المدينة بين التاريخ والأدب
ثمّة ميل لدى الباحثين في المدينة يتمثّل بالعودة إلى التاريخ، وذلك للاعتقاد بأن الماضي يفسّر جانبًا من الحاضر، أو أنّ للمدينة هويةً يفرضها التاريخ كما تفرضها الجغرافيا.
هو أمر ناجم عن رواج البحث عن الهوية. يُضاف إلى ذلك أننا حين نتحدث عن المدن الناطقة بالعربية أو الفارسية أو التركية، أو غيرها، فسرعان ما يحضر مصطلح «المدينة الإسلامية»، وهو نموذج يفترض مجموعة من الخصائص ينطلق منها الباحث من دون عناء، وبينما استُخدم هذا المصطلح من جانب المدرسة الفرنسية خاصة، لينزع عمّا يسميه «المدينة الإسلامية» أي نظام أو عقلانية، فإنّ بعض الباحثين المسلمين أمسكوا بهذا المصطلح ورأوا في المدينة المسماة إسلامية انبثاقًا مباشرًا لتعاليم الشريعة والقرآن الكريم.
كل هذا الاستخدام لمصطلح المدينة الإسلامية يندرج في إطار أبحاث الهوية أكثر مما يندرج في البحث التاريخي، وفي جميع الأحوال، فإن هذا المصطلح يستبدل الآن، لدى بعض الباحثين، بالمدينة في عالَم الإسلام، الذي يسمح على أقل تقدير بالبحث عن التمايزات والخصائص والتاريخ المستقل.
ولا يمكننا أن ننكر الملامح المشتركة للمدن في عالم الإسلام، التي تتمثّل بالمسجد أو المساجد والسوق والروائح في سوق للعطارين.
وهناك ملامح حضارية عمرانية تتعلّق بالعادات والسلوك سنجدها في العوالم الصينية والهندية والأوربية، إلا أن هذا لا ينفي أن لكل مدينة شخصيتها، فالقاهرة ليست فاس ولا حلب، فثمّة المؤثرات المتراكمة عبر الزمن، إن تعلّق الأمر بأنماط العمارة أو في العادات الحرفية والصناعية أو في التنوّع السكاني، وحين يتعلّق الأمر بالتاريخ فيجدر بالباحث أن يميّز بين التأثيرات التركية في حلب والمملوكية في القاهرة والأندلسية في فاس.
ومن حيث المنهجية، فإن الخوض في تاريخ المدينة يعني الخوض في المدد الطويلة، فالمدن عبارة عن تراكمات طويلة المدى في العمران والثقافة والتقاليد.
لقد تعززت دراسة تاريخ المدينة بفضل استخدام الوثائق، وخصوصًا الشرعية التي هي وثائق مدينية بالدرجة الأولى، وهذا يعني أننا نُشير إلى الحقبة العثمانية منذ القرن السادس عشر، وهناك أيضًا الوثائق العثمانية الرسمية، وكذلك الوثائق القنصلية الأوربية، التي تعد مثالًا على استخدام الوثائق على أنواعها، ودراسة روبير مانتران عن إسطنبول.
تقديس العقلانية
استخدم عبدالكريم رافق في سورية وثائق محاكم حلب ودمشـــق وغزة، وقدّم أندريـــه ريمون دراسة رائدة عن الحرفيين والتجار بالقاهرة في القرن السابع عشر من خلال استخدام وثائق المحكمة الشرعية، وهناك سعيٌ لجمع وتصنيف الوثائق في العديد من البلدان العربية.
وقد فرضت الدراسات السوسيولوجية على المؤرخين الأخذ في الاعتبار ما يعرضه علم الاجتماع من أسئلة بخصوص المدينة.
وكان لدراسة ماكس فيبر، الصغيرة الحجم، أثرها الكبير في هذا المجال، إذ إن هذه الدراسة تستعرض أنماط المدن في الحضارات السابقة، ليقرر بالنتيجة أن «الجماعة المدينية» لم تقم إلّا في الغرب.
ولكي تكون الحاضرة «جماعة مدينية» لا بدّ من توافر شروط عدّة: التحصين والسوق والمحكمة والطبيعة التعاقدية، والاستقلال الداخلي للمدينة، ولو جزئيًا، أي توافر إدارة يقوم عليها موظفون أسهم في تعيينهم سكان المدينة.
