توم هانكس يكتب القصص في محبّة الآلة الكاتبة وتفاصيل المشهد

توم هانكس يكتب القصص  في محبّة الآلة الكاتبة وتفاصيل المشهد

لن ألومك إن ترددت في فتح المجموعة القصصية «نمط غير شائع»، التي ترجمها مجدي خاطر، وصدرت طبعتها الأولى عن إصدارات روايات بالإمارات العربية المتحدة عام 2020، فالمجموعة ضخمة، إذ يصل عدد صفحاتها إلى 439 صفحة، والمؤلف هو الممثل الأمريكي الشهير توم هانكس، وهذه مجموعته القصصية الأولى، فما الذي يجعل القارئ يترك المؤلفين المعروفين بالإنتاج القصصي المتميز ليقرأ المجموعة الأولى لممثل ربما تستخدم دار النشر اسمه لترويج كتاب لن يكون في أفضل أحواله أكثر من متوسط؟ سيدفعك الفضول لتتصفح الكتاب، لتجد صورًا لعدد كبير من الآلات الكاتبة تفصل بين كل قصة وأخرى، ثم تكتشف أن الكتاب يحتوي على 4 فصول كل فصل يضم 3 قصص ومقالًا تحت عنوان ثابت «بلدتنا اليوم مع هانك فيست»، ثم تجد عنوانًا فرعيًا، المقالات منشورة على شكل عمودين بالصفحة مثلما تُنشر في الصحف الورقية، وبعد الفصل الرابع نجد قصة أخيرة، فيستوقفك هذا البناء للكتاب، وتعود إلى عنوان المجموعة «نمط غير شائع»، فتنتبه إلى أن ما بين يديك قد يكون عملًا أفضل مما تتوقع.

السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬المختصرة‭ ‬لتوم‭ ‬هانكس‭ ‬على‭ ‬غلاف‭ ‬الكتاب‭ ‬تعدك‭ ‬برجل‭ ‬جاد‭ ‬لا‭ ‬يعبث،‭ ‬وهو‭ ‬إذا‭ ‬تصدى‭ ‬لعملٍ‭ ‬فسوف‭ ‬يمنحه‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬من‭ ‬جهد،‭ ‬فهانكس‭ ‬ممثل‭ ‬وكاتب‭ ‬سيناريو‭ ‬ومخرج‭ ‬ومنتج،‭ ‬وحاز‭ ‬جائزة‭ ‬الأوسكار‭ ‬مرتين،‭ ‬وجائزة‭ ‬إيمي،‭ ‬و4‭ ‬جوائز‭ ‬جولدن‭ ‬جلوب،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يكتب‭ ‬المقالات‭ ‬في‭ ‬كبريات‭ ‬الصحف‭ ‬الأمريكية،‭ ‬مثل‭ ‬نيويورك‭ ‬تايمز‭ ‬وفانيتي‭ ‬فير‭ ‬ونيويوركر‭.‬

يعشق‭ ‬توم‭ ‬هانكس‭ ‬الآلة‭ ‬الكاتبة،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬يكتب‭ ‬عليها‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬ويمتلك‭ ‬العديد‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬خاص‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬لذلك‭ ‬فهو‭ ‬يضع‭ ‬صورها‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬القصصية،‭ ‬ولا‭ ‬تخلو‭ ‬قصة‭ ‬أو‭ ‬مقال‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬الآلة‭ ‬الكاتبة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬بعضها‭ ‬مكرّس‭ ‬بالكامل‭ ‬للآلة‭ ‬الكاتبة‭ ‬كبطل‭ ‬للقصة‭ ‬أو‭ ‬المقال،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬تأويلات‭ ‬عديدة‭ ‬ترتبط‭ ‬بالكاتب‭ ‬نفسه‭ ‬وبالقيم‭ ‬التي‭ ‬يبثها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قصصه‭. ‬

 

