ثنائية القرية والمدينة
ثنائية القرية والمدينة هي إحدى الثنائيات الأساسية في عالَم يوسف إدريس القصصي، والعلاقة بينهما ليست مُجرد علاقة تضادٍ أو تراتبٍ، وإنما هي علاقة أشبه بعلاقة التطور الحتمي. ففي البداية - من منظور المجتمع المصري - كانت القرية، لكنّ هذه القرية لا بدّ أن تتحول إلى مدينةٍ مع التغيّر الذي يُحدث أثره في المجتمع المصري. والواقع يؤكد ذلك، فأغلب المثقفين والكُتّاب من أمثال إدريس هم من أصلٍ قروي، لكنهم شيئًا فشيئًا، وبواسطة التعليم، وتغيّر الأدوار الاجتماعية ينتقلون من القرية إلى المدينة، ويتحولون من أبناء قُرى إلى «أفندية». لكن كما أن هناك علاقة تضادٍ بين النقيضين، فإنّ هناك علاقة تشابه تجمع بينهما، خصوصًا في مواجهة الأسئلة الكونية الكبرى.
لا يتوقف الأمر عند هذه الثنائية البسيطة، فثمّة الأدوار الرمزية التي تلعبها كل من دوالّ القرية والمدينة على السواء، وذلك من حيث الدال والمدلول، أو من حيث الواقع والرمز، أو حتى من حيث البدء والختام في سُلّم التطور أو التغير.
وقصة النَّداهة واحدة من قصص إدريس التي تلعب فيها ثنائية القرية والمدينة دورًا رمزيًّا له امتداداته المُتفرعة أو المُتشعبة في كتابة أو في عالم إدريس القصصي.
و«النداهة»، على وجه التحديد، دالّ على مُعتقدٍ شعبي يشير إلى كيان «عفريتي» يجذب الناس بندائه العذب وصوته الجميل، كأنه الغواية المُتجسدة التي تُخرج الإنسان من حالٍ إلى حال آخر يفقد معها السيطرة على نفسه، وينقاد إلى المصير الذي تُحدده له النداهة، قبل أن يمضي فيه إلى الهلاك، أو التحول من صورةٍ إلى صورةٍ أو من هيئةٍ إلى هيئة.
فالنداهة مُعتقد شعبي - كما أشرتُ - ينتشر في عوالم القُرى، ودلالته مُقترنة بنوعٍ من القدر المقدور على أبناء القرية الذين يأسرهم نداءٌ غامضٌ نحو هدفٍ ما فيتبعونه بلا إرادةٍ، خصوصًا بعد أن تسلب القوى السحرية للنداء إرادتهم فيندفعون حسب (المُقدَّر والمكتوب) إلى ما هو مرسوم لهم من قَبل أن يولدوا.
مسار حتمي
لكنّ الثنائية لا تقتصر هنا على القرية والمدينة فحسب، ولا حتى على إسقاط المقدور والمكتوب على ثنائية القرية والمدينة، وإنما تُجاوز ذلك إلى المسار الحتمي لقوانين التطور الطبيعي الذي لا بدّ أن يجذب القرية إلى سِحره، فتتحول القُرى إلى مدن، أو يتحول أبناء القرية إلى أبناء مدينةٍ، كما لو أن الأمر كان مَحتومًا أو من قبيل «النداء» الذي يستجيب فيه المرء غير واعٍ، مسلوب الإرادة، إلى قوةٍ أعلى منه، كأنه صوت «النداهة» الموجودة في القُرى، والتي تجذب بسِحر صوتها الضحايا إلى مصيرٍ مُغايرٍ هو النقيض من حياتهم الأولى، فينساقون إلى ذلك المصير بلا إرادةٍ، كأنهم ماضون صَوب ما هو مُقدَّر لهم ومكتوب عليهم، وهو أن يتحوَّلوا من كائنات قرويةٍ تنتسبُ إلى عالمٍ ريفي بسيطٍ وغُفل وبريء إلى كائنات تنتسب لعالمٍ آخر كالنقيض والحتم المُغاير.
