خريطة مبسّطة عن متاهة الخيارات الاستراتيجية الأمريكية الكبرى

خريطة مبسّطة عن متاهة الخيارات الاستراتيجية الأمريكية الكبرى

الأرجح أن ثمّة مدارس أو تــوجهات استراتيجية كبرى في المؤسســــة السياسية الأمريكية، لكنّها ليست توجهات ولا مدارس بالمعنى المألوف سياسيًا. بالأحـــرى، إنّهــــا خطوط عريضة في التفكير الاستراتيجي الأمريكي، وقد لا ينتمــي أي فاعل سياسي أمريكي إلى أيّ منها بوضوح أو بشكل حاسم، بل ربما تنقل بين الخطوط أو جمع بعض أطراف وأطياف منها في ممارستـــــه السياسية. ولا ينفي ذلك أهمية وضع تلك الخطوط ضمن ما يشبه مسودة عن خريطة، مما يجعل معرفة تلك الخطوط نافعة، من دون أن تكون قيودًا ولا حدودًا ولا تعريفات قاطعة.

المأمول أنه يفضّل عدم تضييع الخيط الاستراتيجي أثناء متابعة الحدث الأمريكي المتصاعد منذ الانتخابات الرئاسية 2020. قبل كل شيء، يجدر التنبّه إلى أن أمريكا 2021 تبدو كأنها في انتقال نوعي كي تكون شيئًا مختلفًا في العمق (لنقل إنه تغيير في كينونتها) عن «المألوف» عنها في الأقل بالأزمنة الحديثة، ولنقل إنه تغيير في كينونة تلك «الإمبراطورية» الفريدة.
وعلى الرغم من أن ذلك المتغيّر يظهر أساسًا في الداخل، فإن الفارق بين الداخل والخارج قد لا يستمر طويلًا في الدولة العظمى الوحيدة حتى الآن، بل ربما أنه غير واضح أصلًا. وقد انصبّ أول نقد وجهه الحزب الجمهوري إلى القرارات الأولى التي اتخذها الرئيس الحالي جو بايدن، على العودة إلى «منظمة الصحة العالمية»، وهي مؤسسات النظام العالمي الذي تولّت أمريكا إرساءه وإدارته، أقلّه منذ الحرب العالمية الأولى، وكذلك الأمر بالنسبة إلى «اتفاق باريس 2015 للمناخ»، مع ما يعنيه من علاقات مع أوربا والــدول الكبرى عالميًا. 
لعل الأوضح من ذلك أن الخطاب الأول لبايدن، عقب ترسيمه رئيسًا، ركّز على عودة أمريكا إلى قيادة العالم، مما يذكّر بانتقادات وجّهت لإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بإبعاد نفسها عن قيادة العالم، أو بالأحرى التخلي عن تلك القيادة. الأرجح أن العالم الحديث لا يستطيع أن يفكر في نفسه من دون الولايات المتحدة، والعكس صحيح أيضًا.

مدارس استراتيجية
لعلّه من المفيد عرض ما يمكن تسميته بالمدارس أو التوجّهات الاستراتيجية تذكر أنها ليست أيديولوجيات، رغم أن بعض مفكريها يسير وفق خطوط أيديولوجية حادة كـ «المحافظين الجدد» الذين برزوا على نحو متدرّج منذ رئاسة رونالد ريغان، لكنّهم أمسكوا بزمام الأمور مع رئاسة جورج دبليو بوش (الابن)، ثم عملوا مع ترامب، لكنّهم اصطدموا معه، آخذين عليه السير في انعزالية على النمط الأمريكي!
وربما يجدر التنبه إلى أن التوجهات أو الخطوط الاستراتيجية التي ستعرض في المقال، ليست قائمة حصرية ولا تشكل تعريفًا نهائيًا ثابتًا بشأن هذا السياسي أو ذاك.
الأرجح أن ذلك ليس دقيقًا. بالأحرى، يتعلّق الأمر بخطوط عريضة تصلح أن تكون «خربشة» عن خريطة تفيد في إلقاء بعض الإضاءات على الخيارات الاستراتيجية الكبرى في أمريكا. ويعني ذلك أن المسار الفعلي للأمور أشد تعقيدًا بكثير، حتى من وصف فاعل سياسي عبر «خلطة» ما من تلك الخطوط. لنتذكّر أنها أمريكا، إنها إمبراطورية رغم أن ذلك الأمر موضع خلاف، لكنّ لسان السياسة فيها يُجمِع على «الفرادة» و«التفوق مع السيطرة»، ما يلامس بسهولة صيغة الهيمنة الإمبراطورية. وكذلك صُنِعَتْ تلك الإمبراطورية في ظل مشروع الحداثة الغربي الضخم ومساراته المتشابكة، إضافة إلى أنها ترافقت من ثورات صناعية وعلمية يرجّح أننا نعيش في مسار الثورة الرابعة منها.  من المستطاع القول بوجود أربعة توجهات أو ترسيمات كبرى، في الخيارات الاستراتيجية الأمريكية. وترتسم الحدود المتداخلة بينها وفق نقاط رئيسة. 