أما‭ ‬ترتيب‭ ‬القصص‭ ‬فهو‭ ‬أول‭ ‬ترجمة‭ ‬لعنوان‭ ‬المجموعة،‭ ‬فكأنّ‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب‭ ‬هي‭ ‬فصول‭ ‬السنة‭ ‬الأربعة،‭ ‬ووجود‭ ‬مقال‭ ‬فيست‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬فصل‭ ‬يجعلك‭ ‬تعتقد‭ ‬أنه‭ ‬راوي‭ ‬القصص،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬المؤلف‭ ‬ذاته،‭ ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬مقالاته‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬إلقاء‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬سبقتها؛‭ ‬سواء‭ ‬لأنها‭ ‬تتوازى‭ ‬مع‭ ‬أفكارها‭ ‬أو‭ ‬تتقاطع‭ ‬معها‭.‬

إن‭ ‬وجود‭ ‬أربعة‭ ‬فصول؛‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬فصل‭ ‬منها‭ ‬ثلاث‭ ‬قصص،‭ ‬يحيلك‭ ‬إلى‭ ‬وحدة‭ ‬الزمن‭ ‬الكبيرة؛‭ ‬العام،‭ ‬فكأنه‭ ‬يقدّم‭ ‬لك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بناء‭ ‬المجموعة‭ ‬مسيرة‭ ‬الحكايات‭ ‬في‭ ‬الزمن،‭ ‬ولا‭ ‬يكتفي‭ ‬بذلك،‭ ‬إذ‭ ‬يضع‭ ‬القصة‭ ‬رقم‭ ‬13‭ ‬منفردة،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الحكايات‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬الزمن‭ ‬أن‭ ‬يُحكم‭ ‬الخناق‭ ‬حولها،‭ ‬فالحكاية‭ ‬هي‭ ‬الأصل،‭ ‬مما‭ ‬يعيدك‭ ‬إلى‭ ‬العنوان‭ ‬الفرعي‭ ‬للمجموعة‭ ‬‮«‬بعض‭ ‬القصص‮»‬‭. ‬

 

قاصّ‭ ‬بارع

القصة‭ ‬الثالثة‭ ‬في‭ ‬ترتيب‭ ‬قصص‭ ‬المجموعة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬جولة‭ ‬مجانية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬النور‮»‬‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬لفتتني‭ ‬بشدة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هانكس‭ ‬قاصّ‭ ‬بارع‭ ‬ويعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬بدقّة،‭ ‬فالقصة‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬النجوم‭ ‬في‭ ‬جولات‭ ‬الدعاية‭ ‬لفيلم‭ ‬هوليوودي‭ ‬جديد‭.‬

ستشعر‭ ‬بالملل‭ ‬منذ‭ ‬قراءة‭ ‬الصفحات‭ ‬الأولى‭ ‬للقصة،‭ ‬ولن‭ ‬يتوقف‭ ‬إحساسك‭ ‬بالملل‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬منها،‭ ‬لكنّك‭ ‬ستستمر‭ ‬في‭ ‬قراءتها،‭ ‬هذا‭ ‬الملل‭ ‬الذي‭ ‬سرّبته‭ ‬إليك‭ ‬القصة‭ ‬تحديدًا‭ ‬هو‭ ‬مكمن‭ ‬قوتها‭ ‬وعلامة‭ ‬تمكّن‭ ‬القاص‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬القصصية،‭ ‬فلم‭ ‬يذكر‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬البريق‭ ‬الذي‭ ‬يحيط‭ ‬بحياة‭ ‬النجوم‭ ‬ويجعلنا‭ ‬جميعًا‭ ‬نتلهف‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬مثلهم‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بالقرب‭ ‬منهم؛‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬بريق‭ ‬خادع‭ ‬وكاذب،‭ ‬وتلك‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬ممتعة‭ ‬هي‭ ‬حياة‭ ‬مرهقة‭ ‬ومملة،‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬الكاتب‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬لكنّه‭ ‬يجعلك‭ ‬تشعر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أسلوب‭ ‬عرض‭ ‬أيام‭ ‬الجولات‭ ‬الدعائية،‭ ‬فهو‭ ‬يورد‭ ‬البرنامج‭ ‬اليومي‭ ‬بتفاصيله،‭ ‬ويكرره‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬أنك‭ ‬تقفز‭ ‬فوق‭ ‬السطور‭ ‬لترى‭ ‬ما‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬برنامج‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬واليوم‭ ‬الآخر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعلك‭ ‬تشعر‭ ‬بالإشفاق‭ ‬تجاه‭ ‬النجم‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى،‭ ‬لكنك‭ ‬تظل‭ ‬معجبًا‭ ‬بالنجمة‭ ‬الشهيرة،‭ ‬مأخوذًا‭ ‬بالبريق‭ ‬حولها،‭ ‬ثم‭ ‬تكتشف‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬يرغبها‭ ‬كل‭ ‬الرجال‭ ‬يخونها‭ ‬زوجها‭ ‬سرًا،‭ ‬فتسقط‭ ‬الهالة‭ ‬الزائفة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الأحداث‭ ‬وطريقة‭ ‬الحكي‭ ‬معًا‭.‬