هكذا تبدو العلاقة بين أبطال قصة النداهة في مجالها الرمزي الذي تقول دوالّه شيئًا، لكنها تقصد شيئًا آخر، أو التي تنطقُ دواله المسكوت عنه في الخطاب الاجتماعي المقموع.
وما إن ندخل إلى منطقة الخطاب الاجتماعي المقموع حتى ندخل إلى مجال الرمز، فلا سبيل لإنطاق المسكوت عنه في ثنائية البشر ما بين القرية والمدينة إلّا بالرمز أو الاستعارة التي تقلب الحقيقة إلى مجازٍ، أو التي تنقلنا من المجاز إلى الحقيقة.
هكذا نحن في «النداهة» إزاء لغةٍ إيسوبية يبين المنطوق منها عن المسكوت عنه فيها. وهكذا نجد أنفسنا إزاء رمزيةٍ ثنائيةٍ تغدو ثلاثية، فها هو حامد، ابن القرية، يتزوج من واحدةٍ من بناتها هي فتحية، وتبدأ القصة في التدرج الصاعد، فتنتقل فتحية من دنياها البسيطة في القرية إلى دُنيا أشبه بالنقيض في المدينة، إذ يعود حامد، الذي يعمل بوابًا في عمارةٍ كبيرةٍ بالمدينة إليها بعروسه فتحية، التي تتزوجه في نوعٍ من الشعائر التي ينقاد بها المرء إلى صوت النداهة التي تأسره وتجذبه إلى عالَمها السحري والسرّي الذي ينطوي على شعائر كاملة للتحول.
ولادة مُجددة
وتتوالى شعائر التحول الرمزي التي يحرّكها أفندي مديني (علاء) يقوم بغواية فتحية لكي ينتهك براءتها ويُفقدها ما كانت عليه من عذريةٍ قرويةٍ، فيُعرِّيها من هذه العذرية، وينتهكها بالمعنى الجنسي على مستوى المجاز، كأنّه يمارس طقسًا شعائريًّا يذكّرنا بتلك الشعيرة التي كانت تؤديها المُغنيات الساحرات للبحارة الذين يعودون - في «إلياذة هوميروس» - إلى ديارهم بعد الحرب فيمرّون في عودتهم على جزيرة الساحرات المغنيات اللاتي تجتذب أصواتهن البحارة إلى عالمٍ آخر يقودهم إلى الهلاك، أو إلى نوعٍ من الولادة المُجددة. والفتى المديني علاء هو الذي يقوم بهذا الدور في المدى الرمزي الذي تسقط في شِباكه فتحية مُستسلمة كأنها تُسلِّم نفسها إلى ما هو مقدور عليها. وتسقط مع الأفندي في شعائر التحول التي تدمّر حضورها القروي، وتستبدل به حضورها المديني. وعند هذا الحد لا يمثّل السقوط الجنسي معنى حقيقيًّا وإنما معنى مجازيًّا، أو دالًّا من دوال التحول الذي يحيل فتحية القروية من ابنة للقرية سابقًا إلى ابنة للمدينة لاحقًا.
أما حامد الزوج، فإنّه يعود إلى القرية مغلوبًا على أمره، مُدركًا - بما يُشبه الإيمان بالقدَر - أن كل ما حدث مقدّر ومكتوب من قبل أن يتزوج فتحية، كي يجلبها معه إلى القاهرة وينقلها من عالمٍ بريء بسيطٍ إلى عالمٍ يخلو من البراءة ولا يعرف البساطة.
ولذلك، فإن المشهد الرمزي للوضع الجنسي الذي يضبط فيه حامد زوجه مُنتهكَة من الأفندي، هو وضعٌ مُتخيلٌ عند الاثنين من قبل، كأنّه المصير المعروف لكليهما سلفًا عندما دخل كلاهما إلى عالَم المدينة الأكثر تعقيدًا والأكثر سحرًا وقدرة على تحويل الكائنات.