ويفسّر فيبر فكرته بالأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، إذ يقول: الغرب وحده عرف اكتمال الظواهر والتنظيم العقلاني. يمكننا أن نرجع كلام فيبر إلى فترة عرف فيها الغرب تقديس العقلانية والبحث عن القوانين الصلبة النهائية، وهي أمور أصبحت موضع شكّ كبير، لكنّ دراسة فيبر شكلّت تحديًا للمؤرخين الذين أعادوا قراءة المدينة على ضوء الطبقات والفئات وأصحاب النفوذ، كما فعل لابيدوس في كتابه «مدن الشام في العصر المملوكي».
علم اجتماع المدينة
مع تطوّر علم الاجتماع، أصبحت المدينة أحد الموضوعات التي يتناولها الرواد، وأذكر هنا جورج زيمل الذي تناول في دراساته موقع الفرد في المدينة، ولعب زيمل دورًا في بروز مدرسة شيكاغو التي اهتمت بالمدينة، وأسست ما عُرف باسم «علم الاجتماع الحضري»، أو «علم اجتماع المدينة».
وقد أُسست هذه المدرسة لدوافع عملية إثر النمو المتسارع للمدن الأمريكية بفعل الهجرة التي نجمت عنها صعوبات في الاندماج وازدياد الجماعات الفقيرة، وازدياد معدلات الجريمة... إلى آخره، إضافة إلى مشكلات التفاوت الثقافي.
وكان لمدرسة شيكاغو الحضرية أثرها في المجتمعات التي عرفت نموًا متسارعًا بفعل الهجرة من الأرياف إلى المدينة. واتساع نطاق مناطق الفقر في الضواحي، أو ما يُعرف باسم «العشوائيات».
إن مسائل الاندماج والتفاوت في طرائق العيش، بما في ذلك ما يحمله الريفيون من عادات وتقاليد إلى المدينة تفسح المجال أمام الباحثين الأنثروبولوجيين لدراسة الحياة اليومية والعادات وتأثير الماضي في الحاضر، وغير ذلك من الموضوعات.
ولا شك في أن هذا الحقل من الدراسات ما زال في بداياته، رغم أنه يحمل إمكانات واسعة، فالأنثربولوجيا العربية ما زالت مشغولة بدراسة العشيرة والمقدس والطقوس، ولم تنتقل إلى الفضاء المديني وتعقيداته.
ويحفل التراث الأدبي العربي بالحديث عن المدن، من كتب التاريخ إلى كتب الجغرافيا، إلى المقامات وكتب الرحلات، ومن الممتع جدًا أن نقرأ تلك الأوصاف التي تقدّم عن مدن واقعية أو مدن متخيّلة وأسطورية.
كان الكلام عن المدن يغري بأسلوب السجع والجمل الاسمية القصيرة. كذلك فإن المدن كلما كانت بعيدة أغرت بالحديث عن العجيب والغريب، وألف ليلة وليلة مثال غنيّ وشيّق لتعدّد الأساليب الإنشائية فيما يتعلق بالمدينة.
المدينة والخيال الشعري
إن الأدب العربي الحديث شعرًا ونثرًا قد أدخل المدينة في موضوعاته، وقد بعث الشعراء أمجاد دمشق وبغداد والقدس، كما استخدموا الأساطير القديمة التي تتحدث عن المدن، مثل إرَم وثمود.
كذلك، فإنّ المدينة الحديثة كانت مجالًا لخيال شعري، مثال على ذلك بدر شاكر السيّاب في قصيدته الشهيرة: «أنشودة المطر»:
وتلتفُّ حولي دروب المدينة
حبالًا من الطيف يمضغن قلبي
وأعطى الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي لديوانه الأول عنوان «مدينة بلا قلب»، وكان ذلك في خمسينيات القرن العشرين، حين وفد الشعراء من أريافهم لتصدمهم المدينة التي كانت آنذاك، في كل البلاد العربية، تشهد أكثر فترات التحديث حماسة.
إن الحيّز الذي تمثّله المدينة في الأدب العربي واسع جدًا، فالجيل الأول مــن الأدباء الذي ينتمي إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين عبّر عن دهشته من المدينة الأوربية، وهذا ما نجده لدى طه حسين وتوفيق الحكيم، وأشير هنا إلى جيل أسبق من المهاجرين إلى أمريكا الذين عبّروا عن دهشتهم من المدينة وعمرانها.
إلّا أن الجيل اللاحق من الأدباء في الخمسينيات والستينيات غاصوا في مدنهم التي يعيشون فيها، أذكر نجيب محفوظ الذي هو روائي المدينة في كل أعماله من «الثلاثية» إلى «زقاق المدق» و«السمان والخريف»، وسهيل إدريس الذي كتب أولًا عن «الحي اللاتيني» في باريس، ثم عن «الخندق الغميق»، وهو حي من أحياء مدينة بيروت.