هل‭ ‬قصص‭ ‬المجموعة‭ ‬أو‭ ‬معظمها‭ ‬تجارب‭ ‬شخصية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬توم‭ ‬هانكس‭ ‬ومعارفه‭ ‬حوَّلها‭ ‬إلى‭ ‬قصص؟‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬صحيحًا‭ ‬بدرجة‭ ‬أو‭ ‬أخرى،‭ ‬فأنت‭ ‬تقرأ‭ ‬المجموعة‭ ‬كاملة،‭ ‬فتكتشف‭ ‬أنها‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬متوالية‭ ‬قصصية،‭ ‬قصصها‭ ‬مترابطة‭ ‬على‭ ‬مستويات‭ ‬مختلفة،‭ ‬ألم‭ ‬تلاحظ‭ ‬تكرار‭ ‬بعض‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬عديدة،‭ ‬فـ‭ ‬‮«‬آنا‮»‬‭ ‬ومداش‭ ‬وستييف‭ ‬وونج‭ ‬وراوي‭ ‬القصة‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬ثلاثة‭ ‬أسابيع‭ ‬مضية‮»‬‭ ‬هم‭ ‬أنفسهم‭ ‬أبطال‭ ‬القصة‭ ‬الأخيرة‭ ‬‮«‬ستيف‭ ‬وونج‭ ‬لاعب‭ ‬مثالي‮»‬،‭ ‬والراوي‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬في‭ ‬القصتين،‭ ‬وبعضهم‭ ‬يقوم‭ ‬بأدوار‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬أخرى،‭ ‬كما‭ ‬تتكرر‭ ‬أماكن‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القصص،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الآلة‭ ‬الكاتبة،‭ ‬والأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬يعرض‭ ‬به‭ ‬الكاتب‭ ‬أفكاره،‭ ‬وجوهر‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار،‭ ‬والعنوان‭ ‬الثابت‭ ‬في‭ ‬المقال‭ ‬بكلمة‭ ‬‮«‬بلدتنا‮»‬،‭ ‬فهو‭ ‬يقدّم‭ ‬أمريكا‭ ‬المصغرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬شخصيات‭ ‬هذه‭ ‬البلدة‭.‬

فكيف‭ ‬يرى‭ ‬شخصياته؟‭ ‬وما‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬يقدّمهم‭ ‬بها؟‭ ‬وكيف‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬والقيم‭ ‬الأمريكية؟

 

نمط‭ ‬غير‭ ‬شائع

يقع‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الإيمان‭ ‬والاعتزاز‭ ‬بقيم‭ ‬مجتمعه‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭ ‬وتفخر‭ ‬شخصياته‭ ‬بأنها‭ ‬تنتمي‭ ‬إليه‭ ‬بصفته‭ ‬مجتمع‭ ‬أكبر‭ ‬وأغنى‭ ‬وأقوى‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وبين‭ ‬النقد‭ ‬الذاتي‭ ‬لقيم‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬المادية‭ ‬النفعية‭ ‬التسليعية‭ ‬غير‭ ‬الإنسانية‭ ‬والتي‭ ‬تنمط‭ ‬الإنسان‭ ‬ليكون‭ ‬الجميع‭ ‬مثل‭ ‬الجميع،‭ ‬لذلك‭ ‬يحرص‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يقدّم‭ ‬‮«‬نمطًا‭ ‬غير‭ ‬شائع‮»‬‭ ‬لتأكيد‭ ‬الهوية‭ ‬الفردية‭ ‬والطابع‭ ‬الإنساني‭ ‬لها‭.‬