وبالطبع، فإن نتيجة التحول التي أحدثها فعل اكتشاف التحول، تشبه أفعال اللاعودة التي لا يمكن أن تتراجع أو تعود القهقرى، كما لو كانت النداهة قد أصدرت صوتها العذب الساحر فجذب الصوت الواقعين في دائرة سحره، فاندفعوا إلى المصير المحتوم من قبل أن يصلوا إلى المدينة التي تقلبهم أو تنقلهم من حالٍ إلى حال، أو تُخرجهم من صورةٍ إلى صورةٍ كما تقول الحكايات التي تمتلئ بتحوّل الكائنات.
اللجوء إلى الرمزية
من المؤكد أن الاستخدام الدلالي للجنس في قصة يوسف إدريس «النداهة»، هو كغيره من الاستخدامات الرمزية التي تتعرّض لمناطق يصعب فيها الكلام المباشر؛ إمّا لأسباب اجتماعية أو سياسية أو دينية، ففي هذه المجالات تتحول الدوالّ المباشرة إلى دوال تتعالق وتترابط في علاقات تؤدي معنى غير المعنى المُباشر، فتنطق المسكوت عنه من الكلام الاجتماعي أو السياسي أو الديني، حيث يحدد المجتمع حدود المُباح وغير المُباح من دوال الكلام.
ولهذا فإن اللجوء إلى الرمزية في مثل هذه الأوضاع أو المواقف ليس نوعًا من الترف، وإنّما هو نوع من الحتمية التي تفرضها الأوضاع الاجتماعية والسياسية والدينية التي تحدد المناطق الفاصلة بين المنطوق به والمسكوت عنه من الكلام.
ولذلك فنحن - في المنطقة التي تبدأ من قصص من عيّنة «النداهة» - إزاء دوالٍ مُغايرةٍ يقود ظاهرها إلى باطنها، ومعناها المباشر إلى معنى غير مباشر. وليس ذلك على سبيل الرفاهية اللغوية، بل على سبيل الحتم اللغوي الذي لا يمكن النطق المباشر فيه بالمحرمات التي يتواضع عليها المجتمع في لحظةٍ من لحظاته، ولأسبابٍ خاصةٍ بأوضاع هذا المجتمع في هذا المجال أو غيره أو في هذه اللحظة الزمنية أو غيرها من اللحظات. فالمسكوت عنه دائمًا هو ضرورةٌ مفروضةٌ للغة الخطاب الاجتماعي التي تفرض الإشارة غير المباشرة، أو الرمز الذي قد يكون استعارة أو كناية أو ما هو غير ذلك من أدوات ما أُسمّيه بــ «بلاغة المقموعين»، وهي اللغة التي يلجأ إليها الكاتب حين يعجز عن التعبير المباشر البسيط والصريح، فيُضطر إلى تعديل علاقات اللغة؛ لخلق لغةٍ أخرى تنطق المسكوت عنه من الكلام غير المباح اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو دينيًّا.
رغبة مفاجئة
يدخل بنا ذلك إلى دائرة المُحرَّم اجتماعيًّا، خصوصًا على مستوى الممارسات الإنسانية التي يُقرّها أو لا يُقرها ويرفضها المجتمع أو تستنكرها الجماعة، وهذا ما يمكن أن نراه في العلاقة التي تربط ما بين قصتي: «حادثة شرف» و«السِّتارة»، فالأولى تُحاول الوقوف على ما يمكن أن يُصيب فتاة بريئة مثل فاطمة عندما يُشاع أنهم وجدوها في «الدُّرَة» مع شاب من العِزبة يُدعَى غريب. وفاطمة أخت فرج، وغريب ابن عبدون، والحكاية ليست تائهة، فالعزبة صغيرة موجودة في الأرياف والناس فيها عائلة واحدة، لا يعرفون بعضهم البعض معرفة دقيقة فقط، ولكن كل واحدٍ يعرف عن الآخر أدقّ دقائقه وأخصّ أموره، حتى النقود القليلة التي قد يكتنزها أحدهم، يعرفون مكانها بالضبط وعددها والطريقة التي تُسرق بها، ولكن لا يسرقُ أحدٌ منهم أحدًا.