أولًا: الويلسونية العالمية
لعلها الأشهر والأكثر تداولًا، ولعلها الوحيدة التي يمكن نسبتها بوضوح إلى رئيس أمريكي بعينه، هو وودرو ويلسون، الذي قاد دخول أمريكا إلى الحرب العالمية الأولى، وقد شكّلت عنصرًا أساسيًا في حسمها. 
وقد تفرّد ويلسون بأنه الرئيس الذي دعا إلى وضع نظام عالمي، بالأحرى وضع مؤسسات تدير العلاقات والنزاعات بين الدول كلها. إلى حد كبير، بدا ذلك كأنه تحقيق لحلم المفكر الشهير إيمانويل كانط في كتابه «نحو سلام دائم»، لذا يجري الحديث عن الويلسونية متسربلًا دومًا بأنها توجّه مثالي.
 ويزيد في صورة المثالية أن المؤسسة التي اقترحها ويلسون لإدارة العالم تمثّلت في «عصبة الأمم»، التي شكّلت مؤسسة أولى من نوعها تاريخيًا.
 ولقد انهارت سريعًا، بالترافق مع انهيار السلام الهشّ وغير المستقر الذي صنعه منتصرو الحرب الأولى الذين سرعان ما انخرطوا في الحرب العالمية الثانية التي فاقت «الأولى» هولًا وضخامة، واستُعمل فيها السلاح النووي للمرّة الأولى (والوحيدة حتى الآن، لنأمل أن تبقى كذلك)، وصار سقفًا للردع الاستراتيجي عالميًا. ويبقى أن الويلسونية يُشار إليها أيضًا بالمدرسة الليبرالية العالمية، بمعنى أنها التوجّه الذي يرى أن المدى الاستراتيجي الأمريكي (وكذلك بوصفها قائدة الدول الديمقراطية)، يتحقق أساسًا عبر نشر النموذج الليبرالي الديمقراطي عالميًا، ويكون ذلك دعامة للسلام العالمي أيضًا.
 والأهم أنها ترى تثبيت السلام والديمقراطية عبر عمل أمريكا عالميًا استنادها إلى مؤسسات النظام العالمي. وتصلح الليبرالية العالمية (الويلسونية) نقطة استرشاد في رسم الحدود بين التوجهات الأربعة، مع التذكير بأنها حدود متداخلة، وتؤثر فيها عوامل لا حصر لها. ممن يُنسبون إلى الليبرالية العالمية، من دون أن يعني ذلك أنهم يوافقون على تلك النسبة، يبرز الرئيسان الديمقراطيان بيل كلينتون وباراك أوباما.

ثانيًا: الليبرالية العالمية المحافظة
من المفارقة أن يكون «المحافظون الجدد» الذين ضمت صفوف مفكريهم بولتون وريتشارد بيرل (المؤثر فكريًا بأكثر من شهرته) وإليوت أبرامز ووليام كريستول وروبرت كاغان و... (بالطبع، مَن ينسى؟) صامويل هنتغنتون وغيرهم.
وتتبنى تلك المدرسة العمل الأمريكي على المستوى العالمي ونشر النموذج الليبرالي (بالأحرى، النيوليبرالي). في المقابل، إنها على طرف نقيض مع الويلسونية، في تبنيها العمل الأحادي الأمريكي (= الهيمنة الأمريكية المباشرة) عبر التدخّل الفاعل الذي يشمل العقوبات الاقتصادية والعمل العسكري المباشر وغيرها، من دون الاستناد إلى - أو بالأحرى مع تجاوز وعدم اهتمام يصل إلى الازدراء - المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة. وبالنسبة إلى هذه المدرسة، لا ضرورة للحصول على تبرير المؤسسات الدولية (حتى لو شكليًا) للتدخل الأمريكي المباشر، ويشمل ذلك الحلفاء الغربيين كحلف الأطلسي، الذين يفترض بهم أن يتّبعوا الفعل الأمريكي ويسير تحت قيادته. إنها مدرسة الأحادية والهيمنة الأمريكية، لكنها ليست انعزالية. يعتبر جورج دبليو بوش (الابن) النموذج الأوضح عن ذلك التوجه، على الرغم من أنه ابتدأ رئاسته بعيدًا عنه نسبيًا، ثم انخرط فيه كليًا مع وجود فاعلين مثل ديك تشيني ودونالد رامسفيلد.