في‭ ‬القصة‭ ‬الأولى‭ ‬علاقة‭ ‬جسدية‭ ‬بحتة‭ ‬بين‭ ‬‮«‬آنا‮»‬‭ ‬والراوي،‭ ‬تفرضها‭ ‬آنا‭ ‬برغبتها‭ ‬العارمة‭ ‬في‭ ‬الراوي‭ ‬وفي‭ ‬الفوز‭ ‬بسباق‭ ‬العمل،‭ ‬وحرصها‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬علاقة‭ ‬حميمة‭ ‬معه‭ ‬طول‭ ‬الوقت‭ ‬والنجاح‭ ‬في‭ ‬معترك‭ ‬الحياة‭ ‬الوظيفية‭ ‬طول‭ ‬الوقت‭ ‬أيضًا،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬بطبيعته‭ ‬لا‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الصخب،‭ ‬ويفضل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬منسجمًا‭ ‬مع‭ ‬ذاته،‭ ‬يقضي‭ ‬يومه‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬تعتبره‭ ‬آنا‭ ‬كسلًا،‭ ‬وليس‭ ‬به‭ ‬نهم‭ ‬استهلاكي‭ ‬إلى‭ ‬ملذات‭ ‬الحياة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهو‭ ‬يشعر‭ ‬بالراحة‭ ‬عندما‭ ‬تنتهي‭ ‬العلاقة‭ ‬بعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسابيع‭ ‬عندما‭ ‬تخبره‭ ‬آنا‭: ‬‮«‬لست‭ ‬الرجل‭ ‬المثالي‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬يا‭ ‬صغيري‮»‬‭ ‬ويعلّق‭ ‬الراوي‭: ‬‮«‬ما‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬لأدنى‭ ‬ضغينة‭ ‬في‭ ‬صوتها،‭ ‬ولا‭ ‬إدانة‭ ‬أو‭ ‬خيبة‭ ‬أمل‭. ‬بل‭ ‬قالت‭ ‬ما‭ ‬قالته‭ ‬بحياد‭ ‬أعجز‭ ‬عنه‭. ‬واستطردت‭ ‬وهي‭ ‬تكتم‭ ‬ضحكتها‭: ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬منذ‭ ‬فترة،‭ ‬لذلك‭ ‬كنت‭ ‬أضنيك‭. ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬سأحطمك‭ ‬مع‭ ‬الوقت‮»‬‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يقدّم‭ ‬فكرتين‭ ‬نقيضتين‭ ‬تجاه‭ ‬الحياة،‭ ‬فكرة‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬طبيعته‭ ‬كما‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭ ‬متوائمًا‭ ‬معها‭ ‬هي‭ ‬فقط،‭ ‬والإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يتواءم‭ ‬مع‭ ‬قيم‭ ‬المجتمع‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬مقاييس‭ ‬السرعة‭ ‬والنهم‭ ‬والنجاح‭ ‬والاستهلاك‭ ‬والتسليع،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬موضوع‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬المادية‭ ‬النفعية‭ ‬هو‭ ‬إنسان‭ ‬آخر‭ ‬تُمارس‭ ‬معه‭ ‬علاقة‭ ‬حميمة‭.‬

 