وفاطمة معروفة، وكانت تُثير الرجال، أو على وجه الدقة، تُثير الرجولة في الرجال، وكأنّما خُلقت لذلك، حتى الأطفال كانت تثير الرجولة الكامنة فيهم، فكانوا إذا رأوها قادمة من بعيد أحسّوا برغبةٍ مُفاجئةٍ في تعرية أنفسهم أمامها.
وفاطمة «كانت ترتدي نفس ما ترتديه البنات، وتتكحل كما يفعلنْ وتمضغ اللبان كما يمضغن، ولم يلمحها أحد في موقفٍ مُريب، ولا ضُبطت مرة مُتلبِّسة بخطأ، وحتى حين ادعت زوجة أخيها فرج أن السبب في احمرار وجنتيها أنها تحُكُّمها بالورق الأحمر الذي تُصنع منه صناديق الدخان الفرط، بلَّل فرج عمامته يومها بلعابه وظل يدعك وجنتَي فاطمة حتى كاد يُدميَهما، ولم تحمر العمامة ولا حدث لها شيء، ولم يفعل شيئًا يومها أكثر من أن صوَّب إليها نظراته المحمومة المملوءة بالشك وراح يُعنِّفها ويزجرها، وفاطمة لا تعرف سببًا لنظراته تلك، فهي تعرف العيب تمامًا، وطالما حدثًّها فرج عنه وعنَّفها، وهي لا تفعل العيب، وليس في نيّتها أن تفعله، بل هي تُفضِّل الموت على فعله، كل ما في الأمر أنها كانت تُحس بالناس يدللونها ويحبُّونها، فكانت تفعل كما يفعل أيّ محبوبٍ، تتصرف بحريّةٍ وبساطةٍ وبلا تعقيدٍ، إذا أرادت أن تبتسم ابتسمت، وإذا ابتسمت كان هذا عن رغبةٍ حقيقيةٍ في الابتسام، وإذا أرادت أن تضحك ضحكت، وخرج ضحكها بريئًا نابعًا من القلب، وكانت تعرف أن الناس يحبون جمالها، فكانت تحرص على هذا الجمال».
حظ عاثر
لكن في يوم من الأيام أوقعها الحظ العاثر مع غريب وفي مواجهته في «الدُّرَة»، وقد قابلته مصادفة، ففزعت وصرخت وجذبت إليهما الصرخة العشرات من أبناء القرية الذين يعرفونها ويعرفونه على السواء. وكاد الأمر يمضي بسلامٍ، لكن أهل القرية كانوا يخافون عليها من العيب، لكنهم في الوقت نفسه كانوا لا يصدقون أن أنثى جميلة مثلها يمكن أن توجد ولا ترتكب العيب، بل إنهم من كثرة خوفهم عليها حددوا الشخص الذي يمكنه أن يرتكب العيب معها... وهو غريب بالذات.
