‭ ‬في‭ ‬الهامش،‭ ‬تعدُّ‭ ‬أمرًا‭ ‬دالًا‭ ‬على‭ ‬يقظة‭ ‬فكرية‭ ‬وشعورية،‭ ‬ومعبّرًا‭ ‬عن‭ ‬معرفة‭ ‬بمكونات‭ ‬العالم‭ ‬المختلفة،‭ ‬ومدى‭ ‬قدراتها‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬فعل‭ ‬إبداعي‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الاحتفاء‭ ‬الدّال‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬له‭ ‬خارج‭ ‬منطق‭ ‬الإجادة‭ ‬والتجويد‭ ‬النوعي‭ ‬للإنتاج‭ ‬الأدبي‭. ‬لهذا،‭ ‬فإنّ‭ ‬‮«‬النوايا‭ ‬الحسنة‮»‬‭ ‬غير‭ ‬كافية‭ ‬لتجعل‭ ‬الهامش‭ ‬ينكشف،‭ ‬في‭ ‬المرجعية‭ ‬النّصية‭ ‬للفعل‭ ‬الإبداعي،‭ ‬بتميّزه‭ ‬وجماله‭ ‬وبهائه‭ ‬ونقائه‭ ‬وصفائه‭ ‬وبساطته‭...‬،‭ ‬وغيرُ‭ ‬كافية،‭ ‬كذلك،‭ ‬لتكشف‭ ‬قبحه‭ ‬وهباءه‭ ‬وعماءه‭ ‬وتلوّثه‭ ‬وتركيبه‭ ‬المعقّد‭... ‬إلخ‭.‬

بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬فإن‭ ‬اختلاف‭ ‬عوالم‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬ناجمٌ‭ ‬عن‭ ‬اختلاف‭ ‬طرق‭ ‬الفهم‭ ‬والتمثّل‭ ‬والوعي‭ ‬التي‭ ‬تُسْهمُ‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬الماهية‭ ‬‮«‬الأدبية‮»‬‭ ‬للأديب،‭ ‬والكينونة‭ ‬المميزة‭ ‬للهامش‭. ‬

هكذا،‭ ‬قد‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬الهامش‭ ‬ميزات‭ ‬سلبية‭ ‬وأخرى‭ ‬إيجابية؛‭ ‬لأنّ‭ ‬ثمة‭ ‬اختلافًا‭ ‬في‭ ‬منطلقات‭ ‬الرؤية‭ ‬وطرق‭ ‬ومواقع‭ ‬النظر،‭ ‬وعَبْر‭ ‬تلك‭ ‬الرؤى‭ ‬والفهوم‭ ‬والتآويل‭ ‬تختلف‭ ‬طرق‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي،‭ ‬وتتعدد‭ ‬أشكاله‭ ‬في‭ ‬الاشتغال‭ ‬الفنّي‭ ‬الجمالي‭ ‬على‭ ‬الهامش‭. ‬لهذا،‭ ‬فإن‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي،‭ ‬حقيقة،‭ ‬يعدُّ‭ ‬هوامشَ‭ ‬قوامها‭ ‬التّعدّد‭. ‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬يتبدّى‭ ‬الأدب،‭ ‬إذًا،‭ ‬خالقًا‭ ‬للهوامش،‭ ‬ومكتشفًا‭ ‬لها،‭ ‬ومساهمًا‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬عوالمها‭ ‬المضمرة‭ ‬والعميقة‭. ‬وكأن‭ ‬الأدب،‭ ‬بكينونته‭ ‬المغايرة‭ ‬لخطابات‭ ‬أخرى،‭ ‬يسمحُ‭ ‬بتوفير‭ ‬وعي‭ ‬مختلف‭ ‬ورؤى‭ ‬نوعية‭ ‬تفضي‭ ‬لاكتشاف‭ ‬وفرة‭ ‬الهوامش،‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الواقع‮»‬‭ ‬الإنساني،‭ ‬والمتجذرة‭ ‬فيه‭.‬

 