مهارة‭ ‬غير‭ ‬عادية‭ ‬

في‭ ‬القصة‭ ‬الأخيرة‭ ‬‮«‬ستيف‭ ‬وونج‭ ‬لاعب‭ ‬مثالي‮»‬‭ ‬نجد‭ ‬التناقض‭ ‬ذاته‭ ‬بين‭ ‬ستيف‭ ‬الذي‭ ‬يحب‭ ‬لعب‭ ‬البولينج،‭ ‬لأنه‭ ‬يمتعه‭ ‬ويحقق‭ ‬له‭ ‬إرضاء‭ ‬ذاتيًا‭ ‬وصفاءً‭ ‬نفسيًا،‭ ‬وبين‭ ‬قيم‭ ‬المجتمع‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬استغلال‭ ‬المهارة‭ ‬غير‭ ‬العادية‭ ‬لستيف‭ ‬في‭ ‬التنافس‭ ‬والدعاية‭ ‬وتحقيق‭ ‬الأرباح،‭ ‬فيشعر‭ ‬ستيف‭ ‬بالراحة‭ ‬بعدما‭ ‬ينتهي‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الصخب‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬سعيد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬قد‭ ‬انتهى‮»‬،‭ ‬فهو‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬وعده‭ ‬به‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬‮«‬إذ‭ ‬تبين‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬دولارات‭ ‬شركة‭ ‬ESPN‭ ‬ستبتلعها‭ ‬الضرائب‮»‬،‭ ‬يقاطع‭ ‬ستيف‭ ‬البولينج‭/ ‬ذاته‭ ‬بشكل‭ ‬ما؛‭ ‬بعدما‭ ‬تعرّضت‭ ‬لكل‭ ‬هذه‭ ‬الفوضي‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬التسليعية‭ ‬الاستهلاكية،‭ ‬ولا‭ ‬يعود‭ ‬إليه‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ضغط‭ ‬وإلحاح‭ ‬أصدقائه،‭ ‬ليلعب‭ ‬لنفسه‭ ‬ولهم،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعلي‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الصداقة‭ ‬التي‭ ‬تساعد‭ ‬المرء‭ ‬على‭ ‬تضميد‭ ‬جراحه‭ ‬النفسية‭.‬

لا‭ ‬تنسى‭ ‬أن‭ ‬القاص‭ ‬توم‭ ‬هانكس‭ ‬هو‭ ‬أصلًا‭ ‬ممثل‭ ‬ومخرج‭ ‬وكاتب‭ ‬سيناريو،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬مجموعته‭ ‬القصصية‭ ‬الأولى،‭ ‬فلن‭ ‬يفلت‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬أعماله‭ ‬الأخرى‭ ‬على‭ ‬كتابته،‭ ‬وأقوى‭ ‬تأثير‭ ‬ستلاحظه‭ ‬هو‭ ‬اهتمام‭ ‬الكاتب‭ ‬بتفاصيل‭ ‬المشاهد‭ ‬التي‭ ‬تعرضها‭ ‬قصصه،‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬القارئ‭ ‬‮«‬يرى‮»‬‭ ‬المشهد‭ ‬كأنه‭ ‬على‭ ‬الشاشة،‭ ‬حتى‭ ‬أنواع‭ ‬السيارات‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬الفترة‭ ‬الزمنية‭ ‬والملابس‭ ‬وأسماء‭ ‬الشوارع‭ ‬وحركة‭ ‬الشخصيات‭ ‬فيها‭ ‬والأطعمة،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬‮«‬ديكور‮»‬‭ ‬المشهد‭ ‬واضحًا‭ ‬في‭ ‬ذهنك،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬القصة‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬‮«‬ابقوا‭ ‬عنا‮»‬‭ ‬هي‭ ‬سيناريو‭ ‬خالص،‭ ‬وفكرتها‭ ‬تصلح‭ ‬لأحد‭ ‬أفلام‭ ‬‮«‬والت‭ ‬ديزني‮»‬‭ ‬ذات‭ ‬النهايات‭ ‬السعيدة‭ ‬التي‭ ‬يعرف‭ ‬فيها‭ ‬رجل‭ ‬الأعمال‭ ‬المادي‭ ‬الجشِع‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬تكديس‭ ‬الأموال‭ ‬والاستيلاء‭ ‬على‭ ‬أراضي‭ ‬الفقراء،‭ ‬بل‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفقراء‭ ‬العجائز‭ ‬بصفتهم‭ ‬بشرًا،‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬الثيمة‮»‬‭ ‬ذاتها‭ ‬المتكررة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬قصص‭ ‬المجموعة‭ ‬بين‭ ‬المادية‭ ‬والإنسانية‭.‬