أضيف إلى ذلك رواية اللبناني توفيق يوسف عواد «طواحين بيروت»، وكتبت غادة السمان «لا بحر في بيروت»، وجعل زكريا تامر عنوان إحدى مجموعاته القصصية «دمشق الحدائق»، وهذه أمثلة مبكرة نسبيًا بالنسبة لعشرات الأدباء في السبعينيات وما بعدها الذين جعلوا المدينة مسرحًا لرواياتهم.
الرواية ابنة المدينة
يُقال إن الرواية هي ابنة المدينة، وينطبق هذا القول على الرواية العربية المعاصرة، لكن من الوجهة المنهجية يمكن أن نميّز بين المدينة الواقعية المعاشة وبين المدينة المتخيّلة والتاريخية عند الروائيين.
ويمكن أن ننظر لبعض الأعمال الروائية من زاوية جدلية العلاقة بين الريف والمدينة.
لقد احتلت المدن عناوين الروايات: مثل «القاهرة الجديدة» لنجيـــب محفـــوظ، أو «لا أحد ينام فـــي الإسكندريــة» لإبراهيم عبدالحميـــد، أو «بيروت مدينة العالم» لربيع جابر أو غير ذلك.
تدخلنا الرواية في الحياة اليومية للمدينــة، المقهى والفندق والشارع والصحيفة والحارة... إلخ، والمبنى المتعدد السكان مثل «بناية ماتيلد» لحسن داوود، و«عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني. وكتب عبدالرحمن منيف «سيرة مدينة» يروي فيها ذكريات طفولته في مدينة عمان.
إن الانتشار الواسع للرواية العربية اليوم يعود إلى أسباب عديدة سأذكر منها ثلاثة تتصل بموضوعنا:
- على عكس الدراسات الأكاديمية، تقدّم الرواية العربية في الوقت الراهن لغة أقرب إلى لغة الحديث اليومي، أنها بين الفصحى الميّسرة واللغة الدارجة، فهي لغة تجريبية، فنجد أساليب متعددة تهدف جميعها إلى لفت انتباه القارئ دون تعقيد، فالقارئ بالعربية يجد اليوم صعوبة في قراءة «الأيام» لطه حسين، مقارنة مع الروايات التي لا تتميز فقط بلغتها السلسة، بل بمحاولتها الدخول إلى اللغة الحميمية، وبشكل عام فإنها تتوجه إلى الفرد لا إلى وجدان جماعي، وتخلو من الموعظة والحكمة.
الرواية وسيرة التحديث
لهذا، فإن الرواية تستقطب جمهورًا واسعًا من القرّاء، بل توسّع دائرة القرّاء باستقطاب أولئك الذين يُعرضون عن قراءة الكتب السياسية أو الأكاديمية أو العلمية.
وبشكل غير مقصود، فإنّ الرواية تعالج موضوعات اجتماعية وسياسية ونفسية وتاريخية، يقصّر البحث الاجتماعي في هذه المجالات عن الخوض فيها، مثل الاندماج في حياة المدينة المعقّدة والعلاقات بين الجنسين والتفاوت الاجتماعي... إلخ.
ويمكن أن يكون ذلك ناجمًا عن كون كتّاب الرواية يأتون من اختصاصات منوعة؛ بينهم الطبيب والحقوقي والصحفي، ويعكسون تجارب متعددة ويمزجون بين الخيال والواقع.
وتدخل الرواية في صميم المشكلات الناجمة عن الحداثة، إذ إن التحديث المتسارع تنتج عنه مشكلات تنعكس على الفرد كما تنعكس على المجتمعات.
إن سيرة الرواية هي سيرة التحديث، بل إن بعض الروائيين يستعيد تجربة التحديث بالعودة إلى فترات من الماضي القريب في بدايات القرن العشرين، أو بين الحربين، وكذلك التجارب السياسية التي تركت آثارًا على المجتمعات في العراق أو مصر.
إن الروائيين الذين هم في الأغلب خريجون جامعيون يعيشون في المدن أو اضطرتهم الدراسة إلى الهجرة للمدينة، يقدّمون لنا الآن محاولات عن بيئات لم يمسّها التحديث في اليمن أو السودان، أو يعرضون لنا أحوال التحديث المتعثّرة والمشوهة في قلب المدينة أو في أطرافها الفقيرة والمعدمة ■
نجيب محفوظ هو روائي المدينة في كل أعماله من «الثلاثية» إلى «زقاق المدق» و«السمان والخريف»