فهم‭ ‬نوعي

يتبدّى‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬الفنيّ‭ ‬عادلًا‭ ‬في‭ ‬بنائه،‭ ‬فينجم‭ ‬عنه‭ ‬تعدّد‭ ‬في‭ ‬طرق‭ ‬إنتاجه،‭ ‬وتنوع‭ ‬في‭ ‬أنماط‭ ‬تحققه‭. ‬ويتجلّى‭ ‬الهامشُ‭ ‬وجودًا‭ ‬لا‭ ‬يكمن‭ ‬جمالهُ‭ ‬أو‭ ‬قبحه‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أسباب‭ ‬تشكّله‭ ‬وآليات‭ ‬تشييده‭ ‬بهذه‭ ‬الصيغة‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬وفي‭ ‬طبيعة‭ ‬رؤيته‭ ‬والنظرة‭ ‬إليه‭. ‬

لذلك،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬بحثًا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وتأملًا‭ ‬فيه،‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الذات‭ ‬المبدعة‭ ‬ورؤيتها‭ ‬الفكرية‭ ‬والفنية،‭ ‬فإنّ‭ ‬الهامش‭ ‬يُدرك،‭ ‬في‭ ‬أبعاده‭ ‬النّصية،‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬غايات‭ ‬ذلك‭ ‬البحث‭ ‬والتأمل،‭ ‬واستراتيجيات‭ ‬تلك‭ ‬النظرة‭ ‬والمنظور‭. ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬فإنّ‭ ‬البناء‭ ‬الإبداعي‭ ‬لقضايا‭ ‬الهامش‭ ‬مرهون‭ ‬برؤية‭ ‬المبدع،‭ ‬وتصوره‭ ‬للأهداف‭ ‬المعرفية،‭ ‬ذات‭ ‬الطبيعة‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحققها‭ ‬الأدب‭. ‬

ارتباطًا‭ ‬بهذا‭ ‬السياق،‭ ‬لا‭ ‬فرق،‭ ‬مثلًا،‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬بَيْن‭ ‬مَنْ‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬‮«‬سِحْر‮»‬‭ ‬القرية‭ ‬الطبيعي،‭ ‬وبين‭ ‬مَنْ‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬عُمق‭ ‬فقرها،‭ ‬غير‭ ‬فرق‭ ‬الرؤية،‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬إبداعية‭ ‬الأدب‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬دونها‭ ‬يتهاوى‭ ‬الإبداع‭ ‬والهامش‭ ‬معًا‭.‬

يتأطر‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬الهامش‭ ‬بالإبداع‭ ‬الأدبي،‭ ‬إذًا،‭ ‬بفهم‭ ‬نوعي‭ ‬وفعّال،‭ ‬يستتبعُه،‭ ‬ضرورة،‭ ‬إنجاز‭ ‬متناسق‭ ‬خلاّق‭. ‬إنّه‭ ‬التّصوّر‭ ‬المعرفي‭ ‬الكفيل‭ ‬بتقويض‭ ‬التراتبية‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬الفكر‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والنقدي،‭ ‬أثناء‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الهامش‭ ‬والمركز،‭ ‬لأنّه‭ ‬تصوّر‭ ‬يبيّن‭ ‬أن‭ ‬الإنجاز‭ ‬يصيّر‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬مخلخلًا‭ ‬للتصورات‭ ‬القبلية‭ ‬والمسبقة‭ ‬والمتداولة،‭ ‬وبانيًا‭ ‬لتصور‭ ‬آخر‭ ‬محكوم‭ ‬بالإبداعية‭ ‬المعرفية‭ ‬والجمالية‭ ‬الخاضعة‭ ‬لسياق‭ ‬الإبداع‭.‬

 

الهامش‭ ‬إمكان‭ ‬

قد‭ ‬ترسم‭ ‬النزعة‭ ‬الرومانسية‭ ‬والميتافيزيقية‭ ‬صورةً‭ ‬مشرقة‭ ‬للهامش،‭ ‬وترى‭ ‬أن‭ ‬الاشتغال‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي،‭ ‬بما‭ ‬يوافق‭ ‬عوالمه‭ ‬ووسائطه‭ ‬وأدواته‭ ‬الفنيّة‭ ‬والجمالية،‭ ‬اقترابٌ‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬‮«‬النّقاء‭ ‬الساحر‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬شكله‭ ‬‮«‬فضاء‭ ‬قاهرًا‮»‬‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬حقيقة‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬المعاصرة‭ ‬لم‭ ‬تعُد‭ ‬تطمئن‭ ‬لهذا‭ ‬التفسير‭ ‬والتبسيط‭ ‬السذج،‭ ‬لأنّ‭ ‬التحوّل‭ ‬الذي‭ ‬مسَّ‭ ‬الحياة‭ ‬وطّد‭ ‬الهجنة‭ ‬والتداخل،‭ ‬وبناهما‭ ‬على‭ ‬معنى‭ ‬الاتصال‭ ‬لا‭ ‬الانفصال‭. ‬يظهر،‭ ‬إذًا،‭ ‬أنّ‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬إمكان،‭ ‬وأنّ‭ ‬الهامش‭ ‬مكان‭ ‬ووجود‭ ‬وعالم‭ ‬وحياة‭.‬