 

خبرة‭ ‬السينمائي‭ ‬

وسترى‭ ‬خبرة‭ ‬السينمائي‭ ‬هانكس‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬أخرى‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬المحاكاة‭ ‬الساخرة‮»‬‭ ‬لأفكار‭ ‬تم‭ ‬استهلاكها‭ ‬سينمائيًا‭ ‬لدرجة‭ ‬التنميط،‭ ‬فهو‭ ‬يكسر‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬بقصص‭ ‬تسخر‭ ‬من‭ ‬رحلات‭ ‬الفضاء،‭ ‬ومن‭ ‬قصص‭ ‬صعود‭ ‬المجهولين‭ ‬لدرجة‭ ‬النجومية‭ ‬في‭ ‬‮«‬هوليوود‮»‬،‭ ‬وقصص‭ ‬المهاجرين‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬باعتبارها‭ ‬‮«‬أرض‭ ‬الميعاد‮»‬،‭ ‬فيجدون‭ ‬العنَت‭ ‬الشديد،‭ ‬لكنّه‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الأربعة‭ ‬المتكررين‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القصص‭ ‬هم‭ ‬الراوي‭ ‬وستيف‭ ‬وونج‭ ‬وآنا‭/ ‬امرأة‭ ‬ومداش‭/ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬دياكس‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الصحراء‭ ‬الجنوبية،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬التنوع‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬المجتمع‭ ‬الأمريكي،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬قصص‭ ‬عديدة‭ ‬تشير‭ ‬بعمق‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬أهم‭ ‬قضايا‭ ‬المجتمع‭ ‬الأمريكي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬‮«‬امرأة‭ ‬تحاول‭ ‬التأقلم‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬جديد‭ ‬بعد‭ ‬طلاقها،‭ ‬ومحارب‭ ‬قديم‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬يتعاطى‭ ‬مع‭ ‬ندباته‭ ‬الجسدية‭ ‬والعاطفية‮»‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬اهتمام‭ ‬الكاتب‭ ‬بإضفاء‭ ‬صفة‭ ‬الواقعية‭ ‬على‭ ‬عالمه‭ ‬القصصي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المعلوماتية‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬بحثه‭ ‬خلف‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يذكره‭ ‬في‭ ‬القصص،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬تشعر‭ ‬بتزيّد‭ ‬أحيانًا‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬معلومات‭ ‬ستكون‭ ‬القصة‭ ‬ألطف‭ ‬لو‭ ‬تم‭ ‬التخفيف‭ ‬منها‭.‬

لن‭ ‬تشعر‭ ‬بأن‭ ‬المترجم‭ ‬مجدي‭ ‬خاطر‭ ‬أضاع‭ ‬وقتك‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬الممتعة‭ ‬فنيًا‭ ‬‮«‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬تستسيغ‭ ‬السخرية‭ ‬بالمذاق‭ ‬الأمريكي‭ ‬ستستمتع‭ ‬أكثر‮»‬‭ ‬وفكريًا‭ ‬بما‭ ‬تقدمه‭ ‬من‭ ‬محبة‭ ‬ونقد‭ ‬ذاتي‭ ‬لمجتمعها،‭ ‬وربما‭ ‬تكون‭ ‬إحدى‭ ‬مزايا‭ ‬ما‭ ‬تقدمه‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬للقارئ‭ ‬فكرة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬موهوبًا‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مجال‭ ‬ويقدم‭ ‬أعمالًا‭ ‬جيدة‭ ‬فيها‭ ‬جميعًا،‭ ‬فلا‭ ‬داعي‭ ‬لأن‭ ‬نرفض‭ ‬موهبة‭ ‬لمجرد‭ ‬أن‭ ‬نحصرها‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬واحدة‭. ‬وهي‭ ‬عكس‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬قتلت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواهب‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬عديدة‭ ‬بدعوى‭ ‬‮«‬الزم‭ ‬تخصصك‮»‬‭! ‬■