ثالثًا: الانعزالية السيادية والهيمنة العالمية
تتشابه مع مدرسة «المحافظين الجدد» عمومًا، وهي أسبق زمنيًا عنها، لكنّها تمقت التدخل الدولي المستند إلى نشر نموذج الليبرالية في دول أخرى.
 وترتاح إلى التدخل الأحادي المباشر بالوسائل كلها، لكنها لا تؤيد التدخلات غير المجدية بمعنى تلك التي لا تخدم مباشرة المصالح الأحادية لأمريكا. 
في المقابل، ترى أن حفظ السلام العالمي واستمرارية المصالح الأمريكية عالميًا يكونان بالارتكاز إلى استراتيجية «توازن القوى» (وهو مفهوم أكثر تعقيدًا من ظاهر الكلام عنه) الذي يخدم استمرارية الهيمنة الأمريكية، وكذلك فإنها تميل إلى رؤية «توازن القوى» عبر تحالفات مباشرة لا عبر مؤسسات النظام العالمي. وكذلك فإنها لا تستثني أن تعمل أمريكا في شكل أحادي. وغنيّ عن القول إنها تمقت النزعة «الليبرالية الدولية»، بل تتصادم معها. ولعلّ المثل الأوضح على ذلك الصدام حدث في رئاسة بيل كلينتون مع «الموجة المحافظة» التي قادها السياسي البارز آنذاك نيوت غينغريتش، ومارس الناشط بات بوكانان دورًا فكريًا فيها. في تشابك لافت، تعتبر الحروب التي قادها بيل كلينتون، المحسوب على مدرسة الليبرالية الدولية، في أوربا كالحال في يوغوسلافيا وكوسوفو، مثالًا عن ذلك التوجه. ولعل ذلك أيضًا يدلّ على التشابك وتداخل الحدود بين التوجهات الاستراتيجية، وأنها ليست أيديولوجيات ورموزًا وانقسامات واضحة.

رابعًا: الواقعية السياسية
إنه توجه البراغماتية السياسية بالمعنى العميق للكلمة. يكاد ينطبق وصفه على معظم رؤساء أمريكا أثناء «الحرب الباردة»، مع ملاحظة خصوصيات تلك المرحلة التاريخية. وتتبنى بعمق استراتيجية «توازن القوى» على المستوى العالمي، إذ تعتبر مبادرة الرئيس ريتشارد نيكسون ومستشاره هنري كيسنجر تجاه الصين خلال «الحرب الباردة»، نموذجًا صافيًا عنها.  وتتعامل مع المؤسسات الدولية ضمن الهيمنة الأمريكية عليها، ولعل مَن يَصِف المؤسسات الدولية للنظام العالمي فيما بعد الحرب العالمية الثانية بأنها أدوات الهيمنة الأمريكية، يكون قد أشار إلى ذلك التوجه الاستراتيجي الواسع.
 وفي نموذج أكثر وضوحًا، يبرز الرئيس جورج وولكر بوش (الأب)، مع أركان إدارته الماهرين في الواقعية السياسية على غرار جيمس بيكر. وتعتبر «عاصفة الصحراء» وتحرير الكويت، نموذجًا عن طريقة عملها في الاستراتيجية العسكرية.
ثمة تنويعات كثيرة على تلك التوجهات الأربعة تشمل «التطرف والاعتدال» و«اليمين واليسار» و«الصقور والحمائم» وغيرها.
أين نضع الرئيس السابق ترامب؟ إنه خارج تلك التوجهات كلها، وقد تصادم معها جميعها، حتى مع المحافظين الجدد الذين يعتبرون الأقرب إليه فكريًا، الأرجح أنه يمثّل ما يوصف بـ «الجاكسونية» (نسبة إلى الرئيس أندرو جاكسون، رغم عدم دقة الأمر)، المتسمة بالمبالغة في التطرف القومي وشعار «أمريكا أولًا»، بل وأخيرًا أيضًا، والليبرالية القصوى ورفض الضرائب والتخفف إلى أقصى حدّ من المؤسسات المركزية في عمل الدولة، وعدم المبالاة بالنظام الدولي وصولًا إلى معاداته. لا شيء مهمًّا في خارج أمريكا سوى مصالحها المباشرة التي تحفظها بنفسها بشكل مباشر، عبر علاقات مباشرة مع كل دولة على حدة أساسها الخضوع إلى إملاءات المصالح الأمريكية.
 تميل تلك المدرسة إلى العسكر والإنفاق على السلاح، لكنّها لا تميل إلى الحرب، لأنها إذا انخرطت في حرب، فلا تقبل سوى بالانتصار مهما بلغت التضحيات. لعلها حضرت في ثنايا الحذر الذي أبداه كيسنجر تكرارًا حيال ترامب، خصوصًا خشيته (كيسنجر) من انزلاق ترامب في الحرب التجارية مع الصين، إلى نزاع مسلّح معها. 
ولا يمكن وصف ترامب سياسيًا من دون الحديث عن الشعبوية العالمية وما يلابسها من إسلاموفوبيا وعداء للمهاجرين وتفوّق العرق الأبيض ونظريات المؤامرة و«الاستبدال العظيم» وغيرها. وتلك الأمور تحتاج إلى نقاشات أخرى ■