وغريب (ابن عبدون)، كان رجلًا عصبي المزاج، سريع الاستثارة، ميّالًا إلى المغاضبة والعراك في كل الأحوال، ولذلك كان رجال العزبة لا يرتاحون إليه وكذلك نساؤها. فقد كان ولدًا قليل الأدب، فارغ العين... وسبب ضيق الناس به أنه كان يغوى النساء، والأدهى من هذا أنه كان ينجح في الإيقاع بهن... وفي هذا لم يكن يحترم جارًا ولا زوجة خال. يعمل كثيرًا بالنهار، فإذا جاء الليل لا يحتمل المبيت في دارهم ويؤثر النوم فوق كومة تبن الوسيّة العالية، حيث يدفن نفسه، وتمرّ الأيام دون أن يحدث شيء، فغريب أكثر الذكور ذكورة، وفاطمة أكثر النساء أنوثة، وكان لا بدّ أن تجمعهما مُصادفة ما. وبدل أن يُحسن أهل القرية الظن بهما أو يحسنوا الظن خصوصًا بفاطمة، فإنهم يُسارعون مع أوّل ظن إلى اتهامها عند لقائها المفزع مع غريب، الذي لم يصدر فيه منها سوى صرخة خوفٍ عاليةٍ من وقع الصدمة، أحدثت ضجة، تجمَّع على إثرها موكب من أهل القرية. وكانت الأذهان كلها مُعبَّأة ومُتوقّعة أن يحدث شيء بينهما على أساسٍ من الاعتقاد بأنه إذا انفرد رجل - أيّ رجل - بفاطمة فـ «عليه العوض» فيها، فما بالك والذي انفرد بها غريب؟! وهنا تبدأ الشكوك والاتهامات التي لا أساس لها من الواقع... ويصبح السؤال المطروح: هل انتهى كل شيء بينهما دون خسائر؟! ولكن أين السبيل إلى التأكد من ذلك؟! وغريب مُتهم أصلًا في أذهان أهل العزبة، وهو اتهامٌ ينسحب منه إلى فاطمة التي لم يسبق لها أن تعرّضت لمثل هذا الموقف، لكن جمالها بدل أن يشفع لها، فإنه قد أصبح علامة على أنها قد وقعت في شِبَاك غريب.
براءة مشوّهة
مع الأسف استبدل أهل العزبة بحُسن الظن سوء الظن، وداخت فاطمة من نظرات الاتهام إليها وأغمي عليها، وجميع أهل القرية يناقشون أعز خصوصيتها وهي الأنثى، الملكة، الحلوة، يناقشونه عيانًا بيانًا وعلى مرأى ومسمعٍ من أخيها وأهلها. وأخيرًا ينتهي بهم البحث والنقاش إلى ضرورة الكشف عن عُذريتها. وتتشكّل لجنة برئاسة الست أم جورج لفعل ذلك، وهذا هو ما حدث بالفعل، ويكتشف الجميع براءة فاطمة، ومن ثم براءة غريب من الاعتداء عليها. ولكن ما الذي يٌقنع بالبراءة في هذا الجو الذي تتحول فيه الشائعة إلى حقيقة، والذي يصبح فيه الجمال مظنة للوقوع في الإثم؟! ويبدو الأمر وكأن جمال فاطمة وروحها المرح العذبة قد أصبحا من الكبائر التي تُحسب عليها لا لها. وتترك فاطمة جسدها خلال فعل الاختبار للآخرين، يُقلبونه كيف شاءوا، وتبقى مُتخشِّبة مثل حيوان بليدٍ، أو مثل خروف الضحية، لا تبتسم وتكاد لا تتحرك فيما يقول الراوي. وكانت إذا تحدثت خرج حديثها ذليلًا فَقَد كبرياءه وحلاوته والأنوثة التي تقطر منه.
وتمرُّ الأحداث وتبهت ذكرى ذلك الاختبار البشع في ذاكرة الجميع، وحتى فاطمة لا تبقى حبيسة البيت، خصوصًا بعد أن تباعد العهد بالحادثة، فتُعاوِد الخروج ويعود كل شيءٍ فيها إلى فتنة العقول والقلوب «ولكن الناس كانوا يَعجبون... فلا بدّ أن فاطمة قد اكتسبت شيئًا جديدًا ولم يكن لها، أو أنها قد فقدت شيئًا أصيلًا كان لها... الشيء الذي كان يلوِّن وقفتها ومشيتها وضحكتها، الشيء الذي يجعلها تبدو مِلكًا للجميع، تحب الجميع ويحبها الجميع. الشيء الذي يُكسبها شفافية ونقاءً، والذي يجعلك تحس إذا ابتسمت أنها حقيقة تبتسم، وإذا غضبت أنها حقيقة غاضبة. كانت قد فَقَدت براءتها، وأصبحت تستطيع أن تنظر دون أن تنظر، وتضحك دون أن تريد، وتريد الشيء وتخفي رغبتها فيه. وأصبحت تستطيع إذا ما لمحها فرج خارجة ذات يومٍ من دار صابحة الماشطة، وأخذها إلى بيته، وأغلق عليها باب القاعة وأمسكها من ضفائرها وشدَّد عليها وسألها عمّا كانت تفعله عند صابحة... أصبحت تستطيع إذا ما حدث هذا أن تقول: «بَقيس التُّوب... اوْعَ كِده». وتجذب نفسها وضفائرها من قبضته بعنفٍ غريبٍ، وتقف في الركن تعيد نظام شعرها وتواجهه بعيونٍ مشرعةٍ حلوةٍ، لا تنخفضُ ولا تخجل».