‭ ‬لهذا،‭ ‬فإنّ‭ ‬قوّة‭ ‬الإمكان‭ ‬تُغذّي‭ ‬تجليّة‭ ‬الهامش،‭ ‬وضعفها‭ ‬يبلور‭ ‬صورة‭ ‬مؤطرة‭ ‬بدلالات‭ ‬المسخ‭ ‬له،‭ ‬أو‭ ‬النسخ‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬إضافة‭ ‬نوعيّة‭ ‬تلازم‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي،‭ ‬عادة،‭ ‬وتزامله‭.‬

‭ ‬لذلك،‭ ‬فإنّ‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬يعدُّ‭ ‬دعوة‭ ‬صريحة‭ ‬لاكتشاف‭ ‬‮«‬عبقرية‮»‬‭ ‬الفضاءات‭ ‬المختلفة‭. ‬لكن‭ ‬مُضمر‭ ‬هذه‭ ‬الدعوة‭ ‬قد‭ ‬يبرزه‭ ‬الاتجاه‭ ‬لتجديد‭ ‬الوعي‭ ‬بإشكالية‭ ‬ثقافية‭ ‬كاشفة‭ ‬الصراع‭ ‬الدائم‭ ‬بين‭ ‬الهامش‭ ‬والمركز،‭ ‬وتفعيل‭ ‬تفكير‭ ‬إبداعي‭ ‬فعّال‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬اكتشاف‭ ‬عمق‭ ‬الهامش‭ ‬ومجهوله‭ ‬عبر‭ ‬إبداع‭ ‬أدبي‭ ‬فنّي‭ ‬أسُّه‭ ‬التجديد‭ ‬والإضافة‭.‬

إذا‭ ‬تحقّق‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬بما‭ ‬يوافق‭ ‬ضوابط‭ ‬تشكّلِه،‭ ‬فإنّه،‭ ‬بكلّ‭ ‬تأكيد،‭ ‬قد‭ ‬تغذّى‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬الطبيعة‭ ‬النوعية‭ ‬للأدب‭ ‬والهامش‭ ‬معًا‭. ‬

 

إشارات‭ ‬دالّة

لهذا،‭ ‬فإن‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬الفنّي‭ ‬المستنِدَ‭ ‬إلى‭ ‬الهامش‭ ‬موضوعًا‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬إلاّ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬خاضعًا‭ ‬لطرق‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬وإمكانات‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬التشييد‭. ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬فإنّ‭ ‬بناء‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬قد‭ ‬يضمر‭ ‬إشارات‭ ‬دالّة‭ ‬على‭ ‬علاقته‭ ‬بالمركز‭. ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬القراءة‭ ‬التأويلية‭ ‬لاشتغال‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬بما‭ ‬يوافق‭ ‬أنظمة‭ ‬بنائه‭ ‬الدلالي‭ ‬والجمالي،‭ ‬قد‭ ‬تستحضر‭ ‬تلك‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬المركز؛‭ ‬وكأنّ‭ ‬تشكُّل‭ ‬الهامش‭ ‬أو‭ ‬المركز،‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الإبداعي‭ ‬الأدبي،‭ ‬يتمُّ‭ ‬وفق‭ ‬نسق‭ ‬التفاعل‭ ‬المضمر‭ ‬المتبادل‭ ‬بينهما‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬فإنّ‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬فنّ‭ ‬أدبي‭ ‬متّصل‭ ‬بالهامش‭ ‬قد‭ ‬يتولّد‭ ‬من‭ ‬هامش‭ ‬كائن‭ ‬ومحقّق،‭ ‬أو‭ ‬هامش‭ ‬تمّ‭ ‬تمثّله‭ ‬وتصوره،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬مركز‭ ‬دالّ‭ ‬ومثير؛‭ ‬بفعل‭ ‬تجربة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬المعايشة‭ ‬والمعاينة‭ ‬الفعلية،‭ ‬أو‭ ‬مؤطرة‭ ‬بتراكم‭ ‬قرائي‭ ‬نوعي‭.‬

لا‭ ‬يعبِّر‭ ‬الأدب‭ ‬الذي‭ ‬يشيّد‭ ‬هامشه،‭ ‬بالضرورة،‭ ‬عن‭ ‬انجذاب‭ ‬للهامش‭ ‬في‭ ‬تحققه‭ ‬الفعلي‭ ‬بوصفه‭ ‬إمكانًا‭ ‬دالًا،‭ ‬بل‭ ‬يبيّن‭ ‬اهتمامًا‭ ‬معرفيًا‭ ‬وجماليًا‭ ‬بالهامش‭ ‬في‭ ‬وجوده‭ ‬الفني‭ ‬الإبداعي‭. ‬لهذا،‭ ‬يتولّد‭ ‬السؤال‭: ‬هل‭ ‬ثمة‭ ‬قضايا‭ ‬‮«‬راسخة‮»‬‭ ‬في‭ ‬دالِّ‭ ‬الهامش‭ ‬يمكنُها‭ ‬أن‭ ‬تكون،‭ ‬دون‭ ‬غيرها،‭ ‬‮«‬موضوعًا‮»‬‭ ‬أدبيًا؟

يكشف‭ ‬‮«‬الدخول‮»‬‭ ‬لعوالم‭ ‬الأدب‭ ‬الذي‭ ‬مركزه‭ ‬الهامش،‭ ‬وفق‭ ‬مقتضيات‭ ‬نوعية‭ ‬خاصة،‭ ‬أنّ‭ ‬الاحتفاء‭ ‬به‭ ‬قد‭ ‬تَمَّ‭ ‬من‭ ‬‮«‬باب‭ ‬التعدّد‮»‬‭. ‬إن‭ ‬تعدّد‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬يتحدّد‭ ‬عبر‭ ‬صِلَة‭ ‬شديدة‭ ‬بالإنسان،‭ ‬بوصفه‭ ‬أسَّ‭ ‬كلّ‭ ‬تجربة‭ ‬إبداعية‭ ‬فنّية‭. ‬وما‭ ‬دام‭ ‬الإنسان‭ ‬متعدّدًا‭ ‬في‭ ‬انتمائه‭ ‬ووجوده‭ ‬وفعله‭ ‬وكينونته‭. ‬أمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬ارتباط‭ ‬الأدب‭ ‬بالهامش،‭ ‬بوصفه‭ ‬إمكانًا‭ ‬ومحقُّقًا،‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬مقولات‭ ‬مقترنة‭ ‬بالدين‭ (‬الطوائف،‭ ‬الإرهاب،‭ ‬الأقليات‭...)‬،‭ ‬والجغرافيا‭ (‬القرية،‭ ‬الصحراء،‭ ‬مدن‭ ‬التخوم‭...)‬،‭ ‬والفضاءات‭ ‬المستحدثة‭ ‬الطارئة‭ ‬على‭ ‬المراكز‭ ‬الحضرية‭ (‬دور‭ ‬الصفيح،‭ ‬الأحياء‭ ‬العشوائية‭...)‬،‭ ‬والعِرق‭ (‬بصفته‭ ‬لونًا‭ ‬لا‭ ‬ثقافة،‭ ‬السود‭ ‬مثلًا‭). ‬كما‭ ‬أمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مقولات‭ ‬أخرى،‭ ‬تؤطر‭ ‬حضور‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬ذات‭ ‬ارتباط‭ ‬بالوجود‭ ‬الفردي‭ ‬والجماعي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والثقافي‭ ‬للكائن‭ ‬البشري‭. ‬لهذا،‭ ‬قد‭ ‬يشتقُّ‭ ‬الأدب‭ ‬هامشه‭ ‬من‭ ‬الجسد‭ (‬الوصم،‭ ‬الشذوذ،‭ ‬المرض‭...)‬،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الوضعية‭ ‬المادية‭ ‬المهنية‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬الفقر،‭ ‬أحيانًا،‭ ‬أساس‭ ‬وجودها‭ (‬التسوّل،‭ ‬حراسة‭ ‬السيارات،‭ ‬بائع‭ ‬متجول‭...)‬،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬حالة‭ ‬وجدانية‭ ‬ووضعية‭ ‬نفسية‭ (‬الضحك،‭ ‬التهريج،‭ ‬التوحّد،‭ ‬الحب‭...).‬