هكذا تحوَّلت فاطمة وانقلبت من فتاةٍ بالغة البراءة إلى فتاةٍ تعرف التمثيل ولا تنطق ما يدور حقًّا في خلدها، وقادرة على مواجهة الناس جميعًا، حتى ذلك الفتى غريب لم تعد تخاف منه، بل أصبحت تواجهه في قِحَة ومن دون حياء، ولا يعني ذلك سوى أن فاطمة قد انقلبت حالها وأنها تحوَّلت من النقيض إلى النقيض، ولم يكن لها ذنب في هذا التحول، فالتحول قد حدث بسبب أهل القرية، أقصد إلى هذه المجموعة البشرية المُحيطة بالفرد، والتي حددت له معيارًا من القيم، أسهمت في قيادته إلى مصيرٍ محتوم.
نتيجة سلبية
وهكذا انقلبت فاطمة البريئة إلى فاطمة الفاقدة البراءة، ولم يكن ذلك بسبب انطوت عليه، وإنما بسبب ما ظنها عليه أهل القرية وما رموها به. وإذا سألنا أنفسنا: مَن المُذنب في نتيجة «حادثة شرف» هذه؟ لقُلنا: إن المذنب - بلا جدال - هُم أهل القرية الذين أساءوا الظن بفاطمة فور أن سمعوا أنها كانت في موقف من المواقف التي تحتمل الوجهين، ففضَّلوا الوجه السلبي على الوجه الإيجابي، ونسوا التاريخ البريء الذي استبدلوا به تاريخًا غير بريء لهذه الفتاة التي غيَّرت الحادثة حياتها كلها.
ولكن مثل هذه النظرة لا تحدث في القرية فحسب، فهي يمكن أن تحدث في المدينة أيضًا فما دامت المجموعة البشرية المُحيطة بالفرد تضع مجموعة من الأعراف الجامدة والمفاهيم المُتصلبة لمفاهيم الفضيلة والعفّة والشرف، فإن النتيجة لا بدّ أن تكون سلبية، بل يصل الأمر إلى أن تنقلب أحوال الأبرياء والطيبين إلى أحوال مُناقِضة. وهذا هو المغزى الأساسي من قصة «السِّتارة» التي تأخذ (كناية) موسَّعة عن امرأةٍ مدينيةٍ هي صورة أخرى من صور فاطمة. وشبيهة فاطمة هذه المرة اسمها سنسن متزوجة من بهيج، وكانا يسكنان في إحدى العمارات التي تطل «بلكونتها الكبيرة - عبر الشارع - على شقة مواجهة لبيتهما». وفي يوم من الأيام يكتشف الزوج بهيج أن النافذة المُطلة على شقتهما يتطلعُ منها شابٌ أعزب مُوجِّهًا ناظِرَيهِ إلى شقتهما، باحثًا فيها عمّا يمكن أن يجذب انتباه شاب في مثل عمره. فتأخذ الظنون بعقل بهيج وتنتابه الشكوك ويصبح ذلك الجار الأعزب الجديد مشكلة. ويتفتق ذهن بهيج عن تركيب (ستارة) تحول بين عيني هذا الجار وشقته، أو بالأحرى زوجه سنسن. وبالفعل يسرع في تركيب الستارة لتكون ساترة لما قد يستحق السّتر في شقته هو. وقد نبَّه بهيج على زوجه سنسن مرة أو مرتين بأن تراعي إقفالها باستمرار، ويصل الأمر إلى حد العراك بين الزوجين حول الستارة.