 

وجود‭ ‬مركّب

يتراءى‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬إذًا،‭ ‬وجودًا‭ ‬مركّبًا؛‭ ‬لأنّه‭ ‬غير‭ ‬متّصل‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الجغرافيا‮»‬‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬ووضعية‭ ‬وفضاء‭ ‬دالّ‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬الكائن‭ ‬البشري‭ ‬وحركته‭. ‬

بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬لا‭ ‬يُعدُّ‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬مجرّد‭ ‬‮«‬مرآة‮»‬‭ ‬عاكسة‭ ‬المآسي‭ ‬المتعدّدة،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬الهامش‭ ‬وجود‭ ‬وإمكان‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬الأمل‭ ‬والألم،‭ ‬وعلى‭ ‬التراجيدي‭ ‬والكوميدي،‭ ‬وعلى‭ ‬البهاء‭ ‬والهباء‭...‬إلخ‭.‬

لهذا،‭ ‬فإنّ‭ ‬الهامش،‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬بوجوده‭ ‬وإمكان‭ ‬اتخاذه‭ ‬موضوعًا‭ ‬إبداعيًا‭ ‬أدبيًا،‭ ‬قد‭ ‬ينتجُ‭ ‬إنسانًا‭ ‬خاملًا‭ ‬يحمل‭ ‬مبادرة‭ ‬الفعل‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬والكلام،‭ ‬ولا‭ ‬يجسّدها‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬والإنتاجية‭.‬

هذا‭ ‬النموذج،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬إمكان‭ ‬تحقّق‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬يؤمن‭ ‬بالإبداع‭ ‬وبالهامش،‭ ‬لكنّهُ‭ ‬لا‭ ‬يُؤمِّنُ‭ ‬لهما‭ ‬التّجلي‭ ‬والبروز‭ ‬متداخلين‭ ‬فعليًا‭ ‬في‭ ‬منجز‭ ‬أدبي‭. ‬إنّ‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬غريبًا‭ ‬على‭ ‬دالّ‭ ‬الهامش،‭ ‬الذي‭ ‬يقترن‭ ‬بجذر‭ ‬لغوي‭ ‬‮«‬همش‮»‬،‭ ‬فتبيّن‭ ‬القواميس‭ ‬والمعاجم‭ ‬أن‭ ‬‮«‬همش‮»‬،‭ ‬إذا‭ ‬اقترن‭ ‬بالرجل‭ (‬همش‭ ‬الرجل‭) ‬أفاد‭ ‬بأنّه،‭ ‬وفقَ‭ ‬منطوق‭ ‬اللسان‭ ‬والقاموس‭ (‬همش‭: ‬لسان‭ ‬العرب،‭ ‬والقاموس‭ ‬المحيط‭)‬،‭ ‬‮«‬أكثر‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬صواب‮»‬‭.‬

لكن،‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك،‭ ‬فعلاقة‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬بالهامش،‭ ‬قد‭ ‬تنتج‭ ‬إنسانًا‭ ‬فاعلًا‭ (‬عاملًا‭) ‬يفكك‭ ‬عالم‭ ‬الهامش،‭ ‬ثم‭ ‬يعيد‭ ‬بناءه‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬يثير‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الاحتمالات‭ ‬الدلالية،‭ ‬وينفتح‭ ‬على‭ ‬تعدّدية‭ ‬في‭ ‬المعنى‭. ‬إنه‭ ‬إنسان‭ ‬لا‭ ‬يستهلك‭ ‬الهامش،‭ ‬بوصفه‭ ‬إمكانًا،‭ ‬في‭ ‬‮«‬الكلام‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬المبدع‭ ‬الخلاّق؛‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يطلق‭ ‬‮«‬نار‭ ‬لسانه‮»‬‭ ‬حارقًا‭ ‬بمعجم‭ ‬الشتيمة‭ ‬الموجهة‭ ‬لذاته‭ ‬والآخر‭ ‬والمركز‭ ‬والهامش‭...‬،‭ ‬مثل‭ ‬الإنسان‭ ‬الخامل،‭ ‬بل‭ ‬ينتزع‭ ‬قلمه‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬وقوف‭ ‬محتمل،‭ ‬ويبدأ‭ ‬بنشر‭ ‬إبداع‭ ‬يحيي‭ ‬الفكر،‭ ‬وينشر‭ ‬ثقافة‭ ‬‮«‬إضاءة‮»‬‭ ‬الهامش،‭ ‬الكائن‭ ‬والمتخيل،‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭.‬

 

الهامش‭ ‬بناء

إنّ‭ ‬بناء‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬الفضح‭ ‬أو‭ ‬المدح،‭ ‬ولا‭ ‬ينبغي‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬كشفه‭ ‬بوصفه‭ ‬‮«‬وجودًا‭ ‬مجهولًا‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬باعتباره‭ ‬جزءًا‭ ‬منه‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬قائمًا‭ ‬في‭ ‬المجهولية‭ ‬والنسيان،‭ ‬قد‭ ‬خضع‭ ‬لبناء‭ ‬نوعي‭ ‬دالّ‭. ‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬فالأديب‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يشتغل‭ ‬على‭ ‬الهامش‭ ‬بتصوّر‭ ‬بنائي‭ ‬ترميزي‭ ‬كاشف،‭ ‬لا‭ ‬بروح‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الهامش،‭ ‬والتعبير‭ ‬عنه‭ ‬بكل‭ ‬الطرق‭ ‬الممكنة؛‭ ‬لأنّ‭ ‬‮«‬وهم‭ ‬الانتماء‮»‬‭ ‬قد‭ ‬يغذّي‭ ‬هذا‭ ‬الدفاع‭ ‬ويسوّغه،‭ ‬بدعوى‭ ‬الفهم‭ ‬الجيّد‭ ‬له‭. ‬لهذا،‭ ‬فقانون‭ ‬‮«‬المبدع‭ ‬ابن‭ ‬بيئته‮»‬‭ ‬مفيد‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬شمولية‭ ‬إدراك‭ ‬الهامش،‭ ‬احتمالًا،‭ ‬ووعي‭ ‬عميق‭ ‬بتركيبته‭ ‬المعقّدة،‭ ‬لكنّ‭ ‬الهوامش‭ ‬ليست‭ ‬‮«‬نسخًا‮»‬‭ ‬متطابقة‭. ‬لذلك،‭ ‬فإنّ‭ ‬بناء‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يوجهه‭ ‬‮«‬قانون‮»‬‭ ‬الإبداع‭ ‬وجماليته،‭ ‬واختيارات‭ ‬الأديب،‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بالضرورة‭ ‬منتميًا‭ ‬للهامش‭. ‬إنّ‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬يجعل‭ ‬الأديب‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬امتدادات‭ ‬الهامش‭ ‬بترتيب‭ ‬وبناء‭ ‬مغاير‭ ‬لما‭ ‬يراه‭ ‬الآخرون‭. ‬

بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬بناء‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الإبداعي‭ ‬الأدبي‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬الوحدة،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬أسّ‭ ‬الاختلاف‭ ‬والاختيار؛‭ ‬فقد‭ ‬يرى‭ ‬هذا‭ ‬الأديب‭ ‬الحاجة‭ ‬ماسة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الجوع‭ ‬والفلاح‭ ‬والعبد‭ ‬والكراهية‭ ‬والترابط‭ ‬والأقلية‭ ‬والخراب‭ ‬والبعد‭ ‬والطبيعة‭ ‬والفقر‭...‬،‭ ‬بينما‭ ‬يرى‭ ‬أديب‭ ‬آخر‭ ‬أنّ‭ ‬الأولوية‭ ‬لبناء‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬مرتبطة‭ ‬بقضايا‭ ‬الشبع‭ ‬والصّانع‭ ‬والسيد‭ ‬والحب‭ ‬والتفكك‭ ‬والأكثرية‭ ‬والبناء‭ ‬والقرب‭ ‬والثقافة‭ ‬والغنى‭... ‬إلخ‭.‬

 

تعامل‭ ‬نوعي

قد‭ ‬نعرف‭ ‬الهامش،‭ ‬إذًا،‭ ‬بحكم‭ ‬الانتماء‭ ‬إليه‭ ‬فعليًا‭ ‬أو‭ ‬الارتباط‭ ‬به‭ ‬معرفيًا،‭ ‬وقد‭ ‬ندرك‭ ‬علاقاته‭ ‬المعقّدة‭ ‬بالمركز،‭ ‬وقد‭ ‬نتبيّن‭ ‬تأثيراته‭ ‬المختلفة‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وقد‭... ‬وقد‭...‬،‭ ‬لكنّ‭ ‬بناءه‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي،‭ ‬بوصفه‭ ‬موضوعًا‭ ‬له،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتلاءم‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬الأدب،‭ ‬ومع‭ ‬غاياته‭ ‬الدلالية‭ ‬وأهدافه‭ ‬الجمالية‭. ‬لهذا،‭ ‬فإنّ‭ ‬‮«‬النوايا‭ ‬الحسنة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تبني‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬ولا‭ ‬تخرجه‭ ‬أدبًا‭ ‬جيّدًا،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬التعامل‭ ‬النوعي‭ ‬مع‭ ‬ضوابط‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬الأدبية،‭ ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬يُسهمُ‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬متميز‭ ‬للهامش؛‭ ‬يصيرُ‭ ‬تجلّيه‭ ‬النّصي‭ ‬معبّرًا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬رحلة‭ ‬اكتشاف‭ ‬الحياة‮»‬،‭ ‬ودالًا‭ ‬على‭ ‬‮«‬اكتشاف‭ ‬ألغازها‮»‬،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬موغلة‭ ‬في‭ ‬الهامش،‭ ‬أو‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬المركز‭.‬

أنتجَ‭ ‬بناء‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬ربطه،‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬بأنماط‭ ‬أدبية‭ ‬مثيرة،‭ ‬تكشفها‭ ‬عدّة‭ ‬تصنيفات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬الأدب‭ ‬الهجائي،‭ ‬والأدب‭ ‬الفضائحي،‭ ‬والأدب‭ ‬الرخيص‭ ‬لدى‭ ‬تشارلز‭ ‬بوكوفسكي‭ ‬رواية‭ ‬بهذا‭ ‬العنوان‭ ‬‮«‬أدب‭ ‬رخيص‮»‬‭.‬

‭ ‬إنها‭ ‬تصنيفات‭ ‬وسمت‭ ‬الأدب‭ ‬المؤسَّس‭ ‬على‭ ‬قضايا‭ ‬الهامش‭ ‬بصفات‭ ‬مولّدة‭ ‬رفضًا‭ ‬مضمرًا‭ ‬له،‭ ‬أو‭ ‬منتجة‭ ‬‮«‬شعرية‮»‬‭ ‬التعايش‭ ‬معه‭. ‬وبين‭ ‬الرفض‭ ‬والتعايش‭ ‬تنتعش‭ ‬القراءات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬التي‭ ‬تنتصر‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬براءة‮»‬‭ ‬الهامش،‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬تحشد‭ ‬كل‭ ‬الدلائل‭ ‬لإدانة‭ ‬‮«‬وحشيته‮»‬‭ (‬شعرية‭ ‬الرداءة‭). ‬هذا‭ ‬مؤشر‭ ‬على‭ ‬الامتلاء‭ ‬الدلالي‭ ‬للهامش‭ ‬أثناء‭ ‬بنائه‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬مما‭ ‬ينتج‭ ‬قراءات‭ ‬متعدّدة‭ ‬لتشييده‭ ‬نصّيًا‭.‬

 

فاعلية‭ ‬معرفية

تتحكّم‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الهامش‭ ‬بالأدب،‭ ‬إذًا،‭ ‬فاعلية‭ ‬المبدع؛‭ ‬فاعلية‭ ‬فكرية‭ ‬معرفية‭ ‬تؤسّس‭ ‬لفهم‭ ‬قضايا‭ ‬الهامــش‭ ‬وسياقاتهــا‭ ‬ومكوناتها‭...‬،‭ ‬وفاعلية‭ ‬إبداعية‭ ‬فنيّة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬عمل‭ ‬إبداعي‭ ‬أسُّه‭ ‬الترميز‭ ‬والتلميح،‭ ‬لا‭ ‬المباشرة‭ ‬والتصريح‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬فإنّ‭ ‬فائض‭ ‬حسّ‭ ‬المبدع‭ ‬قد‭ ‬يحوّل‭ ‬‮«‬الأشياء‮»‬‭ ‬الهامشيـــة،‭ ‬أثناء‭ ‬بناء‭ ‬النّص‭ ‬الأدبي،‭ ‬إلى‭ ‬تحفٍ‭ ‬إبداعية،‭ ‬وقوة‭ ‬إرادة‭ ‬فنية‭ ‬قد‭ ‬تنتج‭ ‬عملًا‭ ‬إبداعيًا‭ ‬بوصفه‭ ‬‮«‬عملًا‭ ‬مصنوعًا‮»‬،‭ ‬بلغة‭ ‬هيدغر‭.‬

يتراءى‭ ‬أن‭ ‬الأجدى‭ ‬في‭ ‬التعامــل‭ ‬مع‭ ‬بناء‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬هو‭ ‬الانحياز‭ ‬لعالم‭ ‬البين،‭ ‬بعد‭ ‬إدراك‭ ‬حدّ‭ ‬الهامش؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬كينونته‭ ‬الفردية‭ ‬المستقلة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬اتصاله‭ ‬بالمركز‭. ‬بهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬فإن‭ ‬التّموقع‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الهامش‭ ‬والمركز،‭ ‬قد‭ ‬يحرّر‭ ‬الذات‭ ‬المبدعة‭ ‬من‭ ‬سطوة‭ ‬أحدهما،‭ ‬ويسعفها‭ ‬في‭ ‬صوغ‭ ‬بناء‭ ‬فني‭ ‬ينتصر‭ ‬للفضاء‭ ‬البيني‭ (‬أي‭ ‬الفضاء‭ ‬الثالث‭)‬؛‭ ‬لأنّ‭ ‬الزمن‭ ‬الراهن‭ ‬صار‭ ‬هجينًا‭ ‬ثقافيًا،‭ ‬مما‭ ‬أثمر‭ ‬إبداعًا‭ ‬نوعيًا‭ ‬يبني‭ ‬الهامش‭ ‬على‭ ‬أسّ‭ ‬تجاوز‭ ‬الأفكار‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬تؤمن،‭ ‬وفق‭ ‬تصوّر‭ ‬إطلاقي،‭ ‬بوجود‭ ‬راسخ‭ ‬للهامش‭ ‬في‭ ‬جهة،‭ ‬ووجود‭ ‬المركز‭ ‬في‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

يسعف‭ ‬البناء‭ ‬الجيد‭ ‬للهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬تبيّن‭ ‬‮«‬السلطة‮»‬‭ ‬العجيبة‭ ‬للخيال‭ ‬الإبداعي‭ ‬في‭ ‬تقويّة‭ ‬فهم‭ ‬المتلقّي‭ ‬لعالم‭ ‬الهامش‭ ‬وتعزيز‭ ‬إدراك‭ ‬أبعاده‭ ‬ودلالاته،‭ ‬وتأسيــس‭ ‬فهم‭ ‬نوعي‭ ‬بهذا‭ ‬العالم؛‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المتلقّي‭ ‬على‭ ‬صِلَة‭ ‬قبليَّة‭ ‬بمعطيات‭ ‬ذلك‭ ‬الهامش‭. ‬وكأن‭ ‬الخيال‭ ‬الإبداعي‭ ‬يحقّقُ‭ ‬وعيًا‭ ‬بعوالم‭ ‬الهامش‭ ‬أثناء‭ ‬بنائه‭ ‬النّصي،‭ ‬ويقوّي‭ ‬منسوب‭ ‬إدراكه؛‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬طبيعته‭ ‬المرجعية‭ ‬فعلية‭ ‬أم‭ ‬متخيّلة‭. ‬لذلك،‭ ‬فإنّ‭ ‬بناء‭ ‬الهامش‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬عَبْر‭ ‬خيال‭ ‬إبداعي‭ ‬فعّال،‭ ‬يُعدُّ‭ ‬توطينًا‭ ‬لثقافة‭ ‬نقض‭ ‬التفكير‭ ‬الشعـبوي‭ ‬والسطحي‭ ‬والتسطيحـــي،‭ ‬وبنــاءً‭ ‬لفكــر‭ ‬وفـــن‭ ‬أسّه‭ ‬التسامح‭ ‬المعرفي‭ ‬المؤمن‭ ‬بالتفاعل‭ ‬التواصلي‭ ‬لا‭ ‬الصراعي،‭ ‬وبفلسفة‭ ‬الإدماج‭ ‬لا‭ ‬الإقصاء؛‭ ‬لأنّ‭ ‬كلّ‭ ‬العوالم‭ ‬جديرة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الوجود‮»‬‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي،‭ ‬وكل‭ ‬أدب‭ ‬جدير‭ ‬بالحفاظ‭ ‬على‭ ‬الشعرية‭ ‬البانية‭ ‬لكينونته،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬موضوع‭ ‬الهامش‭ ‬أو‭ ‬غيره‭ ‬■