ورغم أن زوجه لم تنتبه إلى وجود الستارة التي سببت له أرق انكشافها على غريب، إلّا أن قلق الزوج نفسه وعراكه معها حول الستارة قد لفت انتباهها، فدفعها الفضول إلى أن تنظر نحو الشقة المجاورة لهما باحثة عن الجار الجديد الذي كلَّمها زوجها عنه، وترى كيف تطل الوقاحة من نظراته كما قال الزوج.
ثنائية الستارة والبلكونة
في المقابل، فإن الجار الأعزب نفسه أخذت الستارة تلفت انتباهه منذ اليوم الأول الذي لاحظ فيه وجودها فوق سور البلكونة، ربما لغرابة المنظر، أو لأنّ خياله قد أخذ يحلم ويتصور بنساء يختبئن وراء هذه الستارة. ولم تنتهِ ثنائية الستارة والبلكونة المُطلة عليها، بل أخذت تجذب فضول الجار الأعزب واستمرت الستارة بعد ذلك - فيما يذكر القاص - لتؤدي عملها مع اختلافٍ بسيط: «إذ كانت تستخدم لتحول بين بهيج وبين رؤية الشاب الأعزب إذا كان موجودًا في البيت، ولتحول بينه وبين رؤية الواقفة تحتمى بها لتستطيع أن ترى الشاب ويراها دون أن يلحظهما أحد، وبالذات بهيج. وفى أحيان كان بهيج يتطلع من الشارع ليطمئنَ على أن الستارة مُعلَّقة ومُسدلة، ودائمًا كان يجدها كذلك، وإذا تصادف ووجدها تختلج كان حينئذ يهزّ رأسه ويبتسم ويقول: الهوا... لا بدّ أنه الهوا... لعنة الله عليه».
هكذا وضع الزوج الهواء موضع الاتهام، ولم يدرِ أنه هو الذي تسبب في وجود الستارة نفسها، بل إنه قد تسبب في اهتمام زوجه بجارهما الأعزب، واهتمام ذلك الجار الأعزب بزوجه في الوقت نفسه. والدلالة الأخيرة لهذه الكناية تتجاوب مع الدلالة السابقة عليها في قصة «حادثة شرف».
والمرأة في «حادثة شرف» هي الوجه الآخر من سنسن في «الستارة»، ولا فارق بين الاثنتين إلا أن واحدة منهما في المدينة والأخرى في القرية، لكنّ وجه الشبه الذي يربط بين البطلتين في القصتين هو ما يقع على المرأة من ظلمٍ بسبب الأعراف المجتمعية التي تُسيء الظن دائمًا بالمرأة، وتنظر إليها نظرة الريبة باستمرار، وكأنها هي الكائن الأضعف الواقع دائمًا في الإثم بحُكم ما خُلق عليه، وبحُكم هشاشة تكوينه وقابليته للانحراف. وهذه النقطة بالذات هي التي تَردُّنا إلى «النداهة» وتخلط ما بين الدين الرسمي والدين الشعبي من حيث التفسيرات السلفية التي تلصق الشر بالمرأة دائمًا، وتجعل المرأة مصدرًا للغواية.
وسواء أكانت الغواية من الداخل أم من الخارج، فارتباط المرأة بالغواية واقع كارتباطها بالشرّ، وهو معتقد تنشره الأوساط الرجعية في تفسير الدين الإسلامي، خصوصًا عندما تستخدم بعض المأثورات الشعبية لهذا الدين في تصوير المرأة على أنها حليفة الشيطان في غواية البشر. وقد سبق أن تحدثتُ عن ذلك في كتابي «نقد ثقافة التخلف» (اضطهاد الأنثى، من ص 47 إلى 69) ■
ماجدة وإيهاب نافع في لقطة من فيلم النداهة
... ورواية حادثة شرف التي تحولت إلى فيلم بنفس